أسس النظام السياسي في الإسلام (1/ 2)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

لا خلاف بين أهل السنة قاطبة بأن الإسلام دين ودولة، ومسألة وجوب الإمامة من المسائل التي تأتي على رأس سلم الإجماع بين علماء السلف والخلف وجماهير المسلمين، حتى أن الصحابة - رضوان الله عليهم - قد قدموا هذه المسألة كأهم الواجبات على دفن صاحب المعجزات..

 

 

 

 

من أبرز الأمور التي أنتجتها ثورات الربيع العربي مناخ الحرية الذي ساد في هذه البلدان، بعد أن تحطمت القيود والأغلال التي وضعها الطغاة لعقود في هذه البلدان على مشاركة التيارات الإسلامية وأصحاب المشروع الإسلامي في الشأن العام، وبالفعل تشكلت الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية وخرج الإسلاميون للعلن وتحدثوا إلى الناس، وبدأت الجماهير المتلهفة على معرفة الحق في الاستماع إليهم والإقبال على منتجاتهم الفكرية والثقافية والعلمية، وهذا الأمر كان نذير حملة شعواء عاتية من العلمانيين الذين وجدوا عروشهم تهتز تحت وطأة الإقبال الجماهيري على أصحاب المشروع الإسلامي، وانطلقت الشائعات والافتراءات ضد التيار الإسلامي ومشروعه السياسي والثقافي والاجتماعي، وتطاولت هذه الأكاذيب والافتراءات حتى نالت جناب الإسلام العظيم نفسه، فزعم العلمانيون ؛كبرت كلمة تخرج من أفواههم: أن الإسلام لا يوجد به نظام سياسي واضح المعالم، وهو بالتالي لا يصلح لقيادة البشرية وحكم الناس، لذلك كان لزاما على الدعاة والعلماء والمخلصين الرد على هذه الافتراءات ودحض هذه الأباطيل والذب عن حياض الدين وإبطال كيد الكائدين، وبيان النظام السياسي في الإسلام ورؤية الشارع في الحكم وأدواته وأسسه وأصوله وطرائقه ونظمه حتى ينقمع كل مدعي مفتر على الدين وأهله.  

 

لا خلاف بين أهل السنة قاطبة بأن الإسلام دين ودولة، ومسألة وجوب الإمامة من المسائل التي تأتي على رأس سلم الإجماع بين علماء السلف والخلف وجماهير المسلمين، حتى أن الصحابة - رضوان الله عليهم - قد قدموا هذه المسألة كأهم الواجبات على دفن صاحب المعجزات صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا في السقيفة واختاروا إمامهم وبايعوه قبل أن يتم الدفن والصلاة، لذلك كانت الشريعة الإسلامية مشتملة على كافة الأدوات والوسائل والأسس التي تقيم النظام الراشد في الحكم والقيادة، وهي شهادة شهد به أعداء الأمة أنفسهم فالمستشرق الشهير " توماس أرنولد " قال: " النبي - صلى الله عليه وسلم - رئيسا للدين، رئيسا للدولة "، وقال المستشرق الصهيوني " جب ": " عندما صار واضحا أن الإسلام ليس مجرد عقائد دينية فردية، فقد استوجب إقامة مجتمع مستقل له أسلوبه المعين في الحكم وله قوانينه وأنظمته الخاصة "، وقال الدكتور فتزجرالد: " ليس الإسلام دينا فحسب، ولكنه نظام سياسي متكامل "  

 

نظام الحكم في الإسلام نظاما فريدا متماشيا مع كون الإسلام خاتم الأديان والرسالات وأشملها ومهيمنا على من سبقه من شرائع وأحكام، فهو نظام لم يشبه من قبله، ولا أتى مثله بعده، فهو ليس  ملكيا ولا جمهوريا ولا سلطويا، إنما شمل كل ما في النظم من مزايا وفضائل، وخلا من العيوب والمثالب التي لا يخلو نظام منها إلا النظام الإسلامي، لا يتصادم مع فطرة البشر السوية على مر العصور، ويتسع لمتغيرات كل عصر ويجيب على تساؤلاته، ويحل معضلاته، بكل سهولة ويسر، ذلك أن ثوابته وأسسه أقل بكثير من متغيراته، وهي بمثابة الركائز والقواعد الكلية لأي نظام إسلامي في أي عصر وأي مكان، ومن أهم هذه الثوابت والركائز:

 

أولا: السيادة للشريعة

 

السيادة مصطلح فقهي حديث على الفقه الإسلامي، لم يتطرق إليه الفقهاء الأوائل عند حديثهم عن فقه السياسة الشرعية، فالسيادة نظرية فرنسية الأصل نشأت في فرنسا في نهاية القرون الوسطى للدفاع عن سلطة الملك وتمييزا لهم عن سلطة الباباوات تحديدا، ومفادها عدم وجود سلطة أخرى داخل البلاد أعلى من سلطة الملك، وهي بذلك خاصية من خصائص السلطة، ومع تعاقب الزمان تطورت نظرية السيادة لتصبح واحدة من أهم عناصر تكوين الدولة، وكاتبو الدساتير والقانونيون يعرفون السيادة بأنها: "السلطة العليا التي تفردت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال ". ومن هذا التعريف يتضح أن السيادة تتصف بعدة صفات مطلقة نافذة من أبرزها: الوحدانية حيث لا يمكن وجود سياديتين تتنازعان في نفس البلد ،والسمو فهي تعلو على جميع الإرادات والسلطات، والأصالة فهي قائمة بذاتها ولا تستمد سلطانها من أي سلطة أخرى، والعصمة من الخطأ، وهنا يثور تساؤل: بهذه الخصائص والمواصفات القياسية المطلقة لمن تكون إذا السيادة على البلاد ؟

 

لاشك أن السيادة بهذه الخصائص المطلقة لا يملكها أحد من البشر مهما كان كماله ورقيه الإنساني، إنما يملكها الله - - عز وجل -  - وحده لا شريك له، ودستوره المبثوث بنوده في وحييه من الكتاب والسنة ثم إجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أما الرؤساء والخلفاء والحكام فهم لا يمثلون هذه السيادة الإلهية أبدا، ولا يمثلون إلا الأمة التي اختارتهم، وسلطته محدودة في النواحي التنفيذية دون التشريعية، وهذا هو الفارق الجوهري الأبرز بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، فالثانية تنص على أن السيادة للأمة أو الشعب، وهو ما يترتب عليه منح حق سن القوانين والتشريعات للبرلمانات التي تمثل جموع الأمة.

 

ومع اتفاق فقهاء المسلمين على هذه الحقيقة البديهية في أن السيادة المطلقة لله - - عز وجل -  -، فقد اختلفوا في مسألة: من يكون صاحب السيادة الذي يمنح السلطان لغيره أو ينزعه منه، وذلك على ثلاثة أقوال:

 

الأول: أن السيادة لله وحده، ولا أحد يمنح سلطانا لأحد أو ينزعه منه إلا الله - - عز وجل -  -، دون أن يكون ذلك للشعب أو الأمة أو البرلمان، فالله - - عز وجل -  - له الأمر والنهي، وله الخلق وله الأمر، وهو صاحب الشرع الواجب الإتباع، والآيات على وجوب التحاكم لشرع الله كثيرة.

 

الثاني: أن السيادة للأمة، فهي صاحبة السيادة ومنبع السلطات في الدولة الإسلامية، فهي التي تختار الخليفة والحاكم، وتراقب أداءه وتناصحه، وتمتلك حق عزله إن حاد عن الطريق المستقيم وأخل بمهام وظيفته، فالخليفة أو الحاكم في النظام الإسلامي لا يعدو عن كونه واحد من أبناء الأمة وكّل بمهام الحكم وحراسة الدين وسياسة الدنيا به، وهو بذلك ينوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياسة الأمة بشرع الله - - عز وجل -  -.

 

الثالث: السيادة المزدوجة، ويذهب للقول إلى أن السيادة تكون خالصة لله - عز وجل -  في النصوص القطعية في دلالتها، ولا مجال للاجتهاد فيها، كما أنها تكون للأمة في حالة عدم وجود النص الملزم، أو النص محل الاجتهاد، أي في النصوص غير قاطعة الدلالة، وهذه السيادة تكون مقيدة بقواعد الشرع الكلية، مقاصدها العامة، وملتزمة بضوابط الترجيح المعتبرة شرعا.

 

بالجملة فإن نظرية السيادة في الإسلام تختلف بالكلية عن مفهوما الغربي، فالسيادة في النظام الإسلامي محكومة بضوابط الشرع، وهي لا تملك حق إنشاء شرع جديد مبتدأ، فالشريعة الإسلامية تختلف عن القوانين الوضعية في أصل النشأة ومصدرها، فالشريعة مصدرها إرادة الله - عز وجل - ، والقوانين الوضعية مصدرها إرادة الشعب، وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة ولا يحتاج لاستفاضة النصوص الموجبة لله للبيان والشرح، إلا إننا عرضنا ذلك لتفشي الجهل بين الناس وكثرة الشبهات التي يلقيها العلمانيون على مسامعهم.

 

الأساس الثاني: الأمة مصدر السلطات

 

إذا كانت السيادة لله - عز وجل -  لا شريك له فيها، فإن السلطات للأمة، فهي التي تباشر تطبيق شرع الله - عز وجل - ، وتنفيذ أحكامه وقواعده التنظيمية، والخليفة أو الحاكم أو الرئيس أيما ما كان اسمه، ليس إلا نائبا عن الأمة والشعب ووكيلا عنهم، وراعيا لمصالحهم، والإسلام لا يعرف الحاكم الذي يحكم باسم السماء، ويتربع على عرش العصمة، بحيث لا يجرؤ أحد على مراجعته ومسائلته، والأدلة على أن الأمة هي مصدر السلطات كثيرة منها:

 

الدليل الأول: عدم نصه صلى الله عليه وسلم على من يخلفه على الرغم من اهتمامه الشديد بذلك، وعلى الرغم من توافر الدواعي السياسية والأمنية لنصه على من يخلفه إلا إنه لم يفعل ذلك، وعلى الرغم من توافر الشخصيات العظيمة الجديرة بذلك من كبار الصحابة ذوي الكفاءة والأمانة إلا إنه لم يفعل ذلك، بل إن عليا رضي الله عنه رفض الإصغاء لطلب عمه العباس بن عبد المطلب في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الخلافة من بعده، وقال له: " إنا والله لئن سألناها النبي صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده " أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب مرضي النبي صلى الله عليه وسلم وفاته. وغاية أمره صلى الله عليه وسلم أنه كان يقدم أبا بكر وينيبه في الأمور التي كان لا يقوم به أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم مثل إمامة الصلاة، وأخذ الصدقات، في إشارة لطيفة وخفية لمكانة أبي بكر وأهليته لخلافته صلى الله عليه وسلم. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوص ولم يستخلف، برغم توافر الدواعي وانتفاء الموانع، فهو أكبر دليل على أن الأمة هي صاحبة السلطات، لتنضج الأمة وترشد في اختياراتها.

 

الدليل الثاني: النصوص الصريحة في أن الأمة هي صاحبة السلطات، ففي صحيح البخاري، كتاب المرضى، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد، أن يقول القائلون ويتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون " وفي هذا تصريح بأن المؤمنين هم الذين يمارسون هذا الحق فيقبلون أو يأبون. أيضا حديث علي بن أبي طالب السابق ذكره ومعنى " لا يعطيناها الناس " دال على علم علي رضي الله عنه أن الناس يعطون ويمنعون وهم القائمون بمباشرة هذا الحق. وأيضا مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن سمعه يقول " لو مات عمر لبايعت فلانا "، وكانت في موسم الحج فخطب بالناس خطبة طويلة ختمها بقوله: " من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا " أي أنه يحذر من يفعل ذلك أن يتعرض لعقوبة من الأمة بالقتل تعزيرا على افتئاتهم على حق الأمة في اختيار من يحكمها.

 

الدليل الثالث: حرص الخلفاء والحكام على مر العصور على حصول البيعة من الأمة لإتمام شرعية وجودهم في الحكم، حتى في فترات وراثة الخلافة كما حدث في بني أمية وبني العباس كان الخلفاء يحرصون على حصول البيعة من الأمة لولاة العهد حتى ولو بالقوة لإضفاء الشرعية على وجودهم في هذا المنصب الخطير، بل إن الحاكم والخليفة إذا أراد أن يعتزل أو يخلع نفسه كان يشهد الأمة على ذلك ويبين لها أسباب ذلك كما حدث مع معاوية بن يزيد عندما اعتزل الأمر بعد سبعين يوما من ولايته.

 

الدليل الرابع: أن الأمة هي المخاطبة في الأساس بإقامة واجب الإمامة، فالإمامة من فروض الكفاية، وهي التي يتوجه التكليف بها إلى الأمة، والأمة شرعا هي المخاطبة شرعا بإقامة هذا الواجب، وإذا لم تقم به على وجهه أثم الجميع، فدل ذلك على أن الأمة هي صاحبة السلطات ومصدرها.

 

وللحديث بقية...

 

أسس النظام السياسي في الإسلام (2/2)

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات