محنة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي: شهيد الدفاع عن القرآن

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

تم إحضار الإمام أحمد مقيداً بأرطال الحديد إلى مجلس الواثق الذي عقده في مدينة سامرا خشية تفارط الحال وثورة أهل بغداد لو علموا بمآل الإمام أحمد، وكان كما قلنا قد بايعه ألوف منهم، وقد استدعي الواثق رؤوس المعتزلة وأئمتهم؛ لاستفتائهم فيما يفعله مع الإمام..

 

 

 

الثبات حتى الممات، والصدع بالحق، واحتمال الأذى في سبيل الله، وإدراك مكانة الأئمة وأهل العلم، ومعرفة حجم المسئولية الملقاة على عاتقهم، وإيثار مرضاة الله -عز وجل- على غيرها، والنصح وبيان أحكام الشرع، كلها صفات وخلال الربانيين من علماء هذه الأمة المباركة، فكم من عالم أُوذي في الله كثيراً، فضُرب وسُجن وحُوصر ونُفي وطُورد وخُوف وعُذب وهُدد ونُكل به حتى يرجع عن الحق وبيانه أو يسكت عن الباطل ويؤيده، ورغم ذلك كله ثبت على طريقه، وباع نفسه لله -عز وجل-، وجاد بأعز ما يملك أي إنسان؛ روحه ومهجته، في سبيل الله، ولم يبال بتهديد سلطان، ولا قهر طغيان، ولا تسلط جهلة ودهماء، حتى أتاه اليقين ونال أعز مطلوب، وأشرف موهوب؛ الشهادة في سبيل الله، فصارت أخباره وتضحيته مثلاً للعالمين وآية في الغابرين، ونوراً للسالكين.

 

التعريف بالإمام ومكانه العلمية:  

هو الإمام العَلَم الكبير أبو عبد الله أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي، من أهل بغداد، كان من أهل العلم والدِّيانة والعمل الصَّالح والاجتهاد فِي الخير، وكان من أئمَّة السُّنَّة الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر، قويَّ النفس، ثابت الجنان، شجاعًا، يقول كلمة الحق دون وجل ولا تردد، لا يخاف في الله لومة لائم، ينتهي نسبه إلى قبيلة خزاعة الكبيرة صاحبة التاريخ الكبير خاصة فيما يتعلق بالحرم المكي وأحداثه الكبرى.

 

نشأ في بيت فضل وعلم ورئاسة وعلائق مذكورة بالبيت العباسي والدولة العباسية، فقد كان جده مالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس في ابتداء الدولة العباسية، وكان له الأثر المذكور في قيام الدولة، وأبوه هو نصر بن مالك من وجهاء الدولة ومن رجالاتها، وهو أيضاً من أهل الحديث وسماعه، وكان له رحبة (مكان متسع يشبه الأسواق) يسمى سويقة نصر بن مالك في بغداد، وفي هذا الجو المحتشم من الرئاسة والعلم والفضل نشأ صاحبنا الإمام أحمد بن نصر.

 أما عن علمه فقد تلقى العلم من كبار العلماء وسمع منهم الحديث وحمله عن كبارهم، فسمع من آدم بن أبي إياس، إسماعيل بن أبي أويس، إسماعيل ابن علية، سفيان بن عيينة، سليمان بن صالح المروزي، عبد الله بن المبارك، عبد الرزاق بن همام، على بن الحسن بن شقيق، على بن الحسين بن واقد، على ابن المديني، وكيع بن الجراح، يزيد بن هارون.

 

وقد أثنى عليه علماء الزمان ومشاهير الأعيان، وشهدوا له بالفضل والخيرية وحسن الخاتمة، ذكره الإمام أحمد بن حنبل يوماً فقال: -رحمه الله- ما كان أسخاه بنفسه لله لقد جاد بنفسه له. قال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، قال: سمعت يحيى بن معين، و ذكر أحمد بن نصر بن مالك فترحم عليه و قال: قد ختم الله له بالشهادة، قلت ليحيى: "كتبت عنه شيئاً؟ قال: نعم، نظرت له في مشايخ الجنديين، وأحاديث عبد الصمد بن معقل، و عبد الله بن عمرو بن مسلم الجندي، قلت ليحيى: "من يحدث عن عبد الله بن عمرو بن مسلم؟ قال: عبد الرزاق قلت: ثقة هو؟ قال: ثقة، ليس به بأس، قلت: فأبوه عمرو بن مسلم الذى يحدث عن طاووس كيف هو؟ قال: وأبوه لا بأس به، ثم قال يحيى: كان عند أحمد بن نصر مصنفات هشيم كلها، و عن مالك أحاديث كبار، ثم قال يحيى: كان أحمد يقول: ما دخل عليه أحد يصدقه  يعني (الخليفة) غيره  ثم قال يحيى: ما كان يحدث، كان يقول لست موضع ذاك يعنى "أحمد بن نصر بن مالك -رحمه الله-"، و أحسن يحيى الثناء عليه .قال النسائي: ثقة .

 

عقيدته وأثره في أهل بغداد:

كان أحمد بن نصر الخزاعي من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.كما لم يكن الإمام أحمد من العلماء المنعزلين عن الواقع، المحجوبين من عامة الناس في أبراجهم العاجية وعلومهم النظرية ومسائلهم الافتراضية، بل كان رجل عامة، وكهف يأوي إليه الناس وقت النوازل لمعرفة الحق من الباطل، والخير من الشر.

وقد ورث الإمام أحمد هذه الوجاهة الاجتماعية والمكانة الشعبية عن أبيه نصر بن مالك الذي بايعه أهل بغداد بيعة خاصة سنة 201 هـ عندما اضطربت الأمور في الخلافة العباسية بسبب وإجراءات الخليفة المأمون العباسي الثورية التي قام بها وزلزلت البيت العباسي عندما اختار أحد أئمة أهل البيت  (علي الرضا)؛ ليكون ولي عهده، وخلع السواد شعار الدولة واتخذ اللون الأخضر بدلاً منه، وواكب هذه الإجراءات خروجه إلى خراسان، فاضطربت الأوضاع الأمنية في بغداد وانتشر العيارون والسراق وقاطعي السبيل، وعمت الفوضى، فلم يجد العامة أفضل من نصر بن مالك، ورجل آخر اسمه  (سها بن سلامة) لمبايعتهما على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضبطا العاصمة ومنعا اللصوص والمفسدين وقطاع الطرق حتى عاد الخليفة المأمون سنة 202هـ من خراسان، وألغى قراراته السابقة.

 

كانت عقيدة الإمام أحمد هي عقيدة أهل الحديث، يثبتون الصفات الواردة في الكتاب والسنة من غير تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تشبيه، وكان يدعوا لذلك ليل نهار، فلما وقعت فتنة القول بخلق القرآن في أواخر عهد المأمون ثبت في الحق ولم يخضع للسلطة كما حدث من بعض أهل العلم وقتها، ولم يتحجج بالإكراه، وعصمة وجاهته الاجتماعية ومنزلة أسرته وأثرها في الدولة وأهل بغداد من أذى المعتزلة الذي أصاب غيره من أهل العلم مثل الإمام أحمد ومحمد بن نوح وسجادة وغيرهم ممن ابتلوا ابتلاء شديداً في عهد المعتصم العباسي خليفة المأمون.

 

الواثق العباسي وفتنة المعتزلة:

انشغل الناس في عهد المعتصم بالأحداث الكبرى التي وقعت في الدولة الإسلامية مثل ثورة بابك الخرمي، واعتداء الدولة البيزنطية على حدود الدولة الإسلامية في الشمال، وبناء المدن الجديدة، وبالتالي لم ينشغل المعتصم بفتنة القول بخلق القرآن التي أثارها المعتزلة في أواخر عهد أخيه المأمون إلا في بداية عهده بسبب وصية المأمون له بذلك، فلما وقعت الأحداث الجسام انشغل عنها بالجهاد ضد أعداء الإسلام، لذلك عفا الإمام أحمد بن حنبل عن المعتصم وتجاوز عن ضربه وسجنه إياه كما هو معروف تاريخياً.

فلما جاء الواثق بالله بن المعتصم بالله ورث ملكاً ثابتاً واستقراراً عن أبيه جعله يلتفت إلى كلام المعتزلة بوجوب حمل الناس على القول بخلق القرآن، فكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، اعتماداً على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان ولا حجة ولا بيان ولا سنة ولا قرآن. وبلغ درجة عظيمة من الغلو في هذا الباب تمثلت في عدة إجراءات قام بها من أبرزها:

تعيين كل قضاة الدولة من المعتزلة وخلع أي قاضٍ يقول بأن القرآن كلام الله.

 

إلزام المدرسين والمعلمين في الكتاتيب بتلقين الطلبة والأطفال عقيدة المعتزلة.

 

اختيار الولاة وموظفي الدولة من محتسبين وأئمة ومؤذنين للتأكد من قولهم بخلق القرآن.

 

قطع الأرزاق والتضييق على كل العلماء الرافضين للقول بخلق القرآن ومنعهم من التدريس والتحديث، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل قد اضطر للاختفاء في عهده المشئوم.

 

وصل الغلو لدرجة لا تصدق باختبار أسرى المسلمين لدى الروم، فمن قال منهم بخلق القرآن فكوا أسره ودفعوا ديته، ومن رفض تركوه أسيراً لدى الروم.

 

موقف الإمام أحمد بن نصر من انحراف الواثق العباسي:

 ولما بلغ الواثق هذا الشطط من القول بخلق القرآن وأصبح المسلمون على شفا هلكة وضياع في أعز ما يملكون؛ عقيدتهم ودينهم، انتصب الإمام أحمد لمواجهته، فصدع بالحق، وأعلن رفضه لإجراءات الواثق وشططه وعتوه، فوجد الناس فيه ضالتهم، واجتمعوا عليه بأعداد كبيرة يصغون إلى كلامه ويأتمرون بأوامره.

 

 وهنا تكرر نفس المشهد الذي حدث مع أبيه نصر بن مالك عندما بايعه أهل بغداد سنة 201 هـ بعد خلو بغداد من حاكم وانتشار المفسدين والمجرمين. فقد اجتمع أهل بغداد على الإمام أحمد بن نصر وبايعوه على الأمر بن المعروف والنهي عن المنكر. وكان من رؤساء أصحابه رجلان؛ أبو هارون السراج في الجانب الشرقي من المدينة، وطالب في الجانب الغربي من المدينة، وكانا من أنشط وأخلص أتباع الإمام أحمد، فاجتهدا في الدعوة إلى بيعته والانتظام في جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

 مع الوقت انتظم عدة آلاف من أهل الحديث وأهل بغداد في بيعة الإمام أحمد بن نصر الخاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتصدي لفتنة القول بخلق القرآن، وكان رؤوس أصحاب الإمام أحمد يجتمعون عنده بانتظام مما لفت الانتباه لدى شرطة بغداد التي دست على مجلس الإمام أحمد من ينقل لها الأخبار، وكان الإمام أحمد شديداً في الحق ولا يخاف من سلطان ولا طغيان، فكان يشتد في انتقاد الخليفة الواثق ويصفه بعبارات شديدة، فتم رفع الأمر إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس شرطة بغداد الذي أسرع بإبلاغ الواثق، فأمر بالقبض على الإمام أحمد ورؤوس أصحابه.

 

ثبات الإمام أحمد ومقتله:

تم إحضار الإمام أحمد مقيداً بأرطال الحديد إلى مجلس الواثق الذي عقده في مدينة سامرا خشية تفارط الحال وثورة أهل بغداد لو علموا بمآل الإمام أحمد، وكان كما قلنا قد بايعه ألوف منهم، وقد استدعي الواثق رؤوس المعتزلة وأئمتهم؛ لاستفتائهم فيما يفعله مع الإمام.

 فلما أُحضر الإمام أحمد أمام الواثق، لم يتوجه إليه بسؤال عن سبب إحضاره ولا قصة البيعة الخاصة، ولكن دار بينهما هذا الحوار العجيب:

وقال الواثق‏: ‏ ما تقول في القرآن‏؟ ‏

فقال‏ الإمام: ‏ هو كلام الله‏. ‏

قال‏ الواثق: ‏ أمخلوق هو؟ ‏

قال‏ الإمام: ‏ هو كلام الله‏. ‏

 

وكان الإمام أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له‏: ‏ فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة‏؟ ‏

 

فقال‏: ‏ "يا أمير المؤمنين‏! ‏ قد جاء القرآن والأخبار بذلك، قال الله –تعالى-: ‏(‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏"‏إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته‏ ".‏ فنحن على الخبر‏.

زاد الخطيب البغدادي في تاريخه: قال الواثق‏:‏ "ويحك!‏ أيرى كما يرى المحدود المتجسم‏؟‏ ويحويه مكان ويحصره الناظر‏؟‏ أنا أكفر برب هذه صفته"‏.‏

 

قلت‏ - أي ابن كثير -:‏ وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح، والله أعلم‏.‏ ثم قال أحمد بن نصر للواثق‏:‏ وحدثني سفيان بحديث يرفعه‏:‏ "‏إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء‏".‏

 

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك‏".

 

فقال له إسحاق بن إبراهيم‏:‏ ويحك ‏!‏ انظر ما تقول‏.‏

 

فقال‏:‏ أنت أمرتني بذلك‏.‏

 

فأشفق إسحاق من ذلك وقال‏: ‏ أنا أمرتك‏؟ ‏

 

قال‏: ‏ نعم ‏! ‏ أنت أمرتني أن أنصح له‏. ‏

فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق – وكان قاضياً على الجانب الغربيّ -وكان حاضراً وكان أحمد بن نصر ودّاً له من قبل: يا أمير المؤمنين؛ هو حلال الدّم، وقال أبو عبد اللّه الأرمّني صاحب رأس المحنة أحمد بن أبي دؤاد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد، وقال أحمد بن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين كافر يستتاب؛ لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل – متظاهراً بكراهية قتله – فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومنّ أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه. ودعا بالصمصامة – سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي  – فأخذ الواثق الصمصامة فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه وحز رأسه.

 

 وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه، فحمل معترضاً حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فصلب في الجانب الشرقي أياماً وفي الجانب الغربي أياماً، ثم حول إلى الشرق؛ وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر؛ وكتب في أذنه رقعة: هذا رأس الكافر المشرك الضال؛ وهو أحمد بن نصر بن مالك؛ ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن وفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق؛ فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه. وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك؛ فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه.

 

 

كرامات الإمام الشهيد:

بعد مقتل الإمام أحمد على يد الواثق ومن معه بهذه الصورة الانتقامية وقعت له عدة كرامات بلغت من شهرتها حد التواتر بين المؤرخين والمعاصرين. فقد قال جعفر بن محمد الصائغ‏: ‏ بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه‏: ‏ لا إله إلا الله‏.

عن أحمد بن كامل القاضي قال: حمل أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي من بغداد إلى سر من رأى، ونصب رأسه ببغداد، على رأس الجسر، وأخبرني أبي أنه رآه، وكان شيخاً أبيض الرأس واللحية، وأخبرني أنه وكل برأسه من يحفظه بعد أن نصب برأس الجسر، وأن الموكل به ذكر أنه يراه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه، فيقرأ سورة يس، بلسان طلق، وأنه لما أخبر بذلك طلب، فخاف على نفسه فهرب.

 

وعن إبراهيم بن إسماعيل بن خلف قال: كان أحمد بن نصر خالي، فلما قتل في المحنة، وصلب رأسه، أخبرت أن الرأس يقرأ القرآن، فمضيت، فبت بقرب من الرأس مشرفاً عليه، وكان عنده رجالة وفرسان يحفظونه، فلما هدأت العيون، سمعت الرأس يقرأ: (الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت:2]، فاقشعر جلدي، ثم رأيته بعد ذلك في المنام وعليه السندس والإستبرق، وعلى رأسه تاج، فقلت: ما فعل الله -عز وجل-بك يا أخي؟ قال: غفر لي، وأدخلني الجنة. إلا أني كنت مغموماً ثلاثة أيام. قلت: ولم؟ قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه و سلم-مر بي، فلما بلغ خشبتي، حول وجهه عني. فقلت له بعد ذلك: يا رسول الله، قتلت على الحق أو على الباطل؟

فقال: أنت على الحق، ولكن قتلك رجل من أهل بيتي، فإذا بلغت إليك، أستحيى منك.

 

 ولم يزل رأسه منصوباً من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان سنة 231هـ إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة 237هـ، فجمع بين رأسه وجثته بأمر من الخليفة المتوكل على الله، ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية في جنازة مهيبة حضرها معظم أهل بغداد.

 

أعظم كرامات الإمام:

أما أعظم كرامة أظهرها الله -عز وجل- في محنة الإمام أحمد بن نصر هو ما جرى مع خصومه والمحرضين عليه، ممن زينوا للواثق قتله، واستباحوا دمه، فقد صدق فيهم قول الله -عز وجل-: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْح)  [الأنفال:19].

 

فقد روى أصحاب التاريخ ومنهم ابن كثير والخطيب وغيرهما أن الإمام عبد العزيز الكناني صاحب كتاب (الحيدة) دخل على الخليفة العباسي المتوكل - وكان حسن العقيدة – فجرى ذكر الإمام أحمد بن نصر في ثنايا الكلام، فقال للمتوكل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما رأيت أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن‏.

فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل‏: ‏ "في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر"‏.

فقال‏:"‏ يا أمير المؤمنين ‏أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً‏". ‏

 

ودخل عليه هرثمة بن أشرس (من رؤوس المعتزلة) فقال له في ذلك فقال‏: ‏ "قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً"‏. ‏

 

ودخل عليه قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد فقال له مثل ذلك فقال‏: ‏ "ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً"‏.

فكيف كانت مصارعهم؟

قال المتوكل‏:‏ فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار‏.‏ وذكر ابن الأثير نهاية ابن الزيات بالتفصيل فقال: "لما ولي الخلافة المتوكل أمهل حتى كان صفرًا، فأمر إيتاخ  التركي بأخذ ابن الزيات وتعذيبه، فاستحضره فركب يظن أن الخليفة يستدعيه، فلما حاذى منزل إيتاخ عدلا به إليه، فخاف فأدخله حجرة، ووكل عليه وأرسل إلى منازله من أصحابه من هجم عليها، وأخذ كل ما فيها واستصفى أمواله، وأملاكه في جميع البلاد، وكان شديد الجزع كثير البكاء والفكر، ثم سوهر وكان ينخس بمسلة لئلا ينام، ثم ترك فنام يومًا وليلة، ثم جعل في تنور عمله هو وعذب به ابن أسماط المصري وأخذ ماله، فكان من خشب فيه مسامير من حديد أطرافها إلى داخل التنور وتمنع من يكون فيه من الحركة، وكان ضيقًا بحيث إن الإنسان كان يمد يديه إلى فوق رأسه ليقدر على دخوله لضيقه ولا يقدر من يكون فيه يجلس، فبقي أيامًا فمات، وكان حبسه لسبع خلون من صفر وموته لإحدى عشرة بقيت من ربيع الأول. واختلف في سبب موته فقيل كما ذكرناه، وقيل: "بل ضرب فمات وهو يضرب، وقيل: "مات بغير ضرب وهو أصح، فلما مات حضره ابناه سليمان وعبيد الله، وكانا محبوسين وطرح على الباب في قميصه الذي حبس فيه، فقالا: الحمد لله الذي أراحنا من هذا الفاسق. وغسلاه على الباب ودفناه، فقيل: إن الكلاب نبشته وأكلت لحمه، قال: وسمع قبل موته يقول لنفسه: يا محمد؛ ألم تقنعك النعمة، والدواب، والدار النظيفة، والكسوة وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة؛ ذُق ما عملت بنفسك، ثم سكت عن ذلك.

 

وأما هرثمة فإنه هرب من مصير ابن الزيات، بعد أن رفع المتوكل المحنة وأمر بتتبع رؤوس المعتزلة ومحاسبتهم، فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال‏: ‏ "يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه، فقطعوه إرباً إرباً، ثم أخرجوا جثته وألقوها في الخرابة فنهشتها الكلاب.

وأما قاضي المحنة ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده – يعني‏:‏ بالفالج –-ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جداً".

 

أما الواثق نفسه فقد مات في شرخ شبابه بلا علة ظاهرة، فما كان من أهله إلا أن تركوا جثته بلا تحضير وانشغلوا بأمور البيعة لأخيه المتوكل، فدخل جرذ كبير فنهش لحم خده واستل عينه ومضى بها، فلما دخلوا عليه لتجهيزه وجدوه بهذه الصورة المشوهة.

 

هل خرج الإمام أحمد على الخليفة الواثق؟

من الأمور التي أثارت جدلاً وفهمها الكثيرون بصورة خاطئة: هل خرج الإمام أحمد بن نصر على الحاكم الشرعي وقتها؛ الواثق العباسي؟!

 

الخلاف إنما جاء من الاقتصار على رواية تاريخية دون غيرها، فجمع الروايات التاريخية في نفس الحدث تكشف القصة من جميع جوانبها، ومن اختصر في رواية، بُسط في الأخرى، وما أُبهم في راوية، بُيّن في أخرى، وهكذا.

 

وخبر الخزاعي ورد بطرق ضعيفة مثل التي رواها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن الصولي، وسندها لا يحتجُ به: فإن محمد بن يحيى الصولي لم يدرك زمن هذه الواقعة، وليس له رواية عن أحمد بن نصر الخزاعي، وقد قُتِلَ أحمد بن نصر الخزاعي سنة 231هـ، فَبَيْنَ قَتْل أحمد بن نصر ووفاة الصولي خمس سنوات ومائة سنة، فمن المؤكد أنه لم يسمع منه، ولم يدرك هذه القصة، والصولي من جملة مشايخه أبو داود، وأبو داود نفسه لم يسمع من الخزاعي، إنما روى عنه بواسطة فما ظنك بتلميذه.

 

ورواية الطبري هي أصح الروايات في خبر الإمام الخزاعي، فقد كان الطبري معاصراً للحدث على صغر سنه وقتها إلا إنه سمع ممن شاهدها ورآها رأي العين، وهذه الرواية كشفت عن حقيقة هامة: أن الإمام أحمد لم يخطط للخروج على الخليفة الواثق، إنما ذلك من صنع بعض أتباعه الذين أخذتهم الحمية والحماسة ممن بايعه على المر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد استوثقت النفوس وامتلأت غيظاً وكراهية من غلو الواثق وعتوه، لذلك فهموا بيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أنها بيعة عامة، وأعدوا العدة للخروج فعلاً على الواثق دون علم الإمام أحمد، وهو ما أوضحته وبينته رواية الطبري ، لذلك فالواثق لم يلتفت إلى اتهام الإمام بالخروج عليه، ولم يسأله عنه من الأساس.

 

قال الطبري -رحمه الله- بعد أن أورد خبر الإمام أحمد وبيعة الناس له: "وأنّ الذي كان يسعى به في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهم وإن أبا هارون السّراج وطالباً فرّقا في قوم مالاً، فأعطيا كلّ رجل منهم ديناراً ديناراً، وواعدهم ليلةً يضربون فيها الطّبل للاجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان؛ فكان طالب بالجانب الغربيّ من مدينة السّلام فيمن عاقده على ذلك، وأبو هارون بالجانب الشرقيّ فيمن عاقده عليه؛ وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرّقانها في جيرانهم، فانتبذ بعضهم نبيذاً، واجتمع عدّة منهم على شربه، فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة؛ وكان الموعد لذلك ليلة الخميس في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، لثلاث تخلو منه، وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل، فلم يجبهم أحد.

 

وكان إسحاق بن إبراهيم غائباً عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم غلاماً له يقال له رحش فأتاهم فسألهم عن قصّتهم، فلم يظهر له أحد ممن ذكر بضرب الطّبل، فدلّ على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه، يقال له عيسى الأعور، فهدّده بالضرب، فأقرّ على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر بن مالك وعلى آخرين سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم؛ فأخذ بعضهم، وأخذ طالباً ومنزله في الرّبض من الجانب الغربي، وأخذ أبا هارون السّراج ومنزله في الجانب الشرقيّ، وتتبّع من سمّاه عيسى الأعور في أيام وليال، فصيّروا في الحبس في الجانب الشرقيّ والغربيّ، كلّ قوم في ناحيتهم التي أخذوا فيها، وقيّد أبو هارون وطالب بسبعين رطلاً من الحديد كلّ واحد منهما، وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر، فتولّى إخراجهما رجلٌ من أعوان محمد بن عياش – وهو عامل الجانب الغربيّ، وعامل الجانب الشرقيّ العباس بن محمد بن جبريل القائد الخرساني – ثم أخذ خصىّ لأحمد ابن نصر فتهدّد، فأقرّ بما أقرّ به عيسى الأعور، فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمّام، فقال لأعوان السلطان: هذا منزلي؛ فإن أصبتم فيه علماً أو عدّة أو سلاحاً لفتنة فأنتم في حلّ منه ومن دمي؛ ففتش فلم يوجد فيه شيء، فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيّين وابنين له ورجلاً ممن كان يغشاه يقال له اسماعيل بن محمد بن معاوية بن بكر الباهليّ، ومنزله بالجانب الشرقيّ، فحمل هؤلاء الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرّا على بغال بأكفٍ ليس تحتهم وطاء، فقيّد أحمد بن نصر بزوج قيود، وأخرجوا من بغداد يوم الخميس لليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان الواثق قد أعلم بمكانهم، وأحضر ابن أبي دؤاد وأصحابه، وجلس لهم مجلساً عاماًّ ليمتحنوا امتحاناً مكشوفاً، فحضر القوم واجتمعوا عنده ".

 

فالرواية تشهد أن الإمام أحمد لم يكن على علم بالقصة، ولم يكن عنده سلاح ولا أعلام ولم يعثروا عنده على أي استعدادات توحي بالخروج، لذلك لم يسأله الواثق عن تهمة الخروج والتي كانت تكفي وحدها للتنكيل به وقتله.

 

أيضاً معاصرو الإمام أحمد بن نصر من أهل العلم والأئمة وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل لم يروا جواز الخروج على الخلفاء رغم ظلمهم وفسادهم لأسباب كثيرة، وحوار أحمد بن نصر مع الواثق ومخاطبته بإمرة المؤمنين دليل آخر على أنه لم يخرج على الخليفة.

 

أما مناقشة أحمد بن نصر للواثق لا تُعدّ خروجًا، وإنما مخالفة في الرأي مع الواثق، وكان من الممكن لأحمد بن نصر أن يجاري الواثق وأن يوهمه بأنه مقتنع بكلامه في مسألة خلق القرآن، فيخلي سبيله، ولكنه لم يفعلْ، فجاد بنفسه عن أن يقول: إن القرآن مخلوق، وهذا هو معنى كلام الإمام أحمد الذي استدل من خلاله البعض على الخروج، فهو قد ضحَّى بنفسه وجاد بها كي لا يقول ما يُغضِب الله، وكان من الممكن أنْ يَعُدّ نفسَه مُكرَهًا على الاعتراف بخلق القرآن، ولكنه جاد بنفسه في سبيل الله.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
ابوحازم الحازمي
13-04-2020

رحم الله إمام اهل السنه بن حنبل وجمعنا به وإخواننا اهل السنه ووالدينا بمستقر رحمته

عضو نشط
زائر
14-01-2021

كانوا رجال ونحن رجال رحمه الله علي الامام احمد بن نصر و الامام احمد بن حنبل

عضو نشط
زائر
07-06-2022

اللهم اغفر له وارحمه وارفع منزلته واجمعنا به في مستقر كرامتك ياذا الجلال والإكرام