سلسلة أفقاه لا يستغنى عنها الداعية (2) فقه مقاصد الشريعة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: تأصيل الوعي

اقتباس

موضوع علم المقاصد الشرعية هو المصالح والمفاسد والأحكام الشرعية؛ فالمصالح من حيث جلبها والمحافظة عليها وبيان مراتبها، ومراتب ما تجلب به ويحافظ به عليها، والمفاسد من حيث دفعها ودفع ما يدعو إليها، والأحكام من حيث جلبها للمصالح ودفعها للمفاسد، وللعلماء تقسيمان كبيران للمقاصد الشرعية كالآتي...

 

 

 

 

من آفات العمل الدعوي المعاصرة؛ النظرة الجزئية والقاصرة لنصوص الشريعة، النظرة الأحادية التي تقتصر على جانب معين من النص الشرعي، فالنصوص الشرعية مكون من نص ومعنى، بفقه النص والمعنى تتكامل الرؤيا لدى العلماء والدعاة، ففي حين ينشغل البعض بالنص ويركز عليه تماما بظاهرية يابسة، يركز البعض الآخر على المعنى بباطنية تخرجه عن الدلالات والمعاني الأصلية للنص، وبين هذا الشطط وذاك الغلو يأتي فقه مقاصد الشريعة ليضع العلماء والدعاة على الصراط المستقيم.  

 

فمن آفات انشغال كثير من الدعاة والعاملين في حقلها بالجزئيات والفروع، سيطرة الفكر التجزيئي على عقلية الكثيرين منهم، بحيث قادتهم هذه النظرة الجزئية الضيقة إلى نسيان أهداف الشريعة والدعوة الإسلامية ومقاصدها الكلية التي تحكم طريقة عمل الفروع والجزئيات، وذلك على الرغم من كون المقاصد ثابتة لا تتغير مع الزمان، والفروع قابلة للتغيير والتجدد وفق معطيات الزمان والمكان، أيضا هذا الاهتمام المتنامي والمفرط بالفروع والجزئيات من جانب بعض الدعاة أدى إلى تحويل هذه الفروع والجزئيات إلى ثوابت قطعية لا يسمح بالاقتراب منها أو التفكير في تعرضها للتجديد والتغيير، وهذه النظرة هي نفسها ذات النظرة التي سرت بين الناس في أوائل القرن الرابع الهجري وأدت إلى انسداد باب الاجتهاد شيئا فشيئا حتى أغلق بالكلية في أواخر القرن الرابع، وعدّ الاجتهاد ومخالفة أقوال الأئمة المتقدمين نوعا من الشذوذ والجناية والاعتداء الذي يستوجب العقاب، كما أدت أيضا هذه النظرة الجزئية لإضفاء هالة من القداسة على الآراء والأقوال الفقهية التي ذكرها الأئمة السابقون، بحيث من يخرج عنها يُفسق ويُبدع، وهو ما فتح بابا لم ينسد من التعصب المذهبي المقيت والذي راح في أتونه المستعر الكثير من العلماء والمجتهدين والعباقرة، بالجملة فإن الأخذ بظاهر النصوص دون الالتفات إلى معانيها وعلل أحكامها جمودٌ وظاهريةٌ تعطّل روح الشريعة، وتجرّدها عن صلاحيتها الدائمة، وهل صلاحيتها لذلك إلا بروحها ومعانيها ؟

 

وإذا كان الأخذ بظاهر النصوص جموداً، فإن الإيغال في اعتبار المعاني بما لا يحتمله دلالات النصوص وسياقاتها تحريفٌ للشريعة، ومصادمةٌ لنصوصها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميمُ. من المؤسف حين تنزع لإنكار الإيغال في اعتبار ظاهر النصوص على حساب مراعاة المعاني أن تجد نفسك في نظر أصحاب هذا التوجه من المميعين للشريعة المحرفين لنصوصها، وحين تنكر على المغالين في اعتبار النظرة المقاصدية ومراعاة المعاني ولو بتأويل متكلف ممجوج لدلالة النصوص فأنت في نظرهم من أولئك الظاهرية الذين أماتوا روح الشريعة.  لذلك فإن الحاجة لفقه المقاصد الشرعية تعظم للخروج من هذه الأزمات المعيقة.  

 

أولا: تعريف المقاصد الشرعية

 

تبوأت المقاصدُ مكانةً عظمى في الدرس الأصولي، وبعد أن ظلت مهملة كفن مستقل في حقبة من الزمن، أو ما يمكن أن نسميه فترة ركود التأليف في المقاصد، أضحت المقاصد لها الاهتمام الأول على أنحاء من الأصعدة المتعددة، فلا يخلو كتاب شرعي – غالبا- من الإشارة إلى المقاصد أو الاهتمام بها أو الاعتماد عليها، سواء أكان في الدرس الأصولي أم الفتاوى، بل وتعدى ذلك للدعوة والفكر الإسلامي المعاصر، وتخطى إلى جوانب الحياة المتنوعة، حتى وصل الأمر للدعوة إلى تفعيل المقاصد في شئون الحياة الإدارية والسياسية والاقتصادية.  

 

المقاصد الشرعية هي الغايات والعِلَل والحِكَم التي تناط بها الأحكام الشرعية، فيما يتصل بالعقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق والآداب.  وقد وُجِدت المقاصد مع وجود التشريع الإسلامي نفسه، وعرفها الصحابة والتابعون واعتبروها في اجتهاداتهم الفقهية المنثورة فيما نقل عنهم، ولكنها تبلورت بشكل تأليفي في مرحلة متأخرة، ويعد إمام الحرمين الجويني أول من كتب فيها ثم الغزالي ثم الشاطبي، ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور وابن البيه والفاسي، وإن كانت اليد الطولى في المقاصد للشاطبي منظِّرها وإمامها، وذلك في كتابه " الموافقات ".  وبخلاف شيخ المقاصد الإمام الشاطبي لا توجد جهودٌ بارزة باستثناء ما كتبه السيف الآمدي، ومحاولته البحث في ترتيب الضرورات الخمس، وقدم فيها النسل على العقل خلافًا لما ذهب إليه الغزالي ودرج عليه العلماء، وبعض جهود عدد قليل من العلماء؛ كابن رشد، وابن العربي المالكي، وفخر الدين الرازي، والعز بن عبد السلام، وشهاب الدين القرافي، ونجم الدين الطوفي، وابن تيمية، وابن القيم.

 

ثانيا: أقسام  المقاصد الشرعية

 

موضوع علم المقاصد الشرعية هو المصالح والمفاسد والأحكام الشرعية؛ فالمصالح من حيث جلبها والمحافظة عليها وبيان مراتبها، ومراتب ما تجلب به ويحافظ به عليها، والمفاسد من حيث دفعها ودفع ما يدعو إليها، والأحكام من حيث جلبها للمصالح ودفعها للمفاسد، وللعلماء تقسيمان كبيران للمقاصد الشرعية كالآتي:

 

أولا: تقسيم القدامي، وعمدتهم الإمام الشاطبي، ففي مباحث المقاصد في الإطار الذي وضعها فيه الشاطبي نجدها تتوزع بين محورين: أحدهما قصد الشارع، والثاني قصد المكلَّف. وهذا تقسيم منطقي جامع؛ لأن العلاقة في الأحكام الشرعية بين الشارع والمكلَّف؛ فالشارع لم يضع الشريعة عبثا، وإنما وضعها لتحقيق مقاصد معينة. والمكلَّف في امتثاله أو مخالفته لأحكام تلك الشريعة ينطلق من قصود معينة، وقد أدرج الشاطبي تحت المحور الأول أربعة أنواع، هي: 

 

1. قصد الشارع في وضع الشريعة؛ ومجمل ما جاء فيه بيان لكون الشارع إنما وضع الشريعة لتحقيق مصالح الخلق بمراتبها الثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، وحديث في العلاقة بين المصالح والمفاسد، ومراتب كل منهما. فالضروريات كما عرفها الشاطبي: أنها تعني ما لابد منه في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين "، وهذه الضروريات خمسة كما عرفها الشاطبي هي: حفظ النفس والعقل والدين والمال والنسل.  أما الحاجات والتحسينات فإنها بمثابة الأمور التكميلية، وليس معنى هذا الكلام أنها غير مطلوبة ويمكن الاستغناء عنها، ولكن هي في مرتبة دون الضروريات، ومقصود الحاجات الأساسي هو دفع المشقة ورفع الحرج أو الاحتياط لحفظ الضروريات الخمسة، أما التحسينات فهي لرفع المهابة وحفظ الكرامة.  

 

2. قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام؛ وهو بحث في بعض طرق وضوابط فهم النصوص القرآنية. 

 

3. قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها؛ وهو حديث عن خصائص التكاليف الشرعية وعلاقتها بالمكلَّف، من حيث القدرة على الالتزام، والمشقة الناتجة عن التكليف.

 

4. قصد الشارع في دخول المكلَّف تحت أحكام الشريعة؛ وهو حديث عن العلاقة بين قصد الشارع من شرع الأحكام وقصد المكلَّف عند تطبيق تلك الأحكام والالتزام بها، حيث ينبغي على المكلَّف، حتى يصح التزامه، أن يكون قصده تبعا لقصد الشارع لا مناقضا له. وعن علاقة الأحكام الشرعية بحظ المكلَّف وأثر ذلك في صحة الالتزام، وطريقة تنفيذه. وعن عموم الشريعة لجميع المكلفين ولجميع أفعالهم وجوانب حياتهم ومرجعيتها في كل ما يعنّ لهم.

 

أما المحور الثاني فهو مقاصد المكلف في التكليف؛ وفيه تفصيل الحديث عن مقاصد المكلف في القيام بالتكاليف الشرعية، وعلاقة ذلك بالشارع.  

    

 ثانيا:  تقسيم المعاصرين، وعمدتهم الطاهر بن عاشور، ويندرج تحته قسمان كبيران، كالآتي:

 

القسم الأول: مقاصد عامة، وهي المعاني والحِكَم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو غالبها، ومنها:

 

1ـ كون الشريعة مبنيَّة على الفطرة؛ بمعنى موافقة جميع أحكامها لما تقتضيه فطرة الإنسان السليمة، وقصد تلك الأحكام إلى حفظ تلك الفطرة وصيانتها من كل خرق أو اختلال.

 

2ـ كون الشريعة مبنيَّة على السماحة؛ وهي التَّوسُّط بين التضييق والتساهل، فهي راجعة إلى الاعتدال والعدل والتوسط.

 

3ـ قصد الشريعة إلى حفظ نظام الأمة الإسلامية وتحقيق الصلاح في جميع مجالات الحياة الإنسانية، واستدامة ذلك الصلاح. ويكون ذلك بتحقيق صلاح الإنسان القائم على ذلك النظام.  

 

4ـ اتّصاف الشريعة بالعموم من حيث الأشخاص والأزمان والأماكن،وتساوي الناس في شمول أحكام الشريعة لهم، إلا لعارض يقتضي إعفاء البعض من عموم التشريع.

 

5 ـ أن الشريعة الإسلامية لم تشتمل على ما فيه نكاية بأتباعها، فهي قاصدة طريق التيسير والرفق.

 

6ـ أن الشريعة ليست قاصدة إلى تغيير جميع عوائد البشر، بل سارت على تغيير ما كان منها فاسدا، وتقرير ما كان منها من باب المعروف.

7ـ بناء الأحكام الشرعية على المعاني والأوصاف لا على الأشكال والأسماء ،وقبول ما تبيَّن منها بناؤه على معنى معقول القياس عليه.

 

8ـ إبطال الشريعة للتحايل على أحكامها، وسدها ذرائع الفساد، لأن في كليهما إبطال لمقاصد الشارع من شرع الأحكام.

 

9ـ أن الشارع قصد إلى تجنُّب التفريع في أحكام المعاملات في وقت التشريع تحقيقا للمرونة في هذا المجال، وتجنُّبا لما قد ينتج عن التفصيل من حرج على الأجيال التي تأتي في المستقبل.

 

القسم الثاني: مقاصد التشريع الخاصة بأنواع المعاملات بين الناس، واستهلَّ هذا القسم بمقدمة عن انقسام الأحكام الشرعية إلى مقاصد ووسائل، وأن المقصد الشرعي الجامع لأحكام المعاملات بين الناس هو تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها رفعا لأسباب النـزاع والشجار، ثم تحدَّث بالتفصيل عن مقاصد أحكام العائلة، ومقاصد التصرفات المالية، ومقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على الأبدان، ومقاصد أحكام التبرعات، ومقاصد أحكام القضاء والشهادة، والمقصد من العقوبات.  

 

ثالثا: علاقة العمل الدعوي بفقه المقاصد

 

تمثل المقاصد أهمية كبرى للمجتهد والمفتي؛ فلا تصح الفتوى ولا الاجتهاد ولا حديث في الفقه دون رعاية للمقاصد، وقد جعل الإمام الشاطبي استحقاق العالِم أن يكون وريثًا للأنبياء منوطًا بمدى فقهه لمقاصد كل مسألة، فقال: "فإذا بلغ الإنسان مبلغًا، فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصفٌ هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التعليم والفتيا، والحكم بما أراه الله "، فصحة الاجتهاد تتوقف على أن يستقبل المجتهد قبلة المقاصد كما تتوقف صحة الصلاة على استقبال الكعبة،  فحيثما ولى المجتهد وجهه شطر المقاصد فثَمَّ الاجتهاد الصحيح، والحكم السديد، والفقه المؤيد.

 

والعمل الدعوي الذي يسير على بصيرة من الله  هو العمل الذي يعتمد منهجية سليمة ترغّب الناس في الإسلام وتعرض الإسلام عليهم كما هو، مع رعاية أحوال الناس، ومستوى عقولهم، واعتبار بيئاتهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأعرافهم، وما يفرضه ذلك كله من موازنات وأولويات في ضوء مقاصد الدعوة وغايات الشريعة في التعامل مع المكلفين وفق سنن الله الحاكمة للكون والحياة، فالبصيرة تقتضي التفطن والتبصر والفقه الدقيق للنص معنى وعملا، لذلك ينبغي أن تكون المقاصد روحا تسري في العمل الدعوي، كما هي روح تسري في العمل الفقهي على حد السواء؛ إذ الدعوة بلا مقاصد خبط عشواء يترتب عليه مشكلات ومثالب وسلبيات لا تحصر

 

إن تفعيل المقاصد في العمل الدعوي ترشده وتقويه وتختصر الوقت والجهد والمال، وتحقق أهدافه بسرعة، ومن ثمرات مراعاة المقاصد وتفعيلها في العمل الدعوي أيضا: إحسان التعامل مع الواقع والأولويات والمآلات وغيره من أنواع الفقه، ومن فوائدها أيضا تضييق دوائر الخلاف بين الدعاة وأتباعهم، وبناء وتعزيز العقلية المقاصدية وتكسر طرق التفكير الضيقة عند بعض الدعاة والقائمين على الدعوة، ليظهر ذلك في مواقفهم وأولوياتهم ومعالجاتهم للأمور حسب مقاصدها ومراتبها ومآلاتها، ومن فوائدها أيضا تفعيل القدرة على بيان محاسن الإسلام وحِكَمه التي لا تظهر على تمامها وعلى حقيقتها إلا ببيان مقاصدها ومصالحها، والتمكن من تحسين تدين المسلمين وفي مقدمتهم أهل الدعوة أنفسهم، والارتقاء بهذا التدين من الصورية والظاهرية والتقليدية، إلى الوعي والإتقان والإحسان، وتحقيق مقاصد التكاليف الشرعية، و ترتيب الأولويات، والاختيار الصحيح للوسائل والتجديد فيها، كما أن رعاية المقاصد في الدعوة تعتبر باعثا على النشاط في العمل، وغير ذلك من الفوائد الدعوية التي تفتح آفاقا رحبة لنشر الإسلام والدعوة بين جميع شرائح المجتمع.  

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات