الدعاة والتفكير النقدي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

التجرد وحده هو الذي سيدفع بالمسلمين بشتى انتمائهم لقبول فكرة النقد والتقويم في أمور حياتنا ، وحركة اليد والعزم لو تباطأت فإن حركة العقل والفكر لابد أن تتباطأ بدورها ، وهذا التحجر والتيبس الفكري والعملي هو الذي أصاب الأمة منذ بداية القرن الخامس الهجري ، فدخلت...وفقدت الأمة كثيرا من مقومات صدارتها وريادتها ، فوقعت أسيرة لسلسلة من الغزوات المتتالية أشدها وأنكاها ، الغزو الفكري والثقافي الذي وقع مع أواخر القرن الثالث عشر الهجري ،وإنه لن ينصلح حال أمتنا إلا إذا اجتهدنا في العمل ، ثم أتبعنا...

 

 

 

 

هناك العديد من أنماط التفكير التي تحكم آلية الإنتاج الذهني لدى عقولنا ، هذه الأنماط تحدد بشكل كبير، قراراتنا وخطواتنا وخططنا ، إذ عليها يبنى طرق التقييم والموازنة والاختيار ، هذه الأنماط في مجموعها تمثل الإطار الفكري الواسع الذي لابد أن يتحلى به كافة المخلصين والمفكرين والعاملين لرقي هذه الأمة ، من هذه الأنماط ؛ التفكير الإبداعي والتفكير المنطقي والتفكير النمطي والتفكير العاطفي والتفكير النقدي ، والنوع الأخير هو ما نحتاج لئن نقف معه قليلا ، لحاجتنا الماسة لهذا النوع تحديدا في ظل رفض كثير من الناس لهذا النوع والتوجس منه بلا مبرر حقيقي سوى الأوهام وحب الذات . 

طبيعة النفس البشرية تجفل ممن ينتقدها وتجد لنفسها العديد من المبررات التي تطعن بها على صحة ومصداقية هذا النقد ، إلا المخلصين من عباد الله الذين تجردت نفوسهم من عوارض رفض النقد ورد النصيحة ، وهذا الرفض البشري للنقد والنقاد قد يكون له ما يبرره من وجهة نظر الكثيرين ، فالناقد عادة ما يلقى الأضواء على الجوانب التي لا نراها في تركيبة شخصيتنا أو طبيعة أعمالنا ، أو نراها ثم نتعامى عنها رغبة في بقاء الأوضاع كما هي وكراهية للتغيير الذي يكسر ألف الكثيرين منا على أوضاعه وأحواله ، كما أن الكثيرين يعدون للناقد ميزة عاجلة عليهم باكتشافه لمواطن الخلل فيهم وفي أعمالهم ، ناهيك عن تولد فطري للغيرة من الناقد بسبب مهاراته التفكيرية التي جعلته يضع يديه على موضع الخلل ، والكثيرون كما نعلم يكرهون بشدة أن يرون أفكارهم وأعمالهم وإنتاجهم يهوى تحت طرقات النقد حتى ولو كان نقدا مخلصا صحيحا .

 

والإسلام من أكثر الشرائع اعتناءً بمسألة النقد البنّاء وتوجيه النصح ، بل إن إسداء النصيحة من أركان البناء الثقافي والمعرفي في الإسلام ، ومكون من مكونات الإصلاح والتقويم في مجتمعاتنا ، وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا من شروط بيعته صلى الله عليه وسلم ، جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم " ، ووسّع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدار النصيحة ليجعله شاملا لكل النطاقات الاجتماعية والمعرفية ، فعن تميم الداري رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" وقد طبقت الأمة تفكيرها النقدي بأرقى صوره وطرقه خلال القرون الأولى ، ولسان حال الولاة والمسئولين وسائر المسلمين مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه " رحم الله امرئ أهدى إلينا عيوبنا " ، حتى عمّت الفتن وانتشر الفساد وتسرب الطغيان والاستبداد للعديد من دوائر الحكم في البلاد فرفض النقد وردت النصيحة ، والمحصلة النهائية فقدت الأمة قدرتها الذاتية على التقويم والتصويب .

 

ولو نظرنا بعين التجرد والتقدير لعلمنا أن التفكير النقدي يقدم خدمة لا تقدر بثمن للمجتمع الإسلامي، وينبغي على الدعاة الانتباه لأهمية هذا النوع من التفكير النافع ، فدوره وأثره أكبر مما نتخيل ، ومن أهم آثاره في المجتمعات وما ينتج عنها من أعمال وأنشطة ما يلي :

 

أولا : محاصرة الأخطاء ، فالتفكير النقدي من أرقى أنواع التفكير وقد يصل إلى حد الإبداع إذا أنتج أفكارا خلاّقة وجديدة ، وهو على درجة كبيرة من الأهمية في مسيرة الإصلاح والتغيير ، على مستوى الفرد والجماعات ، لذلك كان من دأبه صلى الله عليه وسلم إسداء النصح والتوجيه لأصحابه في أمورهم الدينية والدنيوية أيضا ،كما قال لابن عمر رضي الله عنهما " نعم الرجل عبد الله ، لو كان يصلي من الليل " وكما قال لمن أكل طعاما كثيرا حتى امتلأ " المؤمن يأكل في معيّ واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء " بل أحيانا يشتد في النقد إذا وقعت بعض الأخطاء الجسيمة أو بدرت بعض السلوكيات المخالفة ، مثلما فعل مع أبي ذر عندما عيّر بلالا بأمه رضي الله عن الجميع، وعندما قدم بعض أصحابه الرديء من ماله للصدقة ، فالنقد والنصح يحاصر الأخطاء ويصّوب المسار ويسدّ الخلل .

 

ثانيا : إبراز مواطن الجمال والإبداع ، فالنقد ليس مجرد التركيز على السلبيات والأخطاء والعيوب فحسب، ولكنه أيضا يكشف عن مساحات الجمال والإبداع في الأعمال والأنشطة ، ولعل ذلك الأمر من بواطن إيجابيات النقد ، كما أنه من هدى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان يبدأ في الثناء أولا على الرجل ثم يرشده إلى ما ينقصه ويحتاجه ، كما فعل مع عبد الله بن عمر .

 

ثالثا : تنمية فن التساؤل ؛ فالتفكير النقدي متصل بما لدى الفرد من ملكات وقدرات عقلية وذهنية وتفاعلية ، ومن أهم الملكات التي ينميها الفكر النقدي ملكة وفن التساؤل ، وكيفية تشخيص العلل ، وإن الطرح المنظم للأسئلة حول قضايا الأمة المصيرية وأزماتها التاريخية يمثل أولى خطوات النجاح في الحل ، ويعطي جرعات من زيادة الوعي بأبعاد القضية ، فالتساؤل يشكل جزءا حيويا من نظم التفكير لدى العقليات الناضجة ، وهو الذي يكشف عن المسافة الفاصلة بين المأمول والمتاح ، وهو الذي يمثل التعبير الحقيقي عن وجود مشكلة وأزمة .

رابعا : إيجاد الحلول والبدائل ؛ فالتفكير النقدي من طبيعته أنه تفكير إبداعي يركز على البناء لا الهدم ، ومن ثم فهو قد يكون امتيازا إبداعيا، إذا ما وضع يديه على مواطن الخلل ووصف داءها ، واستطاع أن يضع بدائل مناسبة لهذه الحلول أيضا ، وهذا الأمر ربما يمثل أرقى درجات التفكير المنتج الفعّال ، فمن النادر أن تجد مفكرا ممتازا ينتقد ظاهرة من الظواهر ، ويكشف عللها الكامنة دون أن يكون في ذهنه بعض الأفكار والحلول والبدائل ، وغير ذلك يكون النقد نوع من جلد الذات والبكاء على الأطلال ، وأفضل النقد ما يكون في ظلال البناء .

 

خامسا : تجسير الهوات ؛ بين الواقع والمأمول ، والتخطيط والتنفيذ ، فنحن عندما نفكر ونخطط نقوم بذلك على نحو فسيح وطليق خالي من القيود ، ولكن عند التنفيذ نصطدم بعوائق الزمان والمكان والقدرات ، وهذا يقود إلى وجود مفارقة بين ما نرجو ونقول وبين ما ننفذ ونطبق ، وهو ما يجعل للنقد دور مشروع ومطلوب على الدوام للتقريب بين هو مأمول ومتاح ، فالناقد الجيد هو من يستطيع أن يري هذه المسافات والنقاط البينية في مشاريعنا وطموحاتنا ، لأن هذه المسافات هي جماع العلل والمشكلات التي تعاني منها الأمة ، وهي تشبه تماما المسافة بين المرض والعافية ، الفهم والتيه ، التدهور والازدهار .

 

التجرد وحده هو الذي سيدفع بالمسلمين بشتى انتمائهم لقبول فكرة النقد والتقويم في أمور حياتنا ، وحركة اليد والعزم لو تباطأت فإن حركة العقل والفكر لابد أن تتباطأ بدورها ، وهذا التحجر والتيبس الفكري والعملي هو الذي أصاب الأمة منذ بداية القرن الخامس الهجري ، فدخلت بعده في غياهب الجمود ، فأغلق باب الاجتهاد وحورب الإبداع والمبدعين ، وفقدت الأمة كثيرا من مقومات صدارتها وريادتها ، فوقعت أسيرة لسلسلة من الغزوات المتتالية أشدها وأنكاها ، الغزو الفكري والثقافي الذي وقع مع أواخر القرن الثالث عشر الهجري ،وإنه لن ينصلح حال أمتنا إلا إذا اجتهدنا في العمل ، ثم أتبعنا هذا العمل بالنقد البنّاء المخلص ، الذي يتبعه تغيير وتصحيح مسار .
 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات