مهارة الجواب وأثرها في رسالة الخطيب ( فن الصواب في الردّ )

رشيد بن إبراهيم بو عافية - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: بناء الخطبة

اقتباس

الخطيبُ الربّانيُّ لا تستهويهِ الكثرة ولا الوفرَةُ ولا الشُّهرةُ فيتكلّم كلامًا أو يُجيبُ جوابًا حول شخصٍ أو هيئةٍ أو دولةٍ أو حادثةٍ لم يستقصِ عنها أو موضوعٍ حسّاسٍ يحتاجُ إلى هيئةٍ علميّةٍ وسبرٍ ودراسةٍ، يُغامرُ بالإجابةِ فيه ويجدُ لذّتَهُ النفسيّة والاجتماعيّة في الحال، ثمّ يندمُ عليه أبدَ الآبدِين ولاتَ ساعةَ مندم !، فيفتحُ على نفسِهِ وعلى المستمِعين وعلى دولتِهِ وأمّتِهِ أبوابًا من...

 

 

 

 

 بحكمِ رسالتهِ السّامية في الإصلاحِ والبناءِ والتوجيه يتعيّنُ على الخطيبِ إتقانُ مهاراتٍ كثيرةٍ متعدّدة تعملُ بمجموعِها على تحقيقِ النّجاحِ وتحصيلِ النتائجِ في الميدان، ولعلّ من أهمّ وأبرزِ هذه المهارات التي يتحتّمُ عليهِ إتقانُها " مهارة الجواب "، لأنَّهُ مقصدُ الناسِ على اختلافِ طبقاتِهِم في الاستفتاء والاستفسار والسؤال، إمّا بشكلٍ فرديٍّ في المجالس الخاصّة، أو في حلقات التدريس وأمامَ التجمّعاتِ واللقاءات وفي المحاضرات العامّة وخاصّةً المسجّلة، فإتقانُهُ لمهارة الجواب والردّ على تساؤلات الناس باختلاف طبقاتهم ونيّاتِهم وأغراضِهم، مع مراعاةِ مآلاتِ القول يُشكّلُ ركيزةً أساسيّةً في تكوين الخطيب.  

 

أسوقُ لنفسي وإخواني ما يتعلقُ بالارتقاءِ بهذه المهارة في الجملة، ونسأل الله العظيم التوفيق إلى حسن العلم وحُسن العمل.  

 

تعريف الجواب:

 

الجَوابُ مصدرٌ من فعلَ أجابَ يُجيبُ إجابةً وجوابًا، وهو ما يعودُ من الكلام[1]، بمعنى لبّى وردّ الكلام.  قال الله تعالى: ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) هذا جوابُهم بعد أن قال لهم: ( أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَر ) ( العنكبوت: 29 ).  

 

ركائزُ المهارة في الجواب:

 

الجواب الموفّق يقومُ على مرتكزاتٍ أساسيّة لا ينبغي للخطيب الغفلةُ عنها، وهي بمجموعها تشكّل " منظومة مهارة " تميّز الخطيبَ الذي يُتقنُ فنّ الصوابِ في جوابه عن غيره ممّن لا يُتقنُ ذلك الفن، فمن أهمّها:

 

 أوّلاً:  حسن الإنصات للسؤال:

 

من أساسيّاتِ مهارة الجواب: حُسن الإصغاءِ والإنصات للسائل، فحُسْنُ الإصغاءِ مَلَكَةٌ تربويّة ومهارةٌ نفسيّةٌ فكريّة تسبقُ الحديث، وهي قُوّةٌ لكَ وزَادٌ عند التحدّث، ومن لا يُجيدُ فنّ الإصغاءِ بأدبٍ وتأمُّل لا يجيدُ فنّ الجواب يقينًا، وقد يفوتُهُ كثيرٌ من الصواب.  

 

ومن تأمّل سيرتَهُ صلى الله عليه وسلم - سيّد الخطباء والمعلّمين -  وجدَهُ بلا شكٍّ خيرَ من أتقنَ هذا الفن لكمال أخلاقِهِ بأبي هو وأمّي:

 

فقد كان يُنصتُ للكبير والصغير، للرجل والمرأة، ولا يقطع الحديث، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يُنصتُ للآخرِ إنصاتًا كاملاً مع الصبر لا يقطعُ الكلام مع علمِهِ ببطلانِهِ وزيفِه وتهافُتِهِ قبل أن يفرغَ منه المتكلّم:

 

وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في مفاوضة عتبة بن ربيعة للنبي صلى الله عليه وسلم درسٌ بليغٌ في الإنصات، وفيه..:"    يا محمد ؛ أنت خير أم عبد الله - يعني أباه - ؟، فسكت النبي r، فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله r، قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى طار أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، وما ينتظر إلا مثل صيحة الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى !.

 

أيها الرجل؛ إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة  فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا فلا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.  فقال رسول الله r: " أفرغت يا أبا الوليد ؟ "، قال: نعم.  قال: "فاسمع مني . .  "[2].

 

فانظر إلى هذه الرُّزمةِ من الكلامِ والأسئلة والتي فيها تجاوزاتٌ ونيلٌ من الذات ومغالطات. .  أيُّنا يصبرُ على نصفِها بل عُشرِها ؟!، انظُر كيف صبر عليها محمدٌ صلى الله عليه وسلم سيّدُ الأخلاقِ فلم يقطع كلام السائل، ثم أجابه بما أفحمهُ وقضَى عليه، هذه من أساسيّات مهارة الجواب !.   

 

ثانيًا:  الردُّ المُفهِمُ الكافي حسب مقتضى الحال:  

 

فليس كلُّ ما يُعرفُ يُقال، ولا هو مناسبٌ لمقتضى السائلِ والحال، بل المهارةُ عند الخطيبِ الربّانيّ  تقتضي إصدارَ جوابٍ مُفهِمٍ يُناسبُ الحال، لا إسرافَ فيه ولا تقتير، يكفي السّائلَ، ويتناسبُ مع سؤالِهِ وقُدُراتِهِ  ومستواه في الفهم والاستيعاب، فإن زادَ السائلُ زادَ المُجيب، وإن اقتصرَ فخيرُ الكلامِ ما قلّ ودَل،  فلا مجال للاستعراضِ عند من رسالتُهُ بيانُ الحقّ وهدايةُ الناسِ وسوقُ الخير إليهم !.   

 

وانظُر إلى سيّد المعلّمين صلى الله عليه وسلم:

 

عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "  إن من أحبّكم إلي وأقربِكم مِنّي مجلسًا يوم القيامة أحاسنُكُم أخلاقًا، وإن أبغضَكُم إليّ وأبعَدَكُم مِنّي يوم القيامة الثرثارون والمتشدّقون والمتفيهِقُون "، قالوا يا رسول الله : ما المتفيهقون ؟، قال  :" المتكبرون  " ( صحيح الجامع: 2201 )، فانظر الجواب في كلمة تعوّضُ كلمة ؛ لئَلاّ ينصرفَ السامعُ عن أصل الحديث !.    

 

 وهكذا: فمن الأسئلة ما يكونُ جوابُها: نعم، أو:  بَلى، أو: لاَ.   

 

  ومنها ما يقتضي الحالُ التوسُّط، ومنها ما يقتضي المقامُ البسطَ والإفادَة !.   

 

 ثالثًا: الجوابُ بعلمٍ وعدمُ اقتحامِ المجهول:  

 

من أجلّ المرتكزاتِ في مهارة الجواب عند الخطيب الربّانِي " الجوابُ بعِلم "، وهذا يقتضي من الخطيب الصبر على التكوين العلمي الرّصين والبحث الدائم وتعاهد المحفوظ والتأكّد من الأخبار والوقائع والتطوير المستمر مع لزومِ الورَعِ خاصّةً في النّاس ورعايةِ الأمانة العلميّة في النقل والجواب، فلا مجالَ عند من يقدّر أمانة البلاغ وخطورة الكلمة أن يقتحم ما لا عِلمَ له به أبدًا.  

 

وقد قال الشيخُ محمد الخضر حسين - رحمه الله - ( ت 1370 هـ ) يصفُ التلازُمَ بين صلاحِ أعمالِ الأمّةِ  وصِحّة العلم: " فإنّ فلاحَ الأمة في صلاح أعمالها، وصلاحَ أعمالها في صحّةِ علومها، وصحّةَ علومها أن يكون رجالها أمناءَ فيما يروون أو يصفون، فمن تحدّث في العلم بغير أمانة، فقد مسّ العِلمَ بقُرحَة، ووضعَ في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة " [3].  وكيف لا وزلَّةٌ من العالِمِ أو الخطيبِ أو المعلّمِ يزِلُّ بها حقًّا ما لا يعلمُ عددَهُم إلاّ الله !.  

 

رابعًا: ثقافة التوَقّف و " لا أدري "، وقول " الله أعلم "  لا يستحي من هذا الخطيب !:

 

كم تردّدت هذه الكلمة الطيّبة في مجالس الدّرس والتعليم يومَ كان يسنِدُ الخطباءَ والمعلّمين خوفُ الله تعالى وخشيتُهم على الصّوابِ أن يضيع بسبب حظوظ النفس !، وواللهِ إنَّ من أجلّ خصال الخطيب الربّاني الذي يؤمن  بأمانة التبليغ وخطورة الكلمة:  التوقّفُ عند الاشتباهِ أو عدم العلم، فهو لا يستحي من قول  " الله أعلم  "، أو  " لا أدري "،  بل يَكلُ العلمَ دائمًا إلى الله جلّ جلالُه، فيما علِمَهُ وفيما لم يعلَمه، وهو على يقينٍ تامٍّ يجعلُهُ يفضّلُ أن يُصابَ شخصُهُ ومنزلتُهُ بقول لا أعلم - ولن يُصابَ بإذن الله - خيرٌ من أن يُصابَ الدّين الصحيحُ في مقتلٍ أو ينشأَ النّاسُ على دينٍ لم يأذَن به الله ( التديُّن المغشوش ) !.  

 

وكم فتحَ من تكلّم من الخطباءِ بدون علمٍ واستحى من قول " لا أعلم " كم فتحَ على الأمّةِ من صور الفهم المنحرف، والتديُّن المغشوش، والتضييع والتمييع، والسببُ كلمةٌ زلّ فيها حياءً من قول " لا أعلم "  ؛ فزلّ بسببه خلقٌ كثير !.  

 

هذا وقد كتب - أخي الخطيب -  العلاّمة الحافظُ ابنُ عبد البر -رحمه الله - فصلًا مُمتعًا في كتابه:  "جامع بيان العلم " تحت عنوان: "ما يلزم العالم إذا سُئِلَ عمّا لا يدريه من وجوه العلم ": (2/ 62- 69)، فارجِع إليه ففيه فوائدُ ودُرر تنفعك في تكوين هذه المهارة.    

 

ويتفرّعُ عن هذا - أخي الخطيب - وجوبُ التريّث عند الأسئلة التي يُذكر فيها الأشخاصُ وأقوالٌ ومواقفُ  تُنسبُ لهم بلا زِمامٍ ولا خطام، ممّا يحتاجُ إلى بحثٍ واستقصاءٍ وسبرٍ للأغوار والبواعِثِ والمآلات، فلا تكنْ أخي الحبيب ممّن تستهويهِ الكثرةُ وتُطغيهِ الوفرَةُ - وفرَةُ الأتباع – فيقَع في الجوابِ بدون علمٍ ولا يقين ولا تثبّت؛ فيخسر ويزِلُّ ويزلُّ بزلّتِهِ عالَمٌ كثير !.  

 

ويتفرّع عن هذا أيضًا لزومُ التوقّف عن الجوابِ فيما لم يقع دفعًا للناسِ ليسألوا ويبحثُوا في حكم ما هو واقع، ولذلك لا يتقحّمُ الخطيبُ مجال ( التوقّع ) ولا يفتح على نفسِه هذا الباب كما يتقحّمُهُ المحلّل السياسي وغيرُه؛ لأنّهُ في كثيرٍ من الأحيان تكلُّفٌ لا موجبَ له في عمل الخطيب، وقد كان السّلفُ يتحاشَونَه.   

 

خامسًا: الجوابُ بسؤال:

 

إجابةُ السائلِ بسؤالٍ من مفردات مهارة الجواب التي قد يحتاجُ إليها الخطيبُ عند إرادة الاستيضاحِ من السائِلِ لتحقّق فهم السؤال بشكل جيّد وضبط صورة المسألة، أو عند إرادةِ تبكيتِ السّائلِ المتعنّتِ أو المعتدي أو المختبِر أو الذي قد يُثيرُ فتنة بسؤاله.  

 

فمن النوع الأوّل على سبيل المثال: أسئلة الكفّارات واليمين والنذر والطلاق وما شابَه، فهي تحتاجُ في كثيرٍ من الأحيان إلى تضييق صورة المسألة بطرح الأسئلة، حتّى لا يحصُل جوابٌ عامٌّ لا يفيدُ السائل، أو يتحصّل جوابٌ خاصٌّ لا تندرجُ تحته المسألة.  

 

                     ومن النوع الثاني على سبيل المثال  ( السائلُ المُخْتَبِر للخطيب لا المُعْتَبِر[4] ):

 

يقول السائل ( على سبيل التمثيل فحسب ): "  فضيلة الشيخ  ؛ قسّمَ الشاطبيُّ الشروطَ مع مشروطاتِها  إلى ثلاثة أقسامٍ[5]، هل لكم أن تفيدُونا بها مع التمثيل جزاكم الله خيرًا ؟! "، وطبعًا هذا السؤال يحتاجُ إلى دورة علميّة منفصلة !

 

ونفرض أنَّهُ ظهر للخطيبِ أنَّ السائلَ يبحثُ عن التعجيز وهو مُختبِرٌ لا معتبِر، فحينها يُجيبُهُ على سبيل المثال:" هل لكَ أن تذكّرَني متى توفّي الشاطبي - رحمه الله -  ؟ "، فإن عجزَ أدّبهُم على تعلّم صغار العلم قبل كبارِه، فإن أجابَ بتاريخ الوفاة زادَهُ ، فإن لمسَ من السائل طلبًا للحقّ وحرصًا على تحصيلِ العلمِ حقًّا أجابَ بما يقتضيه الحال من تبسيطٍ أو إحالةٍ على كتابٍ أو متخصّصٍ أو قول: المسألة تحتاجُ إلى بحث أو ابحثُوا فيها وما شابَه. .  

 

                   ومن النوع الثاني على سبيل المثال ( السائلُ الذي قد يُثيرُ فتنة بسؤاله ):

 

  [ يقول السائل :" فضيلة الشيخ  ؛ ذكروا عن الشيخ فلان ( ويُسمّيه باسمه ). ... أنّهُ قال كذا وكذا  ".

  فيقاطِعُهُ الخطيبُ :"  حسبُك ! ؛ هل سمعتَهُ بنفسِك ؟، السائل : لا، ولكنّهم ذكروا. . "

 

 الخطيبُ:  "حَسبُك، قال الله تعالى:  ]وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [ ( الإسراء: 36 )  ].   هذا الأسلوبُ في الجوابِ مهارةٌ يحمي بها الخطيبُ مجالسهُ من الفتَنِ والقلاقِل والشُّبُهات، فقد يكونُ الشيخُ المذكورُ قال فعلاً، ولكن ليسَ هذا المجلسُ مجالَ مناقشة القول، ولا الحالُ يقتضي ذلك، فليس كلُّ ما يُعرَفُ يُقال، ولا كُلُّ ما يُقالُ قد حانَ أوانُهُ، ولا كلُّ ما حانَ أوانُهُ قد وُجِدَ رِجالُه !.  

 

سادسًا: مهارة التهرُّب في الجواب هل يحتاجُها الخطيب ؟!:

 

أمّا التهرُّب السّلبي البراجماتي فلا أرى أنّ الخطيبَ يحتاجُ إليه، ولا له تعلُّقٌ بمجال عمل الخطباء  والدُّعاة، وأغلبُ ما يكونُ هذا النوع وهذه المهارة في المجال السياسي بالمفهوم الميكيافيلي، والسياسة كما قيل لا دين لها ( ؟! )، وهي فنُّ الممكن ( ؟! )، ولذلك ترى كثيرًا ممّن هذا مجالُهُ يتهرّبُ ويتلوّنُ في الجوابِ حسب المصلحة، ولا يهمُّهُ في تهرُّبه وروغانِهِ موضوع الأخلاقِ ولا القيم ولا الحقائق،  فما أبعدَ هذا عن مجال الخطيب وشرف رسالته !.   

 

وإنّما قد يحتاجُ الخطيبُ عند الأسئلة المُحرِجَة - من باب الحكمة أو الموازَنة -  إلى مثل أن يقول:  " هذا نجيبُ عنه في مجلسٍ آخرَ إن شاء الله  ".    أو يقول:  " هذا لا جواب عليه " ، أو يقول: " هذا يحتاجُ إلى أسئلةٍ كثيرةٍ فليتّصل بي السائل. . "، أو ما شابه ذلك.    

 

سابِعًا:  الخطيبُ ورعايةُ المآلِ في الجواب:

 

من أخصّ خصائص الخطيبِ الربّانيّ الحكيم رعاية المآلات والنظرُ في مغبَّاتِ العواقب [6]، فلا ينبغي أن يقتصرَ نظَرُ الخطيبِ في جوابِهِ على السّائلِ ، ولا على المجلسِ، بل ولا على المدينةِ التي هو فيها  ؛ بل يمتدُّ نظَرُهُ إلى ما تؤول إليه الأمور بسبب جوابه بكذا وكذا، ويمتدُّ تقديرُهُ إلى تداعيّاتِ كلامِهِ وآثارِهِ في الحاضِر والمستقبل وعلى جميع الأصعدة، فليسَ الناسُ في الفهم على درجةٍ واحدة، فلا ينبغي أن يوقِعَهم في اللُّبسِ والتخبُّط ، ولا هم في القصدِ والنيّةِ على قلبِ رجُلٍ واحد فلينتبِه ! ؛ فالناسُ درجات، والحياةُ فيها الموافقُ والمخالفُ، والمُحِبُّ والمُبغضُ، والمستفيدُ والمُتربّص، والصاحبُ والسّاحِب، ولجميع هؤلاء ينبغي للخطيب أن يتسلّح بسلاحِ رعايةِ المآلات في الجواب، وخاصّةً في المجالس العامّة والمسجّلة !.  

 

الخطيبُ الربّانيُّ لا تستهويهِ الكثرة ولا الوفرَةُ ولا الشُّهرةُ فيتكلّم كلامًا أو يُجيبُ جوابًا حول شخصٍ أو هيئةٍ أو دولةٍ أو حادثةٍ لم يستقصِ عنها أو موضوعٍ حسّاسٍ يحتاجُ إلى هيئةٍ علميّةٍ وسبرٍ ودراسةٍ، يُغامرُ بالإجابةِ فيه ويجدُ لذّتَهُ النفسيّة والاجتماعيّة في الحال، ثمّ يندمُ عليه أبدَ الآبدِين ولاتَ ساعةَ مندم !، فيفتحُ على نفسِهِ وعلى المستمِعين وعلى دولتِهِ وأمّتِهِ أبوابًا من الشبهات والمعضلات والفتن ما اللهُ به عليم ! ، بل  الخطيبُ الماهرُ يضبطُ نفسَهُ بأفقاهٍ لا يمكن الاستغناء عنها أبدًا في الفهم والعمل على السواء [7].   

 

 ثامنًا: الخطيبُ والعودةُ إلى الحق عند الخطأ:

 

نختمُ بهذا الأساس الأخلاقيّ العظيم، وهو إعلانُ التصحيحِ عند الهفوة، والنطقُ بالصوابِ بعد الخطأ، هذا العملُ لا يستحي منه الخطيبُ الربّاني، فكلُّ بني آدم معرّضٌ للخطأ، وخيرُ الخطّائين التوابُون الذين لا يحملُهم الحرصُ على المكانة والسُّمعة على التعنّت والتصلّب، بل بالعكس إعلانُ الرجوعِ إلى الحقّ عنوانُ كمال الخطيب وشرفٌ يعتزُّ بها وعلامةٌ على ربّانيّتِهِ ورسوخه في الحق.  

 

                                         هذا ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والخير والسّداد

                              وصل اللهم وسلم وبارك على نبيّك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.  

 

------------

 

[1] - الراغب الأصفهاني :  معجم مفردات ألفاظ القرآن  - بيروت ، لبنان  -  دار الفكر -  ( د ط ) -  ( 2009م ) ، ص ( 79 ) - مادة ( ج و ب ) .

[2] - قال الأستاذ مصطفى العدوي : حسن لطرقه :  انظر سيرة ابن إسحاق(1/182-ابن هشام)  ، وانظر أيضا : ابن أبي شيبة(8/440) ، وأبو نعيم في "الدلائل"(142)،والبيهقي في"الدلائل"(2/202)،والحاكم(2/253)،وصححه وواافقه الذهبي .   

[3] -  محمد الخضر حسين : رسائل الإصلاح ( 1/ 13 ) .

[4] - فالمُختَبِر يحتاجُ إلى تأديب ، ويُفهمُ حالُهُ من القرائن المحتفّة ، بخلاف السائل المُعتبِر فهو يحتاجُ إلى تعليم أو توجيهٍ حسبما يقتضيه الحال طبعًا .

[5] -   أبو إسحاق الشاطبي : الموافقات -  مؤسسة الرسالة ناشرون -  دمشق ، سوريا – ط 1 -2011م – ج 1 ص265 .

[6] -  اقرأ للتوسع والـتأصيل : الزركشي  : المنثور في القواعد - تحقيق :  محمد حسن إسماعيل - بيروت ،  لبنان -  دار الكتب العلمية  -  (  ط 1  ) -  ( 1421هـ ) - ج ( 1 ) ص ( 409 )     وليد الحسين  : اعتبار مآلات الأفعال وأثرها الفقهي  (  رسالة دكتوراه مطبوعة  )  -  الرياض  ،  السعودية -  دار التدمرية -  ( ط 1 ) - ( 2008م ) .   

[7] - اقرأ للاستفادة : سلسلة أفقاه لا يستغني عنها الخطيب : للأستاذ  شريف عبد العزيز -  منشورة  في ملتقى الخطباء -  (ركن  وعي الخطيب – تأصيل الوعي ) .

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات