مشكلة الانفصال الموضوعي لخطبة الجمعة (1/ 3) مظاهر وأسباب وطرق العلاج

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: بناء الخطبة

اقتباس

إن إدراكنا لفريضة الجمعة، وتدفق الأمة-أسبوعياً-للجوامع لتفيد من ذكر الله؛ كافٍ في إشعال العزائم، ودفع الاهتمام بها من العلماء، ومن الخطباء للإجادة والتحسين والتطوير. وضعف الإعداد؛ هو سبب-ابتداءً-للانفصال كما سيأتي تقريره، وهو نتيجة حتمية للانفصال من وجوه أخرى، ولذلك هو أثر سيئ للانفصال الجاثم على المنبر، والعزلة المركوزة من قبل المتحدث على خطبته وموضوعه.

 

 

 

 

كل تلك من أسباب نفور الناس عنه، ومنها: الانفصال المباشر، عن موضوع خطبته، وصيرورته كالمبلغ الفارغ، والداعية الخامل والناصح التائه، وقد جفا منطقه، واخشوشن لفظه، وبات غير معايش وممازج لما يقول ويردد. قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37]. ولذلك إذا قسا القلب لم تُجدِ فيه المواعظ، لاسيما إذا كان مقارفاً لقاذورات ومشتبهات...

 

من الظواهر الخطيرة على منبر خطبة الجمعة، والتي أصبحت من شدة انتشارها واتساعها نطاقها بمثابة الداء الخطير الذي تنتقل عدواه من مكان لآخر، مثل انتشار النار في الهشيم، ظاهرة الانفصال الموضوعي للخطبة، وذلك بسبب تقاعس الأداء الخطابي، وسريان الكسل في روح الخطيب، حيث يغلب عليه هذه المشكلة المؤلمة ـ انفصال الملقي عن الملقى ـ فيؤديها بلا امتزاج، ويتعاطاها بلا مخالطة، ويصبح عليم لسان لا عليم جنان، وقارئاً لا واعظاً، وصيّاحاً لا ربانياً، وموظفاً لا محتسباً باذلاً! مستأجرا لا ثكلا!

 

وهذه ظاهرة سيئة تكدر وضعية المنبر، وتحط من دور الخطبة الأسبوعية، ولم تزل محل حديث العلماء الصادقين والخطباء الربانيين؛ لأنها تعني فشل الخطيب، وانهزامه في أداء دوره الدعوي المطلوب.فالمنبر أمانة ومسئولية وهمٌّ وعطاء، وصدق واقتداء، بخلاف تصور بعض الخطباء من أنها مهنة يسترزق بها، أو وظيفة أسبوعية لا تعدو أن تكون تذكيراً عاماً، وجمعاً سريعاً، أو ورقات مصورة، بلا تحسسٍ واقتدار.وهذا فهم قاصر ورؤية لا تليق بمقام ورثة الرسول-صلى الله عليه وسلم-في أمته.

 

إن منبر الجمعة تعترضه مشكلات كثيرة، منها هذه المشكلة، وتلكم الظاهرة، التي نناقشها هنا، ونحاول عرضها على جماهير الخطباء؛ ليتلافوها، ويصلحوا ما هم فيه؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه، كما صح بذلك الحديث، وكما قال تعالى: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ...) [البقرة :63 ]، وقال: (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً...)[الأنفال : 2]، وقال عز وجل: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...) [الزمر: 23].

 

 هذه صفات لابد أن يتعلمها الخطيب، وأن يجاهد نفسه في تحصيلها ليكون كلامه بليغاً بالغاً مؤثراً، ولو فعل لوصل، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]. ولما كانت هذه المسألة الانفصالية المنبرية من الخطورة بمكان، ويخشى على الخطابة منها، فقد توجب بيانها وكشف آثارها ومظاهرها وأهم أسبابها وطرق علاجها بما يضمن أداء الرسالة المنبرية على أفضل ما يكون بإذن الله تعالى.

 

أولا: مظاهر الانفصال الموضوعي للخطبة:

 

هناك العديد من المظاهر التي تدل على وقوع الانفصال بين الرسالة والمرسل، والخطبة والخطيب، وكلما زاد الانفصال؛ كلما زادت هذه المظاهر حتى تعود الخطبة في نهاية المطاف جثة هامدة لا روح فيها بالكلية، وعندها لا ينتفع منها السامعون بشيء، فهل تصلح الميتة غذاء للقلوب أو الأبدان؟!

 

ومن أهم هذه المظاهر ما يلي:

 

أولا: ضعف التأثير:

 

قال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ) [الذاريات: 55] وقال صلى الله عليه وسلم: "فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النَّعم" أخرجاه في الصحيحين. ولكن تلك الذكرى لابد لها من مقومات تغذيها وترتقي بها، وتقلدها سمات البلوغ والتأثير، وإلا كانت نوعاً من اللغو والهذيان، المعزول عن منائر الاستقامة، إذ إن الخطبة عبادة دينية ووسيلة دعوية، إن لم تمزج بصدق وإتقان واحتساب، كانت عبئاً على صاحبها وإصراً على مستمعيها، فلِكَي تؤدي دورها؛ لابد من القناعة التامة بها، ولابد من ارتداء اليقين بمعانيها ودلائلها، وكلما كان الكلام من القلب؛ وقع في القلب، ورسخ عند سامعيه.

 

ولذلك إذا اقتصر دور الخطيب على مجرد الإلقاء، والقراءة الصماء؛ هان أثره، وخفَّ تأثيره، وأضحى الناس غير منتفعين بكلامه، ولم يحسوا بصداه، ولو تعمق صراخه وشكواه؛ لأن العملية الخطابية شكل ومضمون، وظاهر وباطن، ومن المؤسف اهتمامنا بظاهرها من الدخول في الوقت، وحسن الزي ورفع الصوت، وتخير الكلام، والاستشهاد بالشعر، والقصص، والإيجاز، ونسينا بطائن ذلك من الخشية والترهيب، وتصفية النية والربانية، وحسن التزود والاستعداد.

 

ألا ترى كيف يخاطب الله أهل الإيمان عند خوض الغمرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45]، والخطب نوع من الجهاد الدعوي والانكشاف الجماهيري، الذي يحتاج نوعاً من الذكر والإصلاح والإعداد. حيث هو مواجهة مكشوفة، وبروز مخيف، ما لم يأخذ له عدته، ويحمل له زاده ومتاعه. قال تعالى:(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197]، وتقوى الخطيب تعني إخلاصه وخوفه الدائم، ولسانه الذاكر، وأداته الواعية، ورسالته المشفقة.

 

ثانيا: ضعف الإعداد:

 

حينما ينفصل الخطيب عن موضوعه، ويعتمد على جهود الآخرين، ويشح همه النفسي والذهني والأخلاقي، سيئول به ذلك إلى عدم التحضير، وضعف الإعداد، والتساهل المستديم.وهذا خطر يهدد العملية الدعوية ويوهي من الجهود الخطابية، ويقنط الناس من الانتفاع التوجيهي كل أسبوع. وما ضعف إعداد الخطيب؛ إلا بسبب هوان رؤيته للمنبر، وعدم قناعته بدوره وارتقائه، واستصغاره لجوانب الخطابة في ظل الانفتاح التقني وكثرة المساجد، وضخامة النقد الدعوي، والتفات النخبة إلى مشاريع أخرى غير منبر الجمعة. وهذه مأساة جديرة أن نرثي لها، ونفكر في مخارج منها.

 

إن إدراكنا لفريضة الجمعة، وتدفق الأمة-أسبوعياً-للجوامع لتفيد من ذكر الله؛ كافٍ في إشعال العزائم، ودفع الاهتمام بها من العلماء، ومن الخطباء للإجادة والتحسين والتطوير. وضعف الإعداد؛ هو سبب-ابتداءً-للانفصال كما سيأتي تقريره، وهو نتيجة حتمية للانفصال من وجوه أخرى، ولذلك هو أثر سيئ للانفصال الجاثم على المنبر، والعزلة المركوزة من قبل المتحدث على خطبته وموضوعه.

 

وينتج عن هذا الضعف في الإعداد ما يلي: ضعف الإلقاء، ووهاء الموضوع، وقلة النفع، والاضطراب النفسي والذهني وعدم وصول الرسالة الإصلاحية، التي هي حكمة الشارع في إيصال هذا الصوت كل أسبوع إلى الناس، فكأننا ما خطبنا ولا ذكرنا! وإنما برأنا ذممنا بهذا الاجتماع، وصلينا، على أي وجه كان، والله المستعان.

 

كما أن ضعف الإعداد يوحي-أحياناً-بضعف الاهتمام، وشح الزاد العلمي والفكري لدى الخطيب؛ بمعنى قلة القراءة، وضعف الاطلاع، وعدم زيارة العلماء، ومُشَامَّة طلاب العلم، وزيارة مواقع النت المفيدة، وعدم التواصل المنبري مع زملاء الوسيلة.

 

كل ذلك وغيره، كان من أسباب ضعف الإعداد، وفقدانه ناصية التحضير والاستعداد.

 

إن استدامة الخطيب للتحضير الجيد، بالقراءة-أولاً-وجمع المعلومات، والصياغة بعد ذلك، يُعد من ضمانات الجودة والإبداع المثري الذي تستشرف له الأمة.

 

ثالثا: الملل والضجر:

 

وهو نوع من الشعور بالهزال وعدم القدرة على المواصلة، لا تحضيراً، ولا صموداً على الدعوة، أو سماع كلام الناس ونقداتهم. وهو نتاج وضريبة للإهمال واللامبالاة؛ بسبب انفصال الخطيب عن خطبته، وعيشه في جو آخر ملبد بالدنيا وبهفواتها وأنكادها؛ لأن الدعوة منصب شريف، لابد من الاستعداد لها إيمانياً وعلمياً وروحياً وأدبياً، بحيث لا يصل الإنسان لهذا المكان إلا وأخذ له أهبته. وقد يكون الضجر نتاج اعتقاد أنه مجرد وظيفة يتقاضى عليها مكافأة بمجرد التزامه وانضباطه، فهذا مفصل الزلل، والتخبط الدعوي والخطابي. فحينما يؤدي الخطيب دوره المنوط به، وهو بعيد كل البعد عن موضوعه وحملان معانيه وأسراره؛ لا بد أن ينتهي به الحال إلى الشعور بالتعب والضعف الذي حمله على العزوف والتباعد، ومن ثم التضجر، والتضايق الشديد. (وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة : 46].

 

وحينما يرتقي الإيمان في النفس، ويصلح السلوك، يقذف الله أنوار العمل والجد في النفس الإنسانية فتحقق الإنجازات، وتصيب المنائر، وفي المقابل حينما يضعف إيمانها، وتتخبط في سلوكياتها، تشعر بلون من الهزال والكسل المستديم، الذي يحتاج معالجة وإصلاح، تبدأ من تحسين الواجهة الإيمانية للروح، وتقويم السلوك والاحتساب والصدق (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ) [محمد :21].وهذا شئ مغروز في الأنفس، كلما صلح الإيمان، صلحت النفس، فأنتجت وأثمرت، وإذا ما نقص الإيمان، نقص الجهد والعمل، ودب فيها الكسل والتراخي.

 

رابعاً: ضيق الصدر:

 

قال تعالى: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه: 25]، وانشراح الصدر مهم للوظيفة الدعوية والممارسة الخطابية، وإذا ضاق الصدر؛ كسلت النفس، وخَمدَ الفكر، وكلَّ الجسم. وبُعدُ الخطيب عن موضوعه، وعدم استشعاره لفاعليته؛ سينتهي به من إلى الشعور بالضيق والاشمئزاز، وهو الحرج النفسي، الذي يعتري النفوس من جراء ضعف في الاستقامة، أو تورط في مشكلات ومخالفات.ويروى عن ابن مسعود-رضى الله عنه-قوله: "إني لأجد أثر المعصية في خلق زوجتى ودابتي"، قال تعالى: (فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) [الفتح: 10].

 

وإذا انعزل الخطيب عن موضوعه بسبب غفلة أو هوى أو عدم اكتراث، أصابه هذا الأثر –أحياناً-وهو ناتج من نواتج الإهمال، وحصول التعب والضعف. وصحة الإيمان سبب لشرح الصدر قال تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [الأنعام: 25].

 

وقال تعالى: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 22].

 

ومن آثار ضيق الصدر: الكسل والتهاون وانحراف الفكر، وانحطاط الأداء، وتسلط الكسل، والعزوف النهائي عن المشاركة. وضيق الصدر نذارة الانهيار القلبي الذي يحتاج إلى معالجة سريعة، وإلا تطور السقم، فصار قسوة شديدة، وجهمة ثابتة، ولهذا صح قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". فإهمال القلب، وجعله يفسد بالأسقام دون مقاومة وإصلاح ومعالجة، سيؤدي بصاحبه لمنازل الحرمان والعياذ بالله. ولهذا كانت استدامة الذكر والاستغفار، وإصلاح النية بمثابة التطهير الدائم لكل أدواء القلب.

 

للحديث بقية نستكمله في لقاء آخر بمشيئة الله تعالى

الموضوع تم اقتباسه واختصاره من رسالة الدكتور الفاضل/ على عبد الحليم محمد " المسجد وأثره في المجتمع "

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات