الخِطَابَةُ وَأَدَوَاتُ الجَمَالِ اللَّفْظِي وَالمعْنَوي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: بلاغة الخطيب

اقتباس

ويرى ابن الرومي في البيت الثاني أن الشمس، لم تصفر عند الجنوح إلى المغيب للسبب الكوني المعروف عند العلماء، ولكنها اصفرت مخافة أن تفارق وجه الممدوح، وينكر الشاعر في البيت الثالث الأسباب الطبيعية لقلة المطر بمصر، ويتلمس لذلك سبباً آخر هو أن المطر يخجل أن ينزل بأرض يعمها فضل الممدوح وجوده؛ لأَنه لا يستطيع مباراته في الجود والعطاء. فنرى في كل مثال من الأَمثلة السابقة أن الشاعر أنكر سبب الشيء المعروف والتجأ إلى علة ابتكرها تناسب الغرض الذي يرمي إليه، ويسمى هذا الأسلوب من الكلام حسن التعليل..

في الأسلوب الخطابي تبرز قوة المعاني والألفاظ، وقوة الحجة والبرهان، وقوة العقل الخصيب، عندما يتحدث الخطيبُ إلى إرادة سامعيه؛ لإثارة عزائمهم، واستنهاض هممهم، ولجمال هذا الأُسلوب ووضوحه شأنٌ كبيرٌ في تأثيره، ووصوله إلى قرارة النفوس، ومما يزيد في تأثير هذا الأسلوب منزلة الخطيب في نفوس سامعيه، وقوة عارضته، وسطوع حجته، ونبرات صوته، وحسن إلقائه، ومحكم إشارته. ومن أظهر مميزات هذا الأسلوب التكرار، واستعمال المترادفات، وضرب الأمثال، واختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين، ويحسنُ فيه أَنْ تتعاقبَ ضروب التعبير من إِخبارٍ إلى استفهامٍ إلى تعجبٍ إلى استنكارٍ، وأن تكون مَواطن الوقف فيه قويةٌ شافيةٌ للنفس.

 

وعلم البيان وسيلة إلى تأدية المعنى بأساليب عدة، بين تشبيهٍ ومجازٍ وكنايةٍ، ودراسةُ علم المعاني؛ تُعينُ على تأدية الكلام مطابقاً لمقتضى الحال، مع وفائه بغرضٍ بلاغي يفهم ضمنا من سياقه وما يُحيط به من قرائن. ولكن قوة الأسلوب وحدها لا تكفي في إيصال الغرض والهدف المقصود من الخطبة، والنفس البشرية مجبولة على الالتفاف إلى الجمال والانتباه إلى البديع في كل شيء، ومن ثمَ كان على الخطيب أن يعمل على تزيين الألفاظ أو المعاني بألوان بديعة من الجمال اللفظي أو المعنويِّ، التي تجعل خطبته مكللَّة بأكاليل الجمال والكمال، بديعة تأسر النفوس وتبهر العقول. وأدوات الجمال الخطابي تنقسم إلى نوعين: لفظي ومعنوي

 

أولاً: أدوات الجمال اللفظي:

1- الجنَاسُ: وهو أن يتشابه اللفظان في النطق ويختلفا في المعنى. وهو نوعان:

أ- تَام: وهو ما اتفق فيه اللفظان في أمور أربعة هي: نوع الحروف، وشكلها، وعددها، وترتيبها.

ب- غير تام: وهو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من الأمور المتقدمة. والأمثلةُ على ذلك كثيرة في القرآن   وأشعار العرب، فمن الجناس التام، قوله -عز وجل-:(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ) [الروم:55].

 

قال شاعر في رثاء صغير اسمه يَحْيَى:

وسميته يحيى لِيحيا فلم يكن *** إِلى رد أمر الله فيه سبيل

 

أما أمثلة الجناس غير التام، قوله -عز وجل-: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) [الضحى:9-10].

 

وقول ابن الفارض:

هَلا نهاك نهاك عن لوم امرئ *** لم يلف غير منعم بشقاء

 

وقول الخنساءُ من قصيدة تَرثي فيها أخاها صخرً:

إن البكاء هو الشفاء *** من الجوى بين الجوانح

 

وقوله -عز وجل-: (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [طه: 94]

 

وبتأَمل الأمثلة السابقة؛ تجدْ في كل مثال كلمتين تجانس إحداهما الأخرى وتشاكلها في اللفظ مع اختلاف في المعنى، وإيراد الكلام على هذا الوجه يسمى جناساً. ففي الجناس التام تجد أَن لفظ "الساعة" مكرر مرتين، وأن معناه مرة يوم القيامة، ومرة إحدى الساعات الزمانية، وفي المثال الثاني ترى "يحيى" مكرراً مع اختلاف المعنى. واختلاف كل كلمتين في المعنى على هذا النحو مع اتفاقهما في نوع الحروف وشكلها وعددها وترتيبها يسمى جناساً تاماً.

وإذا تأملنا كل كلمتين متجانستين في الجناس غير التام؛ رأينا أنهما اختلفتا في ركن من أَركان الوفاق الأربعة المتقدمة، مثل: تقهر وتنهر، ونهاك ونهاك. والجوى والجوانح، وبين وبنى، على ترتيب الأَمثلة، ويسمى ما بين كل كلمتين. هنا من تجانس جناساً غير تام.

 

(2) الاقتِباس: وهو تضمين النثر أو الشعر في الخطبة شيئاً من القرآن الكريم، أو الحديث الشريف من غير دلالة على أنه منهما، ويجوز أن يغير في الأثر المقتبس قليلاً، مثال ما قاله عبد المؤمن الأصفَهانيُّ و(كان خطيباً مصقعاً): لا تغرنّك من الظلمة كثرة الجيوش والأَنصار (إِنما نؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار).

 

وقول ابن سناء الملك:

رحلوا فلست مسائلاً عن دارهم  ***  أنا باخع نفسي على آثارهم

 

وأبيات أبي جعفر الأندلسيُّ الغرناطي:

لا تعاد الناس في أوطانهم*** قلما يرعى غريب الوطن

 

وإذا ما شئت عيشاً بينهم***خالق الناس بخلق حسن

 

وبالنظر في الأدلة نجد أنَّ الخطيب أو الشاعر قد ضمّن كلامه هذه الآثار الشريفة، من غير أن يصرح بأنها من القرآن أو الحديث، وغرضه من هذا التضمين؛ أن يستعير من قوتها قوة، وأن يكشف عن مهارته في إِحكام الصلة بين كلامه والكلام الذي أخذه.

 

(3) السجع: هو أن يوافق الفاصلتين في الحرف الأخير، وأفضله ما تساوت فقره:

الأَمثلةُ كثيرة جداً في كلام العرب، ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم-:" ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً"، ومن دعاء الصالحين: "اللهم إن كنت قد أبليت، فإنك طالما قد عافيت "، ومن أمثال العرب السائرة: الحر إذا وعد وفى، وإذا أعان كفى، وإذا ملك عفا.

 

وإذا تأملت المثالين الأولين؛ وجدت كلاً منهما مركباً من فقرتين متحدتين في الحرف الأَخير، وإذا تأَملت المثال الثالث وجدته مركباً من أكثر من فقرتين متماثلتين في الحرف الأخير أيضاً، ويسمى هذا النوع من الكلام سجعاً وتسمى الكلمة الأخيرة من كل فقرة فاصلة، وتسكن الفاصلة دائما في النثر للوقف. وأفضل السجع ما تساوت فقره، ولا يحسن السجع إلا إذا كان رصين التركيب، سليماً من التكلف، خالياً منَ التكرار في غير فائدة.

والسجع قد يكون مكروهاً إذا استخدم في ليِّ الحقائق، وطمس الأدلة، ومماطلة الحق، ومزاحمة الصواب، لذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-لمن سجع في كلامه للتحايل على أداء الحقوق والديات الشرعية: " أسجع مثل سجع الكهان ؟!" إنكاراً منه-صلى الله عليه وسلم-في استخدام السجع بهذه الصورة المقيتة.

 

ثانياً: أدوات الجمال المعنوي:

(1) التورية: وهي أن يذكر المتكلم لفظاً مفرداً له معنيان، قريبٌ ظاهرٌ غير مراد، وبعيد خفي هو المراد، وهو فن برع فيه شعراء مصر والشام في القرن السابع والثامن من الهجرة، وأتوا فيه بالعجيب الرائع الذي يدل على صفاء الطبع والقدرة على اللعب بأساليب الكلام، والشواهد الشعرية كثيرة، منها قول سراج الدين الوراق:

أصون أديم وجهي عن أناس ***  لقاء الموت عندهم الأديب

 

ورب الشعر عندهم بغيض   ***    ولو وافى به لهم "حبيب"

 

وقول نصير الدين الحمامي:

أبيات شعرك كالقصـ ***  ور ولا قصور بها يعوق

 

ومن العجَائب لفظها   ***    حر ومعناها "رقيق "

 

كلمة "حبيب" في المثال الأول لها معنيان: أحدهما المحبوب وهو المعنى القريب الذي يتبادر إلى الذهن بسبب التمهيد له بكلمة "بغيض"، والثاني اسم أبي تمام الشاعر وهو حبيب بن أوس، وهذا المعنى بعيد. وقد أراده الشاعر ولكنه تلطف فورى عنه وستره بالمعنى القريب.

وكلمة "رقيق" في المثال الثاني لها معنيان: الأول قريب متبادر وهو العبد المملوك وسبب تبادره إلى الذهن ما سبقه من كلمة "حر"، والثاني بعيد وهو اللطيف السهل. وهذا هو الذي يريده الشاعر بعد أن ستره في ظل المعنى القريب.

 

(2)  الطباق: وهو الجمع بين الشيء وضده في الكلام، وهو نوعان: (أ) طباق الإيجاب: وهو ما لم يختلف فيه الضدَّان إيجاباً وسلباً.

(ب) طباق السلب: وهو ما اختلف فيه الضدان إيجاباً وسلباً.

 

الأمثلة من الكتاب والسنّة عديدة، فمن النوع الأول -قوله تعالى-: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رقود) [الكهف: 18].

 

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ الْمَالِ عَيْنٌ سَاهِرَة لِعَيْنٍ نَائمة".

 

أما الأمثلة من النوع الثاني، فقوله –تعالى-: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ) [النساء: 108].

 

وقال الشاعر السموءل:

وننكر إن شئنا على الناس قولهم *** ولا ينكرون القول حين نقول

 

وإِذا تأَملنا الأمثلةَ المتقدمةَ، وجدت كلاً منها مشتملاً على شيءٍ وضده، فالمثال الأول مشتمل على الكلمتين: "أيقاظاً" و"رقود" والمثال الثاني مشتمل على الكلمتين: "ساهر" و "نائمة". أما المثالان الأخيران فكل منهما مشتمل على فعلين من مادة واحدة أحدهما إيجابي والآخر سَلبي، وباختلافهما في الإيجاب والسلب صارا ضدين، ويسمَّى الجمع بين الشيء وضده في الأَمثلة المتقدمة وأشباهها طباقا، غير أَنه في المثالين الأَولين يدعَى "طباق الإيجاب" وفي المثالين الأخيرين يدعَى "طباق السلب".

 

(3) المقابلة: وهي أن يؤتَى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب. والمقابلة في الكلام من أَسباب حسنه وإيضاح معانيه، على شرط أَن تتاح للمتكلم عفواً، وأما إذا تكلفها وجرى وراءها، فإنها تعتقل المعاني وتحسبها، وتحرم الكلام رونق السلاسة والسهولة.

 

ومن أمثلتها قال -صلى الله عليه وسلم-للأنصار مادحاً لهم: "إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع"، وقال خالد بن صفوان يصف رجلاً: "ليس له صديق في السر، ولا عدو في العلانية"، قال ابن المعتز للخليفة العباسي (مؤسس علم البديع في اللغة): من أقعدته نكاية اللئام، أقامته إعانة الكرام. وقال الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان: "ما حمدت نفسي على محبوب ابتدأته بعجز، ولا لمتها على مكروه ابتدأته بحزم ".

 

وبالنظر في مثاليْ الطائفة الأولى نجد أن كل مثال منهما يشتمل في صدره على معنيين، ويشتمل في عجزه على ما يقابل هذين المعنيين على الترتيب، ففي المثال الأَول بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم-  صفتين من صفات الأَنصار في صدر الكلام وهما الكثرة والفزع، ثم قابل ذلك في آخر الكلام بالقلة والطمع على الترتيب، وفي المثال الثاني قابل خالد بن صفوان الصديق السر بالعدو والعلانية. وفي مثالي الطائفة الثانية تجد كلا ًمنهما مشتملاً في صدره على أكثر من معنيين، ومشتملاً في العجز على ما يقابل ذلك على الترتيب، وأداء الكلام على هذا النحو يسمى مقابلة.

 

(4) حسن التعليل: وهو أن ينكر الخطيب صراحة أو ضمناً علة الشيء المعروفة، ويأتي بعلة أدبية طريفة تناسب الغرض الذي يقصد إليه.

 

مثاله ما قاله المعري في الرثاء:

وَمَا كلفة البدر المنير قديمة *** ولكنها في وجهه أثر اللطم

 

وقال ابن الرومي:

أما ذكاء فلم تصفر إذ جنحت *** إلا لفرقة ذاك المنظر الحسن

 

وقال الصلاح الأربلي، معللاً عدم نزول المطر بأرض مصر غالباً:

ما قصر الغيث عن مصر وتربتها *** طبعاً ولكن تعداكم من الخجل

 

ولا جرى النيل إلا وهو معترف *** بسبقكم فلذا يجري على مهل

 

وفي الأبيات يرثي أبو العلاء في البيت الأول، ويبالغ في أن الحزن على المرثي شمل كثيراً من مظاهر الكون، فهو لذلك يدعي أن كلفة البدر وهي ما يظهر على وجهه من كدرة، ليست ناشئة عن سبب طبيعي، وإنما هي حادثة من اللطم على فراق المرثي. ويرى ابن الرومي في البيت الثاني أن الشمس، لم تصفر عند الجنوح إلى المغيب للسبب الكوني المعرون عند العلماء، ولكنها اصفرت مخافة أن تفارق وجه الممدوح، وينكر الشاعر في البيت الثالث الأسباب الطبيعية لقلة المطر بمصر، ويتلمس لذلك سبباً آخر هو أن المطر يخجل أن ينزل بأرض يعمها فضل الممدوح وجوده؛ لأَنه لا يستطيع مباراته في الجود والعطاء. فنرى في كل مثال من الأَمثلة السابقة أن الشاعر أنكر سبب الشيء المعروف والتجأ إلى علة ابتكرها تناسب الغرض الذي يرمي إليه، ويسمى هذا الأسلوب من الكلام حسن التعليل.

 

(5) تأَكيدُ المدح بما يشبه الذم وعكسه: تَأكيد المدح بما يشبه الذم ضربان:

(ا) أن يستثنى من صفة ذم منفية صفة مدح (ب) أَن يثبت لشيء صفة مدح، ويؤتى بعدها بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى.

 

وتأكيد الذم بما يشبه المدح ضربان: أ- أن يستثنى من صفة مدح منفية صفة ذم. ب- أن يثبت لشيء صفة ذم، ثم يُؤتَى بعدها بأداة استثناء تليها صفة ذم أخرى، الأمثلةُ منها قال -صلى الله عله يسلم-: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش "

 

وقول ابن الرومي:

ليس به عيب سوى أنه *** لا تقع العين على شبهه

 

وقال آخر:

ولا عَيْبَ في معروفِهمْ غيرَ أنَّهُ *** يُبَيِّنُ عَجْزَ الشَّاكرينَ عن الشُّكْرِ

 

وقال النابغة الجعدي:

فتى كملت أخلاقه غير أنه  *** جواد فما يبقي من المال باقياً

 

الأمثلة السابقة جميعها تفيد المدح ولكنها وُضعت في أُسلوب غريب لم نعهده ، فقد صدَّر ابن الرومي في المثال الأول كلامه بنفي العيب عامة عن ممدوحه، ثم أتى بعد ذلك بأَداة استثناء هي "سوى" فسبق إلى وهم السامع أَن هناك عيباً في الممدوح، وأَن ابن الرومي سيكون جريئاً في مصارحته به، ولكن السامع لم يلبث أَن وجد بعد أَداة الاستثناء صفةَ مدح، فراعه هذا الأسلوب، ووجد أن ابن الرومي خدعه فلم يذكر عيباً، بل أكّد المدح الأول في صورة توهم الذم، ومثل ذلك يقال في المثال النبوي تجد أن النبي-صلى الله عليه وسلم-وصف نفسه بصفة ممدوحة وهي أنه أفصح العرب، ولكنه أتى بعدها بأَداة استثناء فدهِش السامع وظن أن النبي-صلى الله عليه وسلم-سيذكر بعدها صفةً غير محبوبة. ولكن سرْعان ما هدأَت نفسه حين وجد صفة ممدوحة بعد أَداة الاستثناء، وهي أَنه من قريش، وقريش أَفصح العرب غير منازَعين. فكان ذلك توكيدًا للمدح الأول في أُسلوب أَلف الناسُ سماعه في الذِّم، وكذلك يقال في المثال الأَخير. ويسمَّى هذا الأسلوب في جميع الأمثلة المتقدمة وما جاءَ على شاكلتها تأكيد المدح بما يشبه الذّمَّ. وهناك أسلوبٌ لتوكيد الذمِّ بما يشبه المدح وهو كالأسلوب السابق، له صورتان: فالأولى نحو: لا جمال في الخطبة إِلا أَنها طويلة في غير فائدة، والثانية نحو: القوم شِحاحٌ إلا أَنهم جُبناء.

 

6-أُسْلوبُ الحكيمِ: وهو تَلَقِّي الْمُخَاطَبِ بغِير ما يَتَرَقَّبُهُ، إِمَّا بتَرْكِ سؤالهِ والإِجابةِ عن سؤالٍ لم يَسْأَلْهُ، وإِمَّا بحَمْلِ كلامِهِ عَلَى غير ما كانَ يَقْصِدُ، إِشارَةً إلى أَنَّهُ كان يَنْبَغي له أَن يَسْأَلَ هذا السؤال أَوْ يَقْصِدَ هذا الْمَعْنَى

مثاله، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [سورة البقرة 189].

 

وقال ابن حجاج الشاعر:

قلت ثقلت إذ أتيت مراراً   ***   قال ثقلت كاهلي بالأيادي

قلت طولت قال لا بل تطو ***   لت وأبرمت قال حبل ودادي

 

فقد يخاطبكَ إنسان أو يسألك سائل عن أمر من الأمور فتجد من نفسك ميلاً إلى الإعراض عن الخوض في موضوع الحديث أو الإجابة عن السؤال؛ لأغراض كثيرة منها: أن السائل أعجزُ من أن يفهم الجواب على الوجه الصحيح، وأنه يجمل به أن ينصرف عنه إلى النظر فيما هو أنفع له وأجدى عليه، ومنها أنك تخالف محدثك في الرأي ولا تريد أن تجبه برأيك فيه، وفي تلك الحال وأمثالها تَصرفه في شيءٍ من اللباقة عن الموضوع الذي هو فيه إلى ضرب من الحديث تراه أجدر وأولى.

وانظر إلى المثال الأول تجد أن أصحاب الرسول -صلى الله عليه يسلم- سألوه عن الأَهلة، لِمَ تبْدو صغيرةً ثمْ تزداد حتى يتكامل نورها ثم تتضاءل حتى لا ترى، وهذه مسألة من مسائل علم الفلك يُحتاج في فهمها إلى دراسة دقيقة طويلة فصرفهم القرآن الكريم عن هذا ببيان أن الأهلة وسائل للتوقيت في المعاملات والعبادات؛ إِشارة منه إلى أن الأَولى بهم أن يسألوه عن هذا: وإلى أن البحث في العلوم يجب أن يرجأ قليلاً حتى تتوطد الدول وتستقر صخرة الإسلام. وصاحبُ ابن حجاج في المثال الثاني يقول له قد ثقَّلْتُ عليك بكثرة زياراتي فيصرفه عن رأيه في أدب وظرف وينقل كلمته من معناها إلى معنى آخر. ويقول له: إنك ثقلت كاهلي مما أغدقت عليَّ من نعم ومثل ذلك يقال في البيت الثاني.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات