الدعاة بين التكتيكي والإستراتيجي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: مقالات

اقتباس

لو فرضنا أن عددا من الدعاة والمهتمين بشئون الأمة والغيورين على الدين اجتمعوا للحديث عن أحوال الأمة وتوصيف مشاكلها وأزماتها، فإن معظم حديثهم ومجادلاتهم ستدور حول عجز الدعاة عن امتلاك الوسائل الدعوية التي تمكنهم من نشر أفكارهم وتعميم مبادئهم ومناهجهم، ودائما ستعقد مقارنات عما يبذله الآخر وأعني به غير المسلمين من أجل نشر أفكارهم وتقدم وسائلهم وضخامة إمكاناتهم ..

 

 

 

 

 

لو فرضنا أن عددا من الدعاة والمهتمين بشئون الأمة والغيورين على الدين اجتمعوا للحديث عن أحوال الأمة وتوصيف مشاكلها وأزماتها، فإن معظم حديثهم ومجادلاتهم ستدور حول عجز الدعاة عن امتلاك الوسائل الدعوية التي تمكنهم من نشر أفكارهم وتعميم مبادئهم ومناهجهم، ودائما ستعقد مقارنات عما يبذله الآخر وأعني به غير المسلمين من أجل نشر أفكارهم وتقدم وسائلهم وضخامة إمكاناتهم.

وبالقطع ثمة قصور واضح في الوسائل الدعوية والآليات الحركية لنشر المناهج والأفكار الإسلامية، سواء كانت فضائيات أو مطبوعات أو مواقع إلكترونية أو حتى الدروس والمحاضرات وخطب الجمعة، ولكن مع هذا لابد من الوقوف على الأسباب الحقيقية والجوهرية لما يعتري العمل الدعوي من خلل أو مشكلات أو حتى منغصات وأزمات، كما ينبغي الالتفات إلى أن الأمة كلها بكل هيئاتها ومؤسساتها ومنظماتها الرسمية وغير الرسمية في تراجع مستمر وهو ما انعكس بالضرورة سلبا على المؤسسات الدعوية والخيرية والمعنية بخدمة الدين وأهله، والتي هي أيضا جزء من السياق العام للأمة، ورغم ذلك كله إلا أن السبب الجوهري في تخلف وتدهور مستوى الدعوة الإسلامية يكمن في غياب الرؤية الإستراتيجية للحركة الدعوية.

علماء التنمية البشرية والعلوم الإدارية يفرقون بين التكتيكي والإستراتيجي، فالإستراتيجي: هو حل المشكلة من جذورها وليس من عوارضها بحيث يقضي على المشكلة من أصلها، في حين أن التكتيكي: هو الحل المؤقت الذي يقلل من وطأة المشكلة ويزيل بعض عوارضها ويخفف من حدة احتقانها، والتكتيكي عادة يتبع كمرحلة أولى ريثما يتحقق الإستراتيجي الذي يحتاج عادة إلى وقت أطول. وهذا الكلام يعني أن المشكلة إذا لم تحل من جذورها فسوف تستمر رغم مسكنات الحلول التكتيكية، بل إن تكلفة الحلول التكتيكية سترتفع مع الوقت حتى تصبح باهظة وبلا فاعلية، تماما مثل المريض المتألم الذي أدمن أخذ المسكنات والمهدئات دون البحث عن سبب ألمه مما سيؤدي لتفاقم مرضه من ناحية، ومن ناحية أخرى ستفقد المسكنات والمهدئات فعاليتها وتصبح بلا أثر أو نفع.

العمل الدعوي يعاني من قصور بيّن واضح ومنذ فترة طويلة بسبب ضعف فهم نوعية الحركة المطلوبة لهداية الناس وإصلاح شئونهم، ونوعية الخطاب الذي تجب صياغته في كل ذلك، وهذا يترتب عليه عدم القدرة على تحديد الأولويات التي يجب أن توجّه إليها معظم الجهود والطاقات، أي أن أزمتنا الأساسية تكمن في فقد الهدف الجيد وليس الافتقار إلى الوسيلة الناجحة، لذلك نجد طاقات كبيرة ومجهودات ضخمة تبذل وتنفق دون مردود مناسب، وفي كل مرة يعزي الدعاة أنفسهم بقوله عز وجل: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) [البقرة:272]، وقوله صلى الله عليه وسلم " ويأتي النبي وليس معه أحد.." البخاري ومسلم. في النبوات،

وكلها نصوص أسيئ فهمها واستخدمت كمسكنات دعوية تجعل الدعاة لا يقفون عن أصل المشكلة والخلل، وهناك أيضا شريحة كبيرة من الدعاة وربما الشريحة الأكبر من هذا القطاع يغلب عليهم الحسّ العملي وينظرون إلى التخطيط وبناء الإستراتيجيات على أنه مضيعة للوقت ولا حاجة له على الحقيقة، بل ربما تجاوز الأمر للتشنيع على من يهتم بالتخطيط والترتيب وبلورة الأهداف واتهامه بالفرار من العمل و التنصل من المسئوليات.

الدعاة في واقع الأمر لن يمتلكوا وسيلة جيدة وفعالة لنشر دعوتهم ما داموا ظلوا مفتقرين للهدف الواضح والرؤية الإستراتيجية لتحقيقه، ولو تأملنا في سير المصلحين الكبار ومن له أثر على سير الأحداث لوجدناهم لم يكونوا يمتلكون الوسيلة الناجحة بقدر ما كانوا يمتلكون الرؤية الواضحة، أي بمعنى أدق؛ أنهم كانوا يعرفون بالضبط ما يريدون، انظر إلي إستراتيجية تحرير بيت المقدس من يد الصليبيين وكيف كانت واضحة جلية عند القادة الثلاثة الذين تعاقبوا على رحلة تحقيق الهدف؛ عماد الدين زنكي ثم ولده نور الدين محمود ثم نائبه صلاح الدين الأيوبي، ورغم ضخامة العقبات وكثرة المعوقات وضعف الإمكانات في بدايتها إلا إن الرؤية كانت واضحة فتم تحقيق الهدف بعد ستين سنة من العمل الدءوب.

بل انظر إلى الأمم الأخرى وما جرى لليهود، فقد اجتمعوا في برن بسويسرا سنة 1897م، من أجل مناقشة سبل إقامة كيانهم ولم يكونوا قد اختاروا فلسطين وطنا لهم بعد، وكانوا وقتها يعانون من عزلة دولية واضطهاد في العديد من دول العالم، وقد خرجوا من هذا المؤتمر بمخططات وترتيبات لإقامة دولتهم بعد خمسين سنة في فلسطين، والذي ينظر إلى ضالة إمكاناتهم وقتها وضخامة الهدف الذي يرمون إليه يقّدر خيالية طموحاتهم، ولكنهم مع المثابرة والعمل الدءوب الشاق حققوا ما كانوا يهدفون إليه.

وإن كان هناك طائفة كبرى من الدعاة يعملون بلا رؤية أو تخطيط إستراتيجي لأهدافهم، فثمة طائفة أخرى تعمل وفق رؤية غير راشدة وربما خاطئة، رؤية لا تعتمد على دراسة عميقة للهدف أو فقه الأولويات أو تقدير المصالح والمفاسد أو قياس الآثار المحتملة والبعيدة، وعندها تكون النتائج كارثية بكل المقاييس، فيقدمون على العمل يحققون به مصلحة واحدة أو مصلحتين ويتسببون ما وراءه في عشرات أو مئات المفاسد، أو ينشغلون بأعمال صغيرة أو قضايا عقيمة مضى زمانها وهلك دعاتها، ولم يعد أحد يتكلم فيها أو يسمع بها أصلا، في حين يتركون أصول الدين وثوابته تأكلها هجمات التغريب وأعوانه.

والذي لابد أن يعيه الدعاة أن الهدف الجيد يحتاج لخطة جيدة لتنفيذه، وتلك الخطة لابد أن تراعي الإمكانات والكوادر والظروف والأوقات المناسبة، وتراعي العقبات المتوقعة والآثار المحتملة والمردودات المتوقعة تماما مثل دراسات الجدوى التي تقدم عليها المؤسسات الكبرى قبل البدء في فتح أسواق جديدة وإطلاق منتجات جديدة، وذلك كله في إطار من التوكل على الله عز وجل واستمداده في كل خطوة يخطوها الداعية، فعندها وعندها فقط سيتحقق كثير مما يحلم به الدعاة، وستذلل صعاب الواقع، وستنقطع الشكاوى الكثيرة من ضعف الحيلة وانعدام الوسيلة، ذلك أن مشكلتنا -معشر الدعاة- ليست في المستحيل الذي نتمناه، ولكن في الممكن الذي ضيّعناه.
 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات