الدعاة ومرض العصر ‘التعصب‘ (1 ـ 2 )

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

التعصب يعتبر العائق الأساسي أمام كل أشكال التقارب بين الأفراد والجماعات والشعوب والمؤسسات وذلك لأنه يكرس أسباب الفرقة ويهدم ما هو قائم من قواعد الاتفاق والوحدة ، والتعصب له أوجه كثيرة أبرزها التعصب الديني وهو الأعلى صوتا والأكثر ظهورا والأعمق تأثيرا ، ومنه التعصب...

 

 

 

 

مازالت الأمة الإسلامية على مر عصورها تعاني من نفس أزماتها التاريخية المزمنة التي أصبحت مثل الإرث الذي تتوارثه الأجيال عبر العصور ولا تجد له علاجا ناجعا ، ولا تعرف كيف تواجه أو تجد فكاكا منه ، وعلى الرغم من الرصيد الحضاري الضخم للأمة ومنهجها القيمي الشامل ومبادئها وشريعتها المتكاملة ، فإنها ما زالت تعاني من نفس مشاكلها العتيقة المعيقة لتقدمها ورقيها ، ومن أخطر أزمات الأمة على مر عصورها ؛ أزمة التعصب . 

ففي الساحة الإسلامية بصعيدها الاجتماعي والدعوي والسياسي يوجد دعوة عريضة وممتدة تاريخيا ومتجذرة ثقافيا نحو الاتحاد في كيان سياسي واجتماعي وحركي واحد ، وأدبيات التراث الإسلامي زاخرة بالكثير من الخطابات الداعية إلى الاتحاد والاتفاق ، فالعشرات من الآيات والأحاديث وآثار السلف وشواهد التاريخ الدالة على أهمية الاتحاد والاتفاق ولو على سبيل تقريب وجهات النظر والمنهج ، ومع ذلك يبدو أن هذه الدعوة العريضة لم تجاوز بعد إطار الأماني والأحلام ، وتتباعد كل يوم عن التطبيق الواقعي ، حتى تكاد أن تكون معدومة في الأمة الإسلامية ، وهذه ليست دعوة لليأس أو الإقلاع عن سلوك سبيل توحيد الأمة واستعادة مفهوم الخلافة ولو في شقها الأدبي ، أو حتى الطعن في واقعية الطرح نفسه ، ولكن دعوة للوقوف على معوقات الاتحاد والتعرف على المرض الاجتماعي الخطير الذي يضرب الأمة في كل مفاصلها ، ويصح أن نطلق عليه مرض العصر وهو التعصب .

التعصب يعتبر العائق الأساسي أمام كل أشكال التقارب بين الأفراد والجماعات والشعوب والمؤسسات وذلك لأنه يكرس أسباب الفرقة ويهدم ما هو قائم من قواعد الاتفاق والوحدة ، والتعصب له أوجه كثيرة أبرزها التعصب الديني وهو الأعلى صوتا والأكثر ظهورا والأعمق تأثيرا ، ومنه التعصب للقبيلة وهو ما كان عليه العرب في الجاهلية الأولى ، ومازالت آثاره قائمة حتى اليوم ، ومنها التعصب للعنصر أو اللون أو اللسان أو الوطن أو المنهج الثقافي ، ورغم أوجه التعصب الكثيرة إلا أن هناك سمات عامة مشتركة بين المتعصبين بمثابة الميثاق العام للتعصب ، ومن أبرز هذه السمات :

أولا : العاطفية الشديدة ، فالتعصب له علاقة لغوية بالعصبية للقبيلة والعشيرة ويعني التألب مع قرابة الأب ضد من يناوئهم سواء كانوا ظالمين أو مظلومين ، وهذا يفيد أن المتعصب لشيء أو ضده يتسم بالعاطفية الشديد والميل القوي نحو من يتعصب لهم ، فهو لا يري إلا الحسنات والإيجابيات ولا يري أبدا السلبيات والسيئات ، أي أن المتعصب مصاب بعمى الألوان ، كما قال الشاعر :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ****** ولكن عين السخط تبدي المساوي

فالمتعصب يصم آذانه ويغلق عيونه ويسكر حواسه تجاه سماع الحق ومعرفة الصواب ، فهو غارق في أهوائه وعواطفه ، وحتى لو استخدم عقله فإن النتاج الفكري لتشغيل عقله يبقى أسيرا لقيود العاطفة وأغلال الهوى ، لذلك تجد الإنسان المتعصب لا يحب المناقشة أو المحاورة ، فتعصبه يوحي إليه أنه على الحق المبين الذي لا يقبل مراجعات ، وفي نفس الوقت تجد المتعصب يحب الجدل والمراء لأنه دائما يقوم على أسس عاطفية لا أساس لها من الموضوعية .

ثانيا : العجلة ؛ فالمتعصب إنسان شديد العجلة ، متسرعا في إصدار أحكامه واتخاذ قراراته ، لا يستند في دعاواه لأي مستند شرعي أو عرفي ، ولا يعتمد على أدلة ولا براهين ، بل هو مثل الشاعر العربي القديم :

وهل إلا من غزية إن غوت ******* غويت وإن ترشد غزية أرشد

فالمتعصب مع من يتعصب له على طول الخط ، في الحب والكراهية والإقدام والإحجام والصواب والخطأ ، لا يسأل عن أدلة ولا براهين كما قال الشاعر

لا يسألون أخاهم حين يندبهم ******** في النائبات على ما قال برهانا

ثالثا : الجمود ؛ المتعصب إنسان ورث أفكارا وأنماطا وعادات وقرارات ورؤى من الآباء والأسلاف والشيوخ والكبار ، ورثها كابرا عن كابر ، يراها من المقدسات التي يجب التسليم بصحتها وحكمتها ، ويثق فيها ثقة مطلقة ، فإذا تعصب لقومه مثلا فإنه يحفظ كل مآثر هؤلاء القوم ، ويصبحوا في نظره رمزا للأمانة والصدق والشجاعة وفضائل الأخلاق ، ويرفض تماما أي نقد ورأي مخالف لما توارثه عن قومه ، وكذلك الشيوخ كلامهم عند المتعصب يقدم على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، بل يؤول كلام الله ورسوله ليوافق كلام شيخه وإمامه حتى لا يقال عنده أخطأ الإمام وأصاب غيره .

رابعا : التناقض ؛ فالمتعصب تجده دائما متناقضا ، غير منطقي في تفكيره وقراراته ، فلا يربط بين المقدمات والنتائج ، ويحيل كل الأحداث والمتغيرات والأزمات التي تنزل بمن يتعصب لهم بغيرهم ، فهم مبرءون عنده على طول الخط ، معصومون من الزلل ، فلا أخطاء عندهم ، وفكر المؤامرة مستول على عقله تماما ، كما أن المتعصب دائما ما يفسر النقد والتوجيه لمن يتعصب لهم على أنه نوع من الحسد والغيرة والجهل ، فسلسلة المعقولات عنده تفتقد للمنطقية والتسلسل الطبيعي ، بل يقفز فيها قفزات لصالح تعصبه الذي لا يعرف معنى أن يخطئ من يتعصب له .

خامسا : التعميم ؛ التعميم من أكبر أخطاء التفكير وأشهرها ، ولكنه مع التعصب يصير التعميم مفرطا خارج عن نطاق التعديل والمراجعة ، والتعميم آفة يقع فيها من يعجز عن بناء رؤية أصيلة وتفصيلية في الحكم ، والتعميم يؤدي بالمتعصب إما إلى المحاباة أو التحامل وكلاهما من الصفات الأساسية للمتعصب ، وهما جناحي الاختلال في شخصية المتعصب والسبب المباشر في حرمان المتعصب من التوازن والإنصاف .

وللحديث بقية...
 

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات