الرسول خطيبا، كأنك تراه

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: إلقاء الخطبة

اقتباس

وكان يراعي في وقت حال ما يحتاج الناس إِلى بيانه، لا يتكلف السجع ولا التعمق. بل جُلُّ قصده إِبلاغ المعاني النافعة بأوضح العبارات وأقصرها. ولقد أوتي جوامع الكلم. وكان يردد اللفظ أو المعنى حسب ما يحتاج المقام إِلى ترديده، وهذا أولى ما يعتمده الخطيب، ولا بأس مع ذلك بمراعاة تحسين الألفاظ من غير تكلف.

 

 

 

 

صلاة الجمعة من أعظم شعائر الإسلام، وأكبر اجتماع أسبوعي للمسلمين، وأعظم مشهد من مشاهد الوحدة والاجتماع والتآخي بين أبناء العالم الإسلامي، لذلك افترض الله -عز وجل- شهودها على الرجال، ولم يأذن في التخلف عنها؛ إلا لمعذور من سفر، أو مرض، واستحب لها البكور، ولبس أفضل الثياب، ومس الطيب، وأوجب الغسل لها، أو استُحب على خلاف بين العلماء.

 

جوهر صلاة الجمعة وعمادها؛ الخطبة؛ من أجلها بنيت المنابر، وأوجب الله -عز وجل- الإنصات للخطيب فيها، ومن قال فيها لصاحبه: أنْصتْ فقد لغا، ولا جمعة له. ومن مَسَّ الحصى فقد لغا ولا جمعة له. وإن خطبةً بهذه المثابة والأهمية؛ تستحق العناية والاهتمام من قبَل الإِمام الخطيب والمأموم، والجهة الرسمية الراعية لهذا القطاع على حدٍّ سوَاء. بل تستحق العناية من العلماء في مؤلفاتهم، والدعاة في كتاباتهم.

 

وقدوة الخطباء، وإمام الدعاة، ومعلم البشرية، هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-، الإنسان الكامل الذي كَمُل في صفاته، وخلاله، ومعارفه، وعلومه، من معينه يقتبس الجميع، وعلى يديه تتلمذ الأئمة، والعلماء، والخطباء، وإن الوقوف على خطب النبي -صلى الله عليه وسلم-وأساليبه في الخطاب بصفة عامة، ودراسة سمات ذلك، واستخراج مواطن القدوة، والأسوة الحسنة لنا في كلامه وفي خطبه -صلى الله عليه وسلم- فإنَّ هذا من هديه -صلى الله عليه وسلم- الذي هو خير الهدْي، ومن أهم وأوكد مهام الخطباء والدعاة في هذا العصر، الذي يتشابه-في نقاط كثيرة- مع العصر الأول للدعوة. وفي هذا المقال سوف نتعرض للهدي النبوي في خطبة الجمعة، سواء القولي أو الفعلي، ونتوسع في وصف الأداء الخطابي للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وشعارنا في ذلك " رسولنا يخطب، كأنك تراه ".

 

أولاً: الهدي الفعلي للنبي -صلى الله عليه وسلم-في الخطبة:

 

إِذا ما أراد المرء الهداية، وأحسن الأساليب في الخطبة، وفي سواها؛ فعليه أن يطلبها في كتاب اللّه -تعالى-، ويطلبها في حديث رسول اللّه وسيرته. وحسبك أن خير الحديث -في حكمه تعالى-كتاب اللّه، وأن خير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه هو أفصح من نطق بالضاد، وأنه أحسن الناس خُلقاً، وأجلهم حكمة، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد ولد آدم. وفيما يلي بيان لهديه -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة مصنَّفا على:

 

1 -هديه في الفعل.          2 -هديه في القول.

 

أولاَ: الهدي الفعلي للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة:

 

اشتملت الأحاديث التي وردت في هديه -صلى الله عليه وسلم- في الخطابة على عدة أمور نستطيع أن نستخلص منها كيفية أدائه الخطابي -صلى الله عليه وسلم-، من ذلك على ما يلي:

 

1-كان يخطب قائماً. كما في حديث جابر بن سمرة -رضي الله- عنه عند مسلم، وأبي داود. وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة: 11] كما في الحديث عند مسلم والنسائي.

 

2-كان يخطب على المنبر. لما ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب -بادئ الأمر- على جذع نخل، ثم بنى له الأنصار منبراً من خشب، من ثلاث درجات، فاتخذه للخطبة، وحنّ الجذع على فراقه -صلى الله عليه وسلم- وبكى مثل الأطفال.

 

 3-كان يخطب خطبتين، يفصل بينهما بجلوس خفيف.كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنه وعن أبيه- عند البخاري، ومسلم وغيرهما.

 

4-كان يقرأ القرآن في الخطبة، ويُذكّر الناس.كما في حديث جابر بن سمرة، وفي حديث جابر بن عبد اللّه عند مسلم، وغيره: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ بآيات من القرآن ويذكّر الناس .

 

5-كان يشير -أحياناً- إِشارةً خفيفةً بيده بإِصبعه المسبّحة. كما يدل عليه حديث عمارة بن رويب -رضي الله عنه- عند مسلم، والترمذي، وأبي داود، والنسائي.

 

6-كان إِذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول:" صبّحكم ومسّاكم"، كما في حديث مسلم، والنسائي عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، وفي رواية للنسائي: "وكان إذا ذكر الساعة احمّرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه نذير جيش، يقول:" صبّحكم ومساكم".

 

7 ـ كانت صلاته -صلى الله عليه وسلم- قَصْداً، وخطبته قَصداً. كما في حديث جابر بن سمرة عند أبي داود. وله: كان رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هُنَّ كلماتٌ يسيراتٌ. وفي حديث عمّار -رضي الله عنه-: إني سمعت رسول اللّه –صلى الله عليه وسلم- يقول:" إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنّة من فقْهه، فاقصروا الخطبة وأطيلوا الصلاة، وإن من البيان لسحراً " أخرجه مسلم، وفي رواية عنده وعند أبي داود عن عمار قال: أمرنا رسول اللّه بإقصار الخطبة.

 

8-كان كلامه -صلى الله عليه وسلم- بصفة عامة قليلاً، لو عده العادّ لأحصاه.كما كان في بعض كلامه   تكرار للكلام حتى يفهم عنه.

 

ثانياً: الهدي القولي للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة:

 

اشتملت الأحاديث التي وردت في ذلك على عدة أمور، منها ما يلي:

 

1-قد صحّ من فعله -صلى الله عليه وسلم- أنه إِذا خطب حمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله.

 

 2-كان في الخطبة يقرأ القرآن ويذكّر الناس.

   

3-كان في مقدمة خطبته يحمد اللّه، ويثني عليه بما هو أهله، وذلك بصيغ مختلفة، فتارة يقول: "من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب اللّه ... ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً، فإليَّ وعليَّ ". وتارة يقول: " نحمد اللّه ونثني عليه بما هو أهله، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب اللّه، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". ثم يقول: " بُعثت أنا والساعة كهاتين ". وكان إِذا تشهد قال: "الحمد للّه، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يُطع اللّه ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر اللّه شيئاً ".

 

ثالثاً: الهدي الموضوعي للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة:

 

قد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب خطبَاً عامة، وخطباً خاصة، وخطباً راتبة في الجمع والأعياد ونحوها، وخطباً عارضة بحسب الأسباب والدواعي. وكانت خطبه كلّها دعوة إِلى اللّه، وإِلى صراطه المستقيم، وتوضيحاً للأصول النافعة والأعمال الصالحة، وترغيباً في أصناف الخيرات، والإِحسان إِلى المخلوقات، وترهيباً من الأعمال الضارة والأخلاق السيئة. وكان الغالب على خطبه الاختصار والاقتصار على ما يحصل به المقصود. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِن طول صلاة الرجل وقصَرَ خطبته؛ مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة".

 

وكانت مواعظه على نوعين: نوع يعظ الناس وعظاً مطلقاً، ويُرغب في الخير، ويرهب من الشر، ويشوّق إِلى ما أعد اللّه للطائعين من الكرامة، ويحذِّرهم مما أعدّ اللّه للعاصين من الإهانة؛ ليثير في القلوب الإيمان، والرغبة في الخير، والرهبة من الشر. ونوع من وعظه: يُفصِّل ما يحتاج الناس إلى تفصيله، ويوضحه لهم توضيحاً.

 

فالنوع الأول: وعظ وإيقاظ وتذكير. والنوع الثاني: تبيين وتعليم وتفصيل.

 

وكان يراعي في وقت حال ما يحتاج الناس إِلى بيانه، لا يتكلف السجع ولا التعمق. بل جُلُّ قصده إِبلاغ المعاني النافعة بأوضح العبارات وأقصرها. ولقد أوتي جوامع الكلم. وكان يردد اللفظ أو المعنى حسب ما يحتاج المقام إِلى ترديده، وهذا أولى ما يعتمده الخطيب، ولا بأس مع ذلك بمراعاة تحسين الألفاظ من غير تكلف.  

  

والخلاصة: أن التأسي في خطبة الجمعة برسول اللّه، بنصوص الكتاب والسنة، والسعي في تحقيق مقاصدهما وهدايتهما؛ من أهم ما يلزِم الخطيب أخْذه بعين الاعتبار، عند إعداده للخطبة موضوعاً وغايةً وأسلوباً. كما أن الاهتداء بالكتاب والسنة؛ يوجب على الخطيب الرجوع إِليهما، والاستنباط منهما، ودراستهما، والعناية بهما.

  

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات