الدعاة وتحصين دفاعات الأمة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: تأصيل الوعي

اقتباس

فالدعاة عليهم واجب كبير في بيان العدو الحقيقي للأمة، وإخراجهم من حالة السبات والغفلة الطويلة التي ضُربت عليهم منذ عهود، وتقوية دفاعات الأمة وتدعيم حصونها الداخلية بالتطهير المستمر للأمراض والآفات الضارة، فالظلم والعصيان والانحراف العقدي والأخلاقي والفوضى والأنانية والجهل هم أشد ..

 

 

 

 

للتفكير الإنساني العديد من الأشكال والأنماط التي تحكم طريقة الاستنباط والاستدلال والتفسير للظواهر الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، منها التفكير الإبداعي، والتفكير النمطي، والتفكير العاطفي، والتفكير العقلاني، والتفكير النقدي إلى آخر هذه الأنماط المفيدة إذا ما استخدمت في موضعها الملائم وتجردت من عوارض الهوى والمحاباة.

ولكن ثمة نوع من التفكير الإنساني يعتبر -على أهميته وخطورته- غائبا من حياتنا الثقافية والفكرية، وهو التفكير العلائقي؛ وهو التفكير المعني باكتشاف العلائق بين الظواهر الاجتماعية والثقافية التي تشغل بالنا وتؤثر على مجتمعاتنا ومستقبلنا بالاعتماد على فقه السنن الكونية في فهم الأحداث وتفسير الظواهر، وهذا النوع من التفكير تعرض لإهمال كبير من مفكرينا ومثقفينا بسبب تعقيداته وكثرة تفصيلاته، ونتائجه التي تبدو أنها غير نهائية، على الرغم من الأهمية البالغة لهذا الفكر في فهم الأحداث وتفسير الظواهر، هذه الطريقة في التفكير تعتبر المدخل الأول في تفكيك العديد من النظريات الضارة التي سيطرت على العقلية المسلمة والعربية لعدة عهود.

التفكير العلائقي في شقه النظري ينظر إلى الظواهر والمستجدات الحادثة من ناحيتين: من ناحية كونها كيانا قائما مستقلا بذاته عن غيره، ومن ناحية كونه جزءا من أجزاء ومنظومات أكبر ودوائر أوسع، مثال العلاقة بين الزوجين، فهي أسرة قائمة بذاتها، ثم هي جزء من أفراد عائلتهما، التي هي جزء من المدينة التي يحيون فيها، التي هي جزء من المجتمع، الذي هو جزء من الأمة التي ينتسبون إليها، وهذه الدوائر تخضع كلها لنوعين من العوامل: عوامل داخلية، وعوامل خارجية، ويظل دور العوامل الداخلية أكبر وأقوى من الخارجية ما لم يتمكن العامل الخارجي من اختراق المستوى الأول للظاهرة أو المستوى الداخلي لها.

هذا الكلام يستفاد منه على المستوى الميداني العملي للأمة، وما يعتريها من ظواهر ومستجدات تؤثر فيها وتغير من تركيبتها، في تأسيس قاعدة حضارية كبرى؛ مفادها أن تأثير العوامل والأسباب الخارجية في حياة أمتنا العربية والإسلامية سيظل محدودا وهامشيا ما لم تتحول هذه العوامل الخارجية إلى عوامل داخلية وتخترق النسيج الثقافي والفكري والاجتماعي للأمة، ولا يكتفي بالاختراق ولكن أيضا يتوالد وينتج عوام داخلية أخرى ربما تكون أخطر من العوامل الأصلية.

وإذا أردنا أن نضرب مثالا يوضح الفكرة ويقربها إلى الذهن في أثر وخطورة العوامل الخارجية إذا اخترقت البيئة الداخلية وصارت جزءا من أجزائها، فلن نجد أفضل من الاحتلال والعدو الخارجي أو المستعمر كما أطلق على نفسه في بداية حملاته العدائية على العالم الإسلامي، ذلك أن الاحتلال أو العدوان الخارجي ظل لفترة طويلة أحد أهم أسباب وعوامل تخلف الأمة وتدهورها، وذلك ليس بسبب ذات الاحتلال، ولكن بسبب اعتقاد كثير من الناس أن ذلك العدوان عامل خارجي محض، ليس للداخل فيه شأن، مما كرّس العديد من السلبيات في المجتمعات المسلمة والتي كانت في الأساس سببا لدخول المحتل الخارجي لبلاد الإسلام.

فحتى نفهم ترتيب دخول أي احتلال أجنبي لأي بلد وليس لبلاد المسلمين فحسب لابد أن نعي عدة حقائق أو سنن عامة في قضية الصراع الإنساني والذي يمثل الاحتلال أو الاستعمار إحدى صوره وتجلياته وهي:

الأولى: التدافع؛ فالبشر يتنازعون البقاء على خيرات الأرض بصورة جلية تارة وخفية تارة أخرى، فالتدافع بين البشر سنة ماضية في الخلق والكون، صراع بين الحق والباطل، صراع بين الكفر والإيمان، صراع بين العدل والظلم، صراع بين القوي والضعيف، وشواهد القرآن والتاريخ كثيرة، وهذا الصراع ربما يكون من أهم أسباب التوازن الكوني، قال تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) [البقرة 251]وقوله (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد) [الحج 40]، فالتدافع والصراع لازم من لوازم الوجود البشرى.

الثانية: الشعوب الرخوة؛ فالاحتلال أو العدو الخارجي لن يضع عينه على بلد ليحتلها ما دام هذا البلد قويا وشعبه حيا يقظا، فضعف البلدان ورخاوة الشعوب هي التي تغري بالعدوان، وقد روى "المقري " في كتابه " نفح الطيب " قصة احتلال ألفونسو السادس ملك قشتالة " أسبانيا القديمة " لطليطلة كبرى حواضر الأندلس سنة476 هـ تدل على هذا المعنى؛ فقد تخفى ألفونسو في زي أحد التجار وجاب شوارع طليطلة يبحث عن ثغراتها للهجوم عليها، فقابل أحد الصبيان وهو يبكي فسأله عن سر بكائه؛ فقال: لأنني لم أحفظ جزءا من القرآن، ومعلمي سينهرني، فقال ألفونسو في نفسه: ليس بعد، ثم عاد إلى بلاده ومكث عدة شهور، ثم عاد فتكرر معه المشهد، ولكن بكاء الصبي كان لإخفاقه في إصابة أهداف الرماية كاملة، فلما عاد في الثالثة قابل شابا يبكي فسأله عن السبب، فقال له: تأخرت محبوبتي عن اللقاء، فقال ألفونسو: الآن استحل على طليطلة، وبالفعل هجم عليها واحتلها في 1 صفر سنة 476 هـ

وهذا الأمر يفرض على كل البلاد التي تعرضت للغزو الخارجي والاحتلال الأجنبي أن تسأل نفسها أولا قبل أن تسأل عدوها؛ لماذا احتلت بلادنا؟ لابد أن يبحثوا عن الأسباب الداخلية قبل الخارجية التي شجعت الأعداء على النزول بساحتنا، وهذا الأمر يجعلنا نقف على مواطن الضعف والخلل في مجتمعاتنا، فليس كل عدوان على بلاد الإسلام فقط بسبب إسلامنا وإيماننا، وإن كان البعد العقدي هو الأبرز والأهم في الصراع بين العالم الإسلامي وخصومه، إلا إن استسهال التقييم وإحالة كل الأسباب على العداوة الدينية فحسب يعتبر قصورا في الفهم وهروبا من المواجهة وعدم الاعتراف بالخلل، وقد نبهنا الله عز وجل في محكم التنزيل على أهمية اتهام النفس والبحث عن الأسباب الداخلية المستوجة لمثل هذه النكبات العامة، فقال سبحانه -في سياق غزوة أحد وما جرى فيها للمؤمنين بسبب عصيانهم-: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّا هذا قل هو من عند أنفسكم) [آل عمران 165] وقوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) [الشورى 30]

الثالثة: روح المقاومة؛ فكثير من الشعوب المحتلة مع الزمان يفقد قدرته على الاستبسال والمقاومة، وتخبو روح المقاومة لدى الأجيال التالية؛ لأنها تعيش في حالة متتابعة من القهر والكبت والذل ومصادرة الحقوق، كما أنها -عادة- تعيش في فقر وضنك وشظف عيش، ومع الوقت يعتاد الناس على الذب ويستمرؤنه، فلا يجدون غضاضة في بقائهم تحت الاحتلال، وقد ظهر هذا جليا في الدول التي تحررت حديثا من الاحتلال الأوروبي حيث وجدنا بعض النخب الثقافية تحن لأيام الاحتلال، بل وتحتفل لذكراه كما حدث من وزير الثقافة المصري السابق فاروق حسني الذي أقام احتفالية كبرى بمناسبة مرور 200 سنة على الاحتلال الفرنسي لمصر !، وهذا يدفعنا لضرورة تربية الأجيال الصاعدة على روح العزة والإباء والصمود ورفض الطغيان، فقد تكون الإمكانات قوية ولكن النفوس ضعيفة والأرواح بائسة والعزائم خائرة، وعندها لا ينفع عدة ولا عتاد، ذلك لأن القوة الحقيقية في القلوب والأرواح لا في الأجساد والصور.

الرابعة: تدجين الحس الوطني؛ فالاحتلال الخارجي دائما يضع في حساباته وخططه كيفية تدجين الحس الوطني للبلاد المحتلة، وذلك باختصاص فئة منهم بالامتيازات والسلطات، واختصاص فئة أخرى بالعمالة واتخاذهم عيونا وجواسيس له على باقي الشعب، واختصاص ثالثة بالوظائف العمومية، ورابعة بالمصالح الاقتصادية، وهكذا يقوم المحتل بتكوين كوادر شعبية مرتبطة به، تدافع عن وجوده وترعى مصالحه، لذلك لوحظ أن نفوذ المحتل الخارجي قد زاد في بعض البلاد التي تم تدجين شرائح كبيرة ومن شعبها، بعد خروج ذلك المحتل عسكريا من هذه البلاد، ولعل البلاد التي وقعت تحت الاحتلال الفرنسي من أقوى الأمثلة على هذا التدجين الوطني، فأبناء هذه الشعوب يتحدثون الفرنسية أفضل مما يتحدثون العربية، ويعتبرون فرنسا بلدهم الثاني وربما الأول، والعلاقات الاقتصادية والتعليمية والثقافية والسياسية بينهما في مستوى يؤكد على أن الاحتلال الفرنسي ما زال قائما حتى الآن.

الشعوب المقهورة لا يحبون التفكير بهذه الطريقة، فهم لا يحبون مواجهة أخطائهم، ولا يريدون تحمل أي جزء من مسئولية تخلفهم وتراجعهم الحضاري والاجتماعي، هذا الفكر العقيم والسلوك غير القويم قاد الأمة لعهود من التيه وضروب من التخلف، وويلات ومآسي لم تنتهي، والقرآن الكريم يؤكد على نحو حاسم على أهمية وخطورة العوامل الداخلية ومحوريتها وتأثيرها الكبير، وفي نفس الوقت هامشية العوامل الخارجية وضعفها ما دامت لم تدخل في نفوس وقلوب المؤمنين، قال تعالى في شأن العوامل الداخلية: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) [أل عمران 165]، في حين قال في شأن العوامل الخارجية: ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ) [أل عمران 120]

فالدعاة عليهم واجب كبير في بيان العدو الحقيقي للأمة، وإخراجهم من حالة السبات والغفلة الطويلة التي ضُربت عليهم منذ عهود، وتقوية دفاعات الأمة وتدعيم حصونها الداخلية بالتطهير المستمر للأمراض والآفات الضارة، فالظلم والعصيان والانحراف العقدي والأخلاقي والفوضى والأنانية والجهل هم أشد خصوم الأمة وألد أعدائها، وهم الغزاة الذين لم يلتفت لخطورتهم أحد، وهم العدو الأول الذي يجب على جميع المسلمين -وأولهم الدعاة- مقاومته ومحاربته، ودون ذلك ستظل الأمة أسيرة أعداء لا تنتهي عداواتهم أبدا.
 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات