إستراتيجية تغلب الخطيب على عوائق التغيير(2/1) (التقليد، والجبن)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: مقالات

اقتباس

فإذا اتخذ مروجو الحرام أسلوب تزيين القبيح وإلباس الجسد الأجرب ثوبًا من حرير؛ فسموا الخمر: «مشروبات روحية»، كما سموها قديمًا: «أم الأفراح»، وإذا كسوا الزنا بكساء «الحب»، وإذا وصفوا الرقص بأنه «فن»... فليفضح الخطيب هذا الزيف الخادع، وليخلع عنه ذاك الثوب المبهرج، وليظهره على حقيقته الكريهة العفنة..

 

 

 

لقد تعرضنا في مقالنا السابق إلى ما سميناه: «استراتيجية إحداث التغيير»، وقدمنا فيها بنودًا ومراحل محددة مدروسة للتغيير، وادعينا أن اتباع تلك المراحل هو الطريق الصحيح والناجع للتغيير.

 

لكن قد يتبع الخطيب تلك المراحل المتدرجة والبنود المنطقية، ويبذل الجهد ولا يقصِّر، ويثابر ويواظب على آليات التغيير، لكنه لا يلقى الاستجابة المتوقعة، ولا يبدأ المخاطبون ــ أو بعضهم ــ بالتغيير، فما السبب وما العلة؟

 

السبب: هو ما يعرف بـ«مقاومة التغيير»؛ فمن المسلَّم به أن كل تغيير ــ في أي مجال من المجالات ــ لا بد أن يلقى مقاومة وممانعة ورفضًا... وليس أدل على ذلك مما فعلته الأقوام مع أنبيائهم من منازعة ومحاولة للبقاء على ما هم عليه من موروثات؛ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) [سبأ: 34]، وقال عز من قائل: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات: 52].

 

ومقاومة التغيير تلك هي السبب فيما يحدث يوم القيامة من أنه: «يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد»([1])؛ فالأنبياء لم يقصروا في أداء مهامهم، ولكنها عوامل مقاومة التغيير داخل قلوب المدعوين هي التي صدتهم. 

 

ولو فصَّلنا الأمر في مقاومة التغيير لوجدنا لها أسبابًا كثيرة تدفع المخاطبين إليها، ولقد أطلقنا على تلك الأسباب: «عوائق التغيير»، وانتقينا منها ما رأينا أنه يمس مهمة الخطيب وما هو قادر على علاجه، مقدمين استراتيجية للتغلب على كل عائق منها.

 

العائق الأول: العادة والتقليد:

 

كم من خطيبٍ واعٍ بارعٍ خطب في الناس ليغير شيئًا من تقاليدهم وعاداتهم التي تخالف الشرع فما استجيب له، وإني لأعلم خطيبًا مفوهًا في مجتمع ينتشر فيه مصافحة الرجال للنساء الأجنبيات فضلًا عن الخلوة بهن، وقد حاول أن يغيِّر تلك العادة جاهدًا، وقدَّم الدليل والبرهان في روعة وبيان... فما استجاب له إلا نفر قليل وبعد لأي، ولقد كانت حجتهم: «هو أمر تعودنا عليه طوال أعمارنا، ووُلدنا فوجدنا كل الناس تفعله»!

 

وهي نفس الحجة التي تذرعت بها الأقوام في مواجهة أنبيائهم؛ (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا) [الأعراف: 28]، ومثله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) [لقمان: 21]، فقدموا فعل الآباء على ما أنزل الله!

 

ولننظر الآن إلى الاستراتيجية التي يتبعها القرآن والسنة في علاج هذا العائق:

 

أولًا: دعوتهم إلى إعمال العقل، وتشكيكهم في القديم الذي يتمسكون به:

 

فلما قالوا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف:23]، أمر الله تعالى أن يقال لهم: (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) [الزخرف:24]، فالخطاب لعقولهم وأفهامهم: «أتتبعون ما ورثتموه وتعودتم عليه ولو كان خطأً وكان غيره أفضل وأصح؟! فأي عقل يرتضي ذلك؟!».

 

وهذه المرة يشكك الله ــ عز وجل ــ في عقول المتبوعين أنفسهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة:170]، «أي: فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم، أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه»([2]).

 

وهذا المنهج هو ما استخدمه نبي الله إبراهيم مع عبيد العادة والتقليد من قومه حين قال لهم عن أصنامهم: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) [الشعراء: 69 ــ 72]؛ فمن لا يسمع من يدعوه، ولا ينفع ولا يضر، لا يصلح أن يكون إلاهًا.

 

وهكذا ينبغي أن يكون خطاب الخطيب لأمثال هؤلاء؛ أن يبعث في نفوسهم التساؤلات والتشككات حول صحة ما هم عليه من عادات يقدسونها بلا إعمال عقل، حتى إذا تزعزعت ثقتهم بها، كرَّ عليها بالإبطال.

 

ثانيًا: المواجهة والإقناع بأفضلية الجديد على القديم:

 

لقد وقع جابر وبعض الصحابة ــ رضي الله عنهم أجمعين ــ فريسة العادة والتقليد الذي نتحدث عنه؛ فإنهم في الجاهلية «كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض»([3])، وتعودوا أن أحدهم إذا أحرم لا يقرب النساء أبدًا حتى ينتهي من حجه، فلما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتمتع، وبإباحة إتيان النساء إذا أحل من العمرة التي قبل الحج، تعاظم ذلك عندهم واستنكروه؛ بحكم ما تعودوا عليه.

 

فعن جابر وابن عباس -رضي الله عنهم- قالا: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه صبح رابعة من ذي الحجة مهلين بالحج، لا يخلطهم شيء، فلما قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة وأن نحل إلى نسائنا، ففشت في ذلك القالة، قال عطاء: فقال جابر: فيروح أحدنا إلى منى، وذكره يقطر منيًا! فقال جابر بكفه.

 

فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام خطيبًا، فقال: «بلغني أن أقوامًا يقولون كذا وكذا، والله لأنا أبر وأتقى لله منهم، ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت»([4]).

 

فقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم خطيبًا، متصديًا لتلك القالة في حسم واضح، وبيَّن أنه لولا العذر لتمتع، وكفى أنه -صلى الله عليه وسلم- تمنى أن يفعله، ليكون من أفضل الترغيب لهم في فعله.

 

ثالثًا: تحقير كل موروث مخالف للدين:

 

ففي خطبة حجة الوداع يقول -صلى الله عليه وسلم- عن موروثات الجاهلية التي ما زال أناس يتمسكون ببعضها: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع...»([5]).

 

والوضع تحت القدم، مع إفادته للإبطال([6])، لهو إشعار قوي بتحقير ذلك الشيء الذي يوضع تحت القدم.

 

فإذا اتخذ مروجو الحرام أسلوب تزيين القبيح وإخفاء الجسد الأجرب بثوب من حرير؛ فسموا الخمر: «مشروبات روحية»، كما سموها قديمًا: «أم الأفراح»، وإذا كسوا الزنا بكساء «الحب»، وإذا وصفوا الرقص بأنه «فن»([7])... فليفضح الخطيب هذا الزيف الخادع، وليخلع عنه ذاك الثوب المبهرج، وليظهره على حقيقته الكريهة العفنة.

 

ولقد أحب أهل الجاهلية الفخر بالأحساب والأنساب والآباء والأجداد، وعُرف في شعرهم ما يسمى بـ«فن الفخر»، حتى عظم عندهم، فلما أسلموا فمنهم من جرى على عادته من التفاخر بالآباء، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- محقرًا ما عظموا ومصغِّرًا ما أكبروا، قائلًا: «لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء...»([8]).

 

وليس بعيدًا عن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم»([9])، فجحر الضب معروف بشدة ضيقه ورداءته وخبثه ونتن ريحه([10])، وفي هذا من التقبيح والتنفير ما فيه.

 

رابعًا: التهديد لمن قلَّد في أمر محرم:

 

فقد أراد بعض الصحابة أن يقلدوا المشركين في أمر ما، فانظر كيف كان رد فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، يروي أبو واقد الليثي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: «ذات أنواط» يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف: 138]»([11]).

 

فتشبيهه -صلى الله عليه وسلم- لطلبهم هذا بطلب قوم موسى صنمًا يعبدونه من دون الله، لهو غاية في الترهيب مما أرادوه من تقليد مذموم.

 

وقد انتهج الخطيب المفوه معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- ذلك المنهج حين قلدت بعض المسلمات اليهود في وصل أشعارهن، فعن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع معاوية عام حج وهو على المنبر، وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي، يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن مثل هذه، ويقول: «إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم»([12])، وقال معاوية مرة: «ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود».

 

العائق الثاني: الجبن والتردد:

 

لقد حكى لنا القرآن عن قوم آمنوا وصدقوا بنبيهم، لكنهم جبنوا لَما أُريد منهم التغيير، فها هو موسى ــ عليه السلام ــ يطالبهم بتغيير واقعهم بأيديهم قائلًا: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) [المائدة:21]، فكان جوابهم: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا) [المائدة:22]، بل ولما أُلح عليهم بالنهوض للتغيير قالوا لموسى: (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة:24].

 

وليس بعيدًا عن هؤلاء حال من قالوا: (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) [البقرة: 249]، بعد أن آمنوا ــ أيضًا ــ بنبيهم وصدقوه.

 

فقد يقتنع المستمع من بيان خطيبه، ويوقن بصدقه، ويؤمن بأن الحق يقطر من كلماته، لكنه يجبن ويخاف ويرتعد إذا ما طولب بالتغيير، إما لكون التغيير المراد منه قد يجر عليه سخرية الناس، أو فَرَقًا من اضطهاد أمني، أو حذرًا من الطرد من عمله... أو خوفًا على نفسه كما في الواقعتين السابقتين.

 

واستراتيجية علاج الخطيب للجبن عن التغيير تكمن في النقاط التالية:

 

أولًا: إقناعهم بأن جبنهم لا يمنع عنهم ما يحذرون:

 

قالها الله ــ عز وجل ــ: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ...) [البقرة: 77]، فأجابهم الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [البقرة: 78].

 

وقد فعل قدوة الخطباء -صلى الله عليه وسلم- نفس الشيء؛ فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- فدعا الناس، فقال: «هلموا إلي»، فأقبلوا إليه فجلسوا فقال: «هذا رسول رب العالمين جبريل نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وإن أبطأ عليها»([13])، وفي حديث أبي أمامة: «تستكمل أجلها وتستوعب رزقها»([14]).

 

وقد يعاقب الفار جبنًا بنقيض مقصوده: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا...) [البقرة: 243].

 

ثانيًا: التكليف المباشر بالتصدي للمهمة، مع الترغيب:

 

قد يستبد الجبن والخوف حتى بالتقي الصالح؛ فالضعف طبع البشر، ومثل هذا التقي الصالح يجدي معه أسلوب نبوي مجرب، فحواه: أن تجبره على خوض تجربة من جنس مخاوفه يتحطم فيها جبنه؛ حين يخرج سالمًا غانمًا.

 

فيروي حذيفة فيقول: لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة وقر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟» فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟» فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟»، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: «قم يا حذيفة، فأتنا بخبر القوم»، فلم أجد بدًا إذ دعاني باسمي أن أقوم.

 

قال: «اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم علي»، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهمًا في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ولا تذعرهم علي»، ولو رميته لأصبته فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم، وفرغت قررت، فألبسني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: «قم يا نومان»([15]).

 

يقول القاضي عياض شارحًا: «وقوله: «فرجعت كأنى أمشى في حمام»: يعنى أنه لم يصبه من القر وبرد تلك الريح شيء ببركة إجابته للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتصرفه فيما وجهه فيه، أو لأنه دعا له، وكذلك ذكر في انصرافه، ألا تراه كيف قال: «فلما أتيته وأخبرته بخبر القوم قررت»؛ أي أصابني البرد الذى كان يجده الناس»([16]).

 

ولا أحسب حذيفة -رضي الله عنه- قد جبن عن عمل في سبيل الله أبدًا؛ بعد خوضه لتلك التجربة، وخروجه منها مكرمًا معافى قد تحول خوفه إلى طمأنينة.

 

ويستطيع خطيب المسجد أن يستخدم الأسلوب النبوي في الترغيب في الجنة وعظيم الدرجات لمن تغلب على وجله فغيَّر  وتغير إلى الأفضل، والذي قد ينتصر في بعض القلوب على ما يسكنها من جبن وتردد.

 

أقول: وحتى خوض التجارب، فإن الخطيب البارع قد يدفع مستمعه دفعًا ويحاصره محاصرة؛ بروعة بيانه وقوي حجته، أن يواجه خوفه ويخوض غمار تجربة يتحطم على صخرتها جبنه وقعوده عن التغيير حتى يصير شظايا.

 

 ثالثًا: الوعيد ولفت النظر إلى شؤم عاقبة ما هم عليه:

 

خطيبنا هذه المرة هو الصديق أبو بكر -رضي الله عنه- وقد رأى من يبرر التهرب والقعود والتخاذل عن تغيير المنكر متذرعين بفهم خاطئ لآية من كتاب الله، فقام فيهم خطيبًا يحذر مغبة الجبن والتخاذل عن مواجهة الظالمين، فعن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فحمد الله وأثنى عليه.

 

ثم قال: أيها الناس, إنكم تقرؤون هذه الآية: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يأخذوا على يديه أوشكوا أن يعمهم الله بعقاب»([17]).

 

واستخدام أبي بكر الخطابة لعلاج داء الجبن والتخاذل عن التغيير لم يكن بدعًا من عند نفسه، بل هو سلاح تعلمه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي سبقه في استخدامه، فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام خطيبًا، فكان فيما قال: «ألا لا يمنعن رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه»([18]).

 

رابعًا: إظهار عجز من يخافون منهم:

 

فالمبتلى بالجبن لا بد وأن يكون خائفًا من أحد أو من شيء، فعلاجه في تحقير هذا المخوَّف في قلبه، وإدراكه أن غير الله لا يضر ولا ينفع، لينجلي عنه خوفه وجبنه.

 

وهو منهج استخدمه نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ في إقناع قومه بترك عبادة أصنامهم قائلًا: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)... إلى أن تحدى تلك الأصنام تحديًا سافرًا لينتزع رهبتها من قلوبهم قائلًا: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 72 ـ 77].

 

وقد فعلها واحد من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعبدة الأصنام الذين يعتقدون نفعها وضرها، فقد جاء في كتب السيرة:

وخرج أبو سفيان والمغيرة وأصحابهما لهدم الربة... فقال المغيرة لأصحابه الذين قدموا معه: «لأضحكنكم اليوم من ثقيف»، فأخذ المعول واستوى على رأس الربة ومعه المعول... فلما ضرب المغيرة ضربة بالمعول سقط مغشيًا عليه يرتكض، فصاح أهل الطائف صيحة واحدة: كلا! زعمتم أن الربة لا تمتنع، بلى والله لتمتنعن!

وأقام المغيرة مليًا وهو على حاله تلك، ثم استوى جالسًا فقال: «يا معشر ثقيف، كانت العرب تقول: ما من حي من أحياء العرب أعقل من ثقيف، وما من حي من أحياء العرب أحمق منكم! ويحكم، وما اللات والعزى، وما الربة؟ حجر مثل هذا الحجر، لا يدري من عبده ومن لم يعبده! ويحكم، أتسع اللات أو تبصر أو تنفع أو تضر؟!» ثم هدمها وهدم الناس معه([i]).

 

فعلى الخطيب إذًا أن يدرك سبب جبن وخوف من يدعوهم إلى التغيير، ثم يزيد إيمانهم بعجز من يخافون وضعفهم، وأن الذي يضر وينفع هو واحد لا شريك له، سبحانه وتعالى.

 

-------

([1]) رواه البخاري واللفظ له برقم: (5752)، ومسلم برقم: (220).

([2]) تفسير ابن كثير (6/347)، المحقق: سامي سلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية 1420هـ - 1999 م.

([3]) انظر: صحيح البخاري رقم: (1564).

([4]) رواه البخاري واللفظ له برقم: (2505)، ومسلم برقم: (1240).

([5]) رواه مسلم واللفظ له برقم: (1218).

([6]) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (8/182)، دار إحياء التراث العربي بيروت، الطبعة الثانية، 1392.

([7]) قدوتهم في ذلك إبليس؛ حين سمى الشجرة المحرمة بـ«شجرة الخلد»؛ (قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه: 120].

([8]) الترمذي واللفظ له برقم: (3955)، وأبو داود برقم: (5116)، وحسنه الألباني (المشكاة: 4899).

([9]) رواه البخاري (3456)، ومسلم واللفظ له (2669).

([10]) انظر: عمدة القاري لبدر الدين العيني (16/44)، الناشر: دار إحياء التراث العربي بيروت.

([11]) رواه الترمذي واللفظ له برقم: (2180)، وأحمد برقم: (21897)، وصححه الألباني (المشكاة: 5408).

([12]) رواه البخاري برقم: (5932)، مسلم برقم: (2127).

([13]) رواه البزار في مسنده برقم: (2914)، وصححه الألباني (صحيح الترغيب والترهيب: 1702).

([14]) رواه أبو نعيم في الحلية (10/26) الناشر: السعادة مصر، 1394هـ، والطبراني في الكبير برقم: (7694)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 2085).

([15]) رواه مسلم برقم: (1788).

([16]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/161)، المحقق: يحيي إسماعيل، دار الوفاء مصر، الطبعة الأولى 1419 هـ - 1998 م.

([17])رواه البيهقي في السنن الكبرى واللفظ له (20189)، والترمذي (2168)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1564).

([18])رواه ابن ماجه واللفظ له (4007)، وأحمد (11017)، وصححه الألباني (الصحيحة: 168).

 ([i])مغازي الواقدي (3/971)، تحقيق: مارسدن جونس، الناشر: دار الأعلمي بيروت، الطبعة: الثالثة - 1409/1989، وغيرها.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات