أساليب خطابية مميزة (5): أسلوب الترغيب والترهيب

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: بلاغة الخطيب

اقتباس

الخطيب يستطيع أن يوظف أسلوب الترغيب والترهيب في خطبته بما يخدم موضوعها، وذلك بالتركيز على المحالات الآتية أثناء إعداده للخطبة. من أظهر طرق الكتاب والسنة في الترغيب بالإخبار عن العمل بأنه موجب لدخول الجنة ولمغفرة...

 

لقد خلق الله -تعالى- الإنسان وركبه من مادة وروح، وعقل وعاطفة، وجوارح ومشاعر، وأودع فيه مجموعة كبيرة من العواطف والمشاعر والفطر التي تتماشى مع أصل خلقته من مادة علوية (الروح) ومادة سلفية (التراب)؛ لذلك نجد أن الإنسان مجبول على حب ما ينفعه، وتقر به عينه، وتطمئن به نفسه، وينفر من كل ما يخفيه ويفزعه.

 

ومن ثم نجد أن الله اللطيف الخبير البصير العليم بمن خلق أرشدنا في محكم التنزيل لأفضل الأساليب والطرائق لما يصلح مسيرة الإنسان في الدنيا إلى الآخرة.

 

ومن أفضل هذه الأساليب في هداية البشر واستقامة حياتهم، وأمثلها في توجيه طاقاتهم النفسية والروحية إلى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة: أسلوب: "الترغيب والترهيب"، والذي يعتبر على نطاق واسع الأسلوب الأكثر فاعلية في مجال الدعوة والخطابة.  

 

أولاً: الترغيب والترهيب لغة واصطلاحاً:

1- الترغيب: الترغيب لغة من الرغبة، ويقال: رغب يرغب رغبة، إذا حرص على الشيء وطمع فيه.

واصطلاحاً أسلوب الترغيب هو: كل ما يشوق السامع إلى الاستجابة وقبول الحق والثبات عليه، وهو وعد يصحبه تحبيب وإغراء بمصلحة أو متعة آجلة مؤكدة، مقابل القيام بعمل صالح أو الامتناع عن لذة ضارة ابتغاء مرضاة الله.

2- الترهيب: الترهيب لغة: التخويف، ورهب أخاف، خاف خوف، ورهب رهبة.

واصطلاحاً هو: كل ما يخيف ويحذر المدعو من عدم الاستجابة أو رفض الحق أو عدم الثبات عليه بعد قبوله، وهو وعيد وتهديد بعقوبة مترتبة على اقتراف إثم أو ذنب، مما نهى الله عنه، أو على التهاون في أداء فرائض الله.

 

والترغيب يشمل نعيم الدنيا والآخرة وسعادتهما، والترهيب كذلك يشمل نقمة الدنيا والآخرة وشقاءهما، فقد وعد الله المؤمنين الصادقين بالاستخلاف في الأرض، والعزة والحياة الطيبة والجنة في الآخرة، وتوعد العاصين بالخزي والذل وضنك المعيشة في الدنيا والآخرة وبنار الجحيم في الآخرة.

 

ثانياً: الترغيب والترهيب في القرآن: من الأساليب القرآنية المندرجة تحت مسمى باب التقابل -وهو من أساليب البلاغة العربية-: أسلوب الترغيب والترهيب، وهو أسلوب بارز في القرآن.

 

ولا غرو في ذلك فالقرآن الكريم كتاب دعوة وهداية وإرشاد في الأساس، وهذا الأسلوب من أنجع الأساليب في الدعوة؛ لاعتماده على عنصري الثواب والعقاب، اللذين علم الله -سبحانه- من طبيعة البشر أنهما يشكلان حافزاً قويًّا؛ للإقبال على كل ما هو نافع، والانكفاف عن كل ما هو ضار.

 

والمراد من أسلوب الترغيب والترهيب من حيث الجملة: أن يذكر القرآن ما يتضمن ترغيباً في القيام بعمل يرضى الله عنه ورسوله، ثم يتبعه ما يتضمن ترهيباً من القيام بعمل يُغضب الله ورسوله.

 

وقد يكون العكس فيبدأ القرآن بذكر ما فيه ترهيب، ثم يردفه ما فيه ترغيب؛ لتظل النفوس بين ترغيب وترهيب فتطيب جراحها، ويستقيم سيرها.

 

وقد أكد كثير من المفسرين على اعتماد هذا الأسلوب القرآني الفريد، وهذه طائفة من عباراتهم في هذا السياق:

 

الزمخشري ينص على أن من عادته عز وجل في كتابه: أن يذكر الترغيب مع الترهيب، ويشفع البشارة بالإنذار، وقال ابن كثير: "كثيراً ما يقرن الله -تعالى- بين الترغيب والترهيب في القرآن... فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة، وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة، وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهذا وبهذا؛ لينجع في كل بحسبه"، وقال أبو السعود أن: "من السُّنة السنيَّة القرآنية شفْعُ الوعد بالوعيد، والجمع بين الترغيب والترهيب"، وعلق الآلوسي  على تفسير الآية 61 ممن سورة البقرة قائلاً: "لما انجر الكلام إلى ذكر وعيد أهل الكتاب، قرن به ما يتضمن الوعد؛ جرياً على عادته سبحانه من ذكر الترغيب والترهيب"، وقال الشوكاني في الآيات نفسها: "لما ذكر تعالى جزاء الكافرين، عقبه بجزاء المؤمنين؛ ليجمع بين الترغيب، والترهيب، والوعد، والوعيد، كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز"، وقال ابن عاشور: "عادة هذا الكتاب المجيد مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب".

 

والمتأمل في القرآن الكريم يجد أن أسلوب الترغيب والترهيب في القرآن الكريم، قد جاء على ثلاثة أنحاء:

 

الأول: أن يأتي هذا الأسلوب في آية واحدة، نحو قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنعام: 165]، وقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) [الرعد: 6]، وقوله عز وجل: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ) [غافر: 3].

 

الثاني: أن يأتي هذا الأسلوب في آيتين؛ كقوله سبحانه: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ) [الحجر: 49 - 50]، وقوله: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج: 12]، فهذه الآية فيها ترهيب، ثم يأتي الترغيب: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [البروج: 14].

 

الثالث: أن يأتي هذا الأسلوب ضمن مجموع آيات، ومثال هذا وصف القرآن لحال أهل الكفر يوم القيامة في قوله تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر: 71 - 72].

 

ثم وصف القرآن لحال أهل الإيمان في قوله تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر: 73 - 74].

 

ثالثاً: مجالات الترغيب والترهيب وفي الخطبة: الخطيب يستطيع أن يوظف أسلوب الترغيب والترهيب في خطبته بما يخدم موضوعها، وذلك بالتركيز على المحالات الآتية أثناء إعداده للخطبة:

 

1- الترغيب والترهيب بجزاء الآخرة: من أظهر طرق الكتاب والسنة في الترغيب بالإخبار عن العمل بأنه موجب لدخول الجنة ولمغفرة الله -سبحانه-؛ كقوله عز وجل: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]، أو مضافة الأجر لفاعله؛ كقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261].

 

ومن طرق الترهيب: الإخبار عن العمل بأنه موجب لدخول النار أو لعذاب القبر، أو أنه محبط للأعمال؛ كقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 39].

 

وإن من واجب كل خطيب: أن يرغب الحاضرين في الطاعات وأعمال الخير، وأن يرهبهم من المعاصي وأعمال الشر، وأن يكون الأصل في ترغيبه فيما عند الله -تعالى- وفي رضاه، والأصل في ترهيبه بعقاب الله وبغضبه عليه، وذلك حتى يرتبط السامع بالله -تعالى-، ويشعر وهو يقوم بهذا الفعل أو ذاك وحين يترك الفعل الآخر أنه يتقرب إلى الله -تعالى-.

 

وإذا تقرر هذا فإنه إذا وجد النص القرآني أو الحديث النبوي المرغِّب أو المرهِّب فينبغي اعتماده وعدم تجاوزه إلى غيره، وإن كان جائزا الزيادة عليه تأييدا وتأكيدا؛ فمن أراد مثلا أن يرغب في بر الوالدين ذكر حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألزمها فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ".

 

2- الترغيب والترهيب بمحبة الله وبغضه: ومن طرق الترغيب الإخبار عن الفعل والعمل بأن الله -تعالى- يحبه أو يحب فاعله أو فضله؛ كقوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].

 

ومن الترهيب: الإخبار ببغض الله -تعالى- للعمل وبغضه لفاعله، أو بأن الله قد لعنه وضاعف عقابه.

 

ومنه فإنه لا يلزم في هذا الباب أن نجد لكل عمل نريد أن نرغب فيه أو نرهب منه نصا خاصا في القرآن والسنة يبين أن فاعله في الجنة أو في النار وأن ثوابه كذا وكذا أو عقوبته كذا وكذا، بل يكفي في أعمال الخير أن يقول الخطيب للحاضرين إن الله -تعالى- يحبها ويحب فاعلها، وفي أعمال الشر أن نقول له: إن الله -تعالى- يبغضها ويبغض فاعلها.

 

وبهذا نحصل الفوائد المرجوة من الترغيب ونجتنب بعض الأخطاء التي يقع فيها كثير من الخطباء في هذا الباب، ومن أهمها: الكذب على الله -عز وجل- بذكر أجر معين أو عقوبة معينة لا أثر لها في النصوص الشرعية، كقول كثير من العامة إنه من يكذب يُقطع لسانه في الآخرة وأن السارق تُقطع يده يوم القيامة.

 

والواجب على الخطيب أن يتحرى الصدق، وأن لا يقول شيئا إلا بعلم خاصة فيما ينقله عن الله، والقاعدة عندنا: أن الغاية إذا كانت نبيلة فالوسيلة لا بد أن تكون شريفة.

 

3- الترغيب والترهيب ببيان المصالح والمفاسد: من طرق الترغيب والترهيب بيان المصالح والمفاسد، ومعناه الترغيب في العمل ببيان محاسنه ومصالحه العاجلة في الدنيا، والترهيب من الشيء ببيان مفاسده وعاقبته السيئة في الدنيا، وهو طريق ينبغي أن يكون تابعا للطريق الأول؛ لأن الارتباط الكلي بمصالح الدنيا قد يُضعِف جهة العبودية لله -تعالى-، فمن أراد أن يرغب الحضور في الصلاة مثلا، يجوز أن يعدد مصالحها العاجلة من أنها تعلم الإنسان الانضباط؛ لأنها تؤدى في مواقيت محددة، وأنها تعلمه التركيز لأن الواجب فيها الخشوع الطارد لكل هموم الدنيا، وأنها تقوي الرابطة الاجتماعية لأنها تؤدى في جماعة، وأنها تبعث على النشاط لما فيها من حركات ضرورية للجسم.. الخ.. لكن لا ينبغي الاقتصار عليها لأنه إن فعل ربما أفسد من حيث هو يرجو الإصلاح؛ لأن الحضور إذا سمع هذا الكلام مبتورا عن الجانب الروحي والأخروي قد ينقص قدر الصلاة في عينه، وربما جال بخاطره أنه يمكنه الاستغناء عنها؛ لأن الانضباط والتركيز وتقوية الروابط الاجتماعية والنشاط أمور يمكن تحصيلها بطرق أخرى غير الصلاة، في حين أنه إذا سمع هذا الكلام مقرونا بالجانب الروحي الأخروي، فإنه يزداد إيمانا وحسن ظنٍ بالله -تعالى-، ويوقن أن الله -تعالى- لم يكلفنا إلا بما فيه مصلحة لنا في العاجل والآجل.

 

وكذلك من أراد أن يرغب الحضور في الصيام فإذا ذكر أجر الصائمين في الآخرة وأنهم يدخلون من باب يسمى الريان، وأجر الصابرين، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]، وأجر من صام رمضان إيمانا واحتسابا، المبين في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مغفرة الذنوب وغيرها، جاز له بعد ذلك أن يذكر للحضور المصالح الأخرى الدنيوية كالمصالح الطبية الصحية، ومصلحة الإحساس بجوع الفقراء، ولا يقتصر على هذه الأخيرة، بل ينبغي أن يعلمه أن ذلك حاصل تبعا، وأن هذا من رحمة الله بعباده إذ تعبدهم بما فيه مصلحتهم في دنياهم قبل آخرتهم.

 

وإذا أراد الخطيب ترهيب الحضور من كبيرة شرب الخمر، حدثهم بأن من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة؛ كما جاء في الحديث المتفق عليه، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثَّل مدمن الخمر بعابد الوثن، ونفى الإيمان عن شاربها ، ويرهبهم بذكر العقوبات الدنيوية كالمسخ والخسف؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُؤوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ".

 

ويرهبهم بالعذاب الأخروي؛ كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى"، وأنه يسقى من نهر الخبال في جهنم وهو نهر من صديد من دم وقيح.

 

ثم بعدها يذكر المفاسد الأخلاقية والاجتماعية، ثم يذكر ما روى النسائي عن عثمان في قصة ذلك الرجل الذي خير بين شرب الخمر والفاحشة وقتل النفس فاختار شرب الخمر فوقع في الفاحشة وقتل النفس.

 

وبعد المفاسد الأخلاقية والاجتماعية تأتي المفاسد الصحية ويعدد الأمراض التي يسببها الخمر كالتسمم الكحولي والنوبات الدماغية والتليف الكبدي، وضعف البصر والقرحة المعدية والمعوية والسل وضعف المناعة وغيرها، والمفاسد الاجتماعية من إثارة العداوة والبغضاء والطلاق وتضييع الأولاد والتقصير في حقهم، والمفاسد الاقتصادية من تضييع الأموال، وإفساد الممتلكات، وغير ذلك.

 

4- الترغيب والترهيب بالمدح والذم: وقد استعمل نبينا -صلى الله عليه وسلم- هذا النمط مع أصحابه فكان إذا رأى من بعضهم شيئا حسنا أظهر رضاه وتبسم، وإذا رأى شيئا ينكره علم ذلك في تغير وجهه، كما قال أبو سعيد -رضي الله عنه-: "وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ"، وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود لما قرأ عليه سورة يوسف: "أحسنت"، وقال صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ"، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا". 

 

رابعاً: عوامل نجاح أسلوب الترغيب والترهيب:

 

1- الموازنة والاعتدال: فلا يجعل الخطيب كل حديثه ترغيبا ولا كله ترهيبا، بل يتناوب بين الاثنين، حتى لا يطغى جانب على جانب، فيفرط المستمع في التمني للثواب دون عمل، أو يقنط من رحمة الله وعفوه، والمتأمل في آيات القرآن يجد أن الله -تعالى- كثيرا ما يورد آية نعيم ثم يردفها بآية عذاب، وكذلك يورد آية عذاب ثم يتلوها بآية نعيم؛ كقوله تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37 - 41].

 

ومن رحمة الله -تعالى- بعباده: أن رباهم في القرآن بنوعي التربية كليهما الترغيب والترهيب، فالأصل أن أسلوب الترغيب يكون موازيا لأسلوب الترهيب، والرجاء يوازي الخوف، لئلا يتمادى المدعوون في المعاصي مغترين برحمة الله ومغفرته، ولا ييأسوا ويقنطوا من رحمته خوفا من عذابه وقوته، بل يكون حالهم كما يقول تعالى عن المؤمنين: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) [الإسراء: 57].

 

2- مخاطبة العاطفة: حيث يعتمد أسلوب الترغيب والترهيب على القرآن والحديث النبوي لإثارة الانفعالات وتربية العواطف الوجدانية، فهي المحرك والدافع الأقوى للسلوك، والمغذية لطاقات الإنسان، وعن طريق إثارة هذه الدوافع يبلغ الخطيب هدفه.

 

وعاطفة الحب والخوف من أكثر العواطف التي تؤثر على الإنسان وتشكل دوافعه ومعظم قراراته.

 

3- مراعاة أحوال الحاضرين: فالخطيب قد يجد بين يديه سامعين متلقين بشغف لما يأمرهم به، وقد يواجه أناساً جاهلين بربهم، متمردين عليه، نافرين من الحق، مقبلين على الدنيا أو على الأقل لا يهتمون بما يدعوهم إليه من الخير، ولا يحسون بحاجة إليه، أضف إلى ذلك أن أحوال الناس وأهواءهم مختلفة متضاربة وأمراضهم متنوعة، فهو لا ولن يوفق في ترغيبه ولا ترهيبه ولا ينجح في تخويفه حتى يحيط معرفة بمن يدعوهم ليعطي كل طائفة حقها، وينزل كل فئة منزلتها ويخاطب كل صنف حسب فهمه وإدراكه، ولهذا قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "حدثوا لناس بها يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله".

 

4- تحديد الأولويات: فالخطيب أثناء استخدام أسلوب الترغيب والترهيب يضع لنفسه أولويات ويراعى عند التحذير من المعاصي أن يقدم الأمر الأهم على المهم والأصل على الفرع، فهو يقدم أمور العقائد على غيرها من العبادات والأخلاق، ويقدم الفروض على المندوبات والنوافل، والمحرمات على المكروهات، والمصالح العامة على المصالح الخاصة عند التعارض.

 

5- مراعاة المآلات: ومراعاة ما يترتب على استخدام الترغيب الترهيب بأن يوازن بين ما يحصل من مفاسد، وما يترتب على ترهيبه من مصالح، إذ لابد أن تكون المصلحة الترهيبية راجحة على المفسدة؛ لأن هذا هو الذي يحبه الله ويرضاه وبهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب لذا إن تأكد للداعية حدوث مفسدة أعظم من التي أراد إزالتها بسبب ترهيبه فليس له أن يرهب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الأمر والنهي متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوق من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة".

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات