وما زلت في المسجد المقبور (2-2)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: تجارب

اقتباس

واعتمادًا على هذه الحقيقة جهدت الجهد ألا أُخرج أضغانهم وألا أثير غضبهم، ومن ذا الذي يعمد إلى حية عملاقة قد تركته وآوت إلى جحرها فيُدخل إليها عُودًا يحرشها به على نفسه؟! ومن ذا الذي يجد ذئبًا ضاريًا قد أدار له ظهره ثم يقذفه بحجر؟! إن التصرف القويم في هذه الحالات أن تعمل على تجنب من تجنبك، بل ومن لم يتجنك أيضًا...

كانت معاناة وكانت مغامرة، حكينا بعض تفاصيلها في الجزء الأول من هذا المقال تحت عنوان: "خطيب في مسجد مقبور"، وفيه قصصتُ عليك -أخي الخطيب- كيف قد اضطررت أن أتسلَّم العمل "إمامًا وخطيبًا" في أحد المساجد التي قُبِرَ فيه ميت، أو كما زعموا: "ولي من أولياء الله الصالحين!"، وبالتحديد في مسجد "سيدي الخنفوشي" كما يحلو لهم أن ينعتوه، ولم أكن أتصور أن يحدث ذلك يومًا؛ فإني -والحمد لله- أحاول الالتزام بالسنة، لكني لم أجد بُدًا من ذلك، وصدق من قال:

 

يُقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

 

ولا أخبركم كيف كان الاستقبال "الحافل" من خادم هذا المسجد حين رآني لأول وهلة، لقد كاد يطردني من المسجد! وكذا بعض رواد المسجد الذي هاجموني بشراسة حتى قبل أن أتفوه بكلمة واحدة؛ وذلك لـمَّا رأوا لحية وجلبابًا أبيض وسواكًا يتجولون في مسجدهم!

 

ولقد كانت صولات وجولات و"معارك"... قبل أن أقرر اتخاذ بعض الخطوات "الميدانية" المنظمة المرتبة كي ينقذ الله -تعالى- بي أهل ذلك المسجد، مقتديًا في ذلك بنبي الله محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ خاض غمار مجتمع أهل مكة، وإذ صبر على الأصنام حول الكعبة أعوامًا، وإذ بدأ -أولًا- بتحطيمها في القلوب والعقول قبل أن يحطمها بالفئوس... وقد كانت وقائع وأحداث سيرته -صلى الله عليه وسلم- من حسن خلق -حتى سموه: "الصادق الأمين"-، ومن دعوة سرية، ومن جهر بعد ذلك ومصاولة... هي النبراس الهادي ليَّ في تجربتي هذه.

 

ولقد رسمتُ خطة استراتيجية منظمة لتطهير قلوب وعقول أهل مسجد "الخنفوشي" مما علق بها من بدع، ثم لتطهير ذلك المسجد من المظاهر الشركية... لكن كانت الخطوة الأولى الأهم والأخطر والأصعب هي: الانتقال بهم من عداوتي إلى حبي! ومن النفور من سمت الصالحين؛ من لحية وثوب قصير... إلى قبولها والإيناس بها... فقد أيقنت أنهم لن يسمعوا مني كلمة -فضلًا عن أن يقتنعوا بها- ما لم يقبلوني أنا أولًا! لذا فقد أفضت القول في هذه الخطوة الأولى وجعلتها تحت عنوان: "التحبب إلى رواد المسجد".

 

عمومًا، فمجرد نجاحي في هذه الخطوة التمهيدية الضرورية، وبمجرد إحساسي وملامستي لتَقَبُلِهم إياي، بدأت في الخطوات العملية نحو تحقيق الهدف، وكل مقصدي -إن صدقتُ- هو أن يهديهم الله -تعالى- على يدي، طمعًا في وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من أن يكون لك حمر النعم"([1])، فكانت الخطوة الثانية وهي: "تثبيت أصول العقيدة في القلوب"، ومعلوم لما بدأت بالعقيدة.

وإنك إن رجعت إلى الجزء الأول من هذا المقال أدركت كثيرًا من تفاصيل هاتين الخطوتين الهامتين، وأترككم الآن -إخواني الخطباء- مع الخطوات التالية:

 

الخطوة الثالثة: التعرف على النبي -صلى الله عليه وسلم-:

لقد كان جميع أهل مسجد "الخنفوشي" يدعون الحب و"الهيام" بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه حب من نوع خاص؛ حب يعبرون عنه بالمغالاة في شخصه -صلى الله عليه وسلم-، فيدعون أنه لم يُخلق من تراب بل من نور! وأن له في الكون عمل وتأثير! بل ما خُلقت السموات والأرض إلا من أجله!... ولقد ركزت معهم على النقاط التالية:

 

أولًا: تقرير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشر مثلنا لا يضر ولا ينفع: فهل نُكذِّبه -صلى الله عليه وسلم-؟! أم هل نُكذِّب ربه الذي علَّمه، ففي القرآن يعلِّم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) [الكهف:110]؛ والمعنى: "نحن في البشرية سواء، وإنما الفرق بيننا أنه يتنزل عليَّ الوحي".

فبيَّنتُ لهم أنه لا يضر ولا ينفع أحد سوى الله، حتى أفضل خلقه وخاتم رسله -صلى الله عليه وسلم- فقد علَّمه ربه أن يقول: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) [الأعراف:188]، ولو كان غير الله يملك النفع والضر إذن لصيَّر نفسه ملكًا على الأرض، ولَمَا أصابه مرض أو شر أبدًا! لكن العبد هو العبد؛ عاجز ضعيف فقير...

 

ثانيًا: التحذير من المغالاة في شخصه -صلى الله عليه وسلم-: لسد الباب للمغالاة في صاحب الضريح، فما ينطبق -من هذا- على سيد البشر -صلى الله عليه وسلم-، ينطبق من باب الأولى على من دونه من وليٍّ أو صالح أو تقي... ولقد حذَّر -صلى الله عليه وسلم- من الغلو في شخصه قائلًا: "لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله"([2]).

 

الخطوة الرابعة: التجريد من الهالات:

لقد كانوا يعتقدون في "الخنفوشي" أشياء وهمية خيالية ترفعه إلى درجة الربوبية والألوهية! فبدأتُ في إزالة هذه الهالات، بهذه المبادئ الواضحات:

أولًا: الميت أعجز من الحي: إنهم حتى لا يسمعون نداءً ولا دعاءً، قال -تعالى-: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر:22]، ولو كان لميت حول أو قوة إذًا لدفع عن نفسه الموت.

 

ثانيًا: الأحاديث الناهية عن القطع بأن أحدًا في الجنة غير العشرة المبشرين بها: فعن عائشة أم المؤمنين، قالت: دعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة؛ لم يعمل السوء ولم يدركه، قال: "أو غير ذلك، يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم"([3])، فهذا عن طفل لم يجر عليه القلم، وهو ابن لصحابي، فما بالك بمن عاش عمرًا ثم مات؟!

 

ثالثًا: لا يعلم أولياء الله إلا الله: قال -تعالى- معرِّفًا أولياءه: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس:62-63]، ومن يطَّلع على القلب فيبصر الإيمان والتقوى إلا الله -سبحانه- وحده! ولقد كان بين الصحابة رجل جريء شجاع، فقيل: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنه من أهل النار"، فاتبعه رجل فوجده قد جُرِح جرحًا شديدًا، فقتل نفسه، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار..."([4])، فلو رُئي هذا الرجل الجريء مقتولًا بعد المعركة لما شك أحد أنه قُتِل شهيدًا، وهو في الحقيقة منتحر ومن أهل النار، فإن دواخل القلوب غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله.

وبهذا بدأت أزيل تلك الهالات التي صنعوها حول "الخنفوشي"، حتى رأوه عاريًا من قدراته الخيالية!

 

الخطوة الخامسة: البدء بمصارحة النابهين المقربين:

تمامًا كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهل لنا قدوة أعظم منه! فقد أمره الله -تعالى- قائلًا: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214]، فشرعت أصارح من أتوسم فيه العقل والفهم، كل منهم على انفراد، وكلٌ بما يناسبه، وإذا صارحت أحدًا بكَمِّ الخطأ والزيغ والبدع التي في المسجد، استكتمتُه؛ كي لا أتعجل حربًا قبل أوانها، حتى كوَّنتُ قاعدة من النابهين المخلصين الواعين، فصرت أجمع الرجل والرجلين والمجموعة أصارحهم، حتى سرى الفهم الصحيح في قطاع من رواد المسجد، وصاروا يتعلقون بي أكثر مما كانوا يتعلقون بـ"الخنفوشي"!

 

الخطوة السادسة: المصارحة العامة المتدرجة:

وأؤكد على كلمة "متدرجة"؛ فلا يصلح هذا الأمر إلا بالتدرج؛ وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ أن يتدرج مع أهل اليمن حين بعثه إليهم قائلًا: "إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم..."([5]).

 

وإنك إن عرضت على أحد المحرمات الشرعية -التي يجهلها- جملة واحدة ولم تتدرج فيها، لفظها جملة واحدة أيضًا، ولا أبالغ حين أقول: إنك بذلك تصدُّه عن سبيل الله! فقد ذكر أصحاب السير "أن أعشى بني قيس بن ثعلبة خرج إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد الإسلام، فقال مادحًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-...

نــبـــيًا يــــرى مـــــــا لا يــــرون وذكــره *** أغـــــار لــعــمــري في البلاد وأنـجدا

له صـــــدقـــات مـــا تـغـــــب ونـائــل *** وليس عــــطاء الـــيــوم مـــانــعه غـــدا

أجدك لم تسمع وصـــاة مـحمد *** نبي الإله حـــــين أوصــــــى وأشــهــدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى *** ولاقيت بعد الموت مـــن قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله *** فترصد للموت الذي كان أرصدا

فلما كان بمكة أو قريبًا منها اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليُسْلِم، فقال له: يا أبا بصير فإنه يحرِّم الزنا، فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب، فقال: يا أبا بصير فإنه يحرِّم الخمر، قال الأعشى: أما هذه فوالله إن في النفس لعلالات منها، ولكني منصرف فأرتوي منها عامي هذا ثم آتيه فأُسْلِم، فانصرف فمات في عامه ذلك، ولم يعد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"([6])، فقد عرض عليه المشركون محرمات الإسلام عرضًا غير متدرج نفَّره وصدَّه عن الدين الحق، حتى نكص على عقبيه ومات كافرًا.

 

فعزمت في نفسي ألا أقع في هذا الخطأ القاتل أبدًا، فبدأت أصارح عامة الناس في حذر شديد؛ ألا أطأ على حرج فينزف صديدًا! أو على جسر من قش فيسقط من عليه صريعًا، خطوة خطوة ودرجة درجة؛ فمرة أحدثهم عن طهارة بيت الله -تعالى- وتنظيفه من الأقذار، وأن الأجساد إذا فارقتها الأرواح فنتنت صارت جيفًا... ومرة أحدثهم أن الأفضل في حق الميت دفنه في لحد لا في قبر، وثالثة أنتهز فرصة ازدحام المسجد بالمصلين فأشير إلى أن المسجد يحتاج إلى توسعة، ولم تكن تصلح توسعة إلا من الخلف جهة القبر...

 

الخطوة السابعة: تحييد المعاندين:

من الطبيعي -كما تعلم- أن يوجد متعصبون معاندون لا يستجيبون، وإني لأعجب من قوم عايشوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأوه بأعينهم، وعاينوا القمر وهو ينشق فلقتين، وعاصروا الوحي يتنزل بالهدى بين أظهرهم... ثم ماتوا كفارًا ولم يؤمنوا! لكن الأمر كما قال الله -تعالى-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [القصص:56].

 

وقد لمست ذلك وعانيت منه؛ فإن أناسًا كانوا معي في مسجد "الخنفوشي"، نصحتهم طويلًا وجادلتهم بالحسنى كثيرًا واستخدمت معهم كافة ما أعلم من أساليب دعوية وما صليت صلاة إلا دعوت لهم... ومع هذا لم يهتدوا! فكان لزامًا عليَّ أن أُحَيِّدهم مخافة أن يكونوا عقبة في طريق ما أصبوا إليه من دلالة الناس على الهدى، وكان من وسائل تحييد هؤلاء المعاندين ما يلي:

 

أولًا: مقابلة إساءتهم بالإحسان: فعسى أن يحدث معهم ما يحدث مع العقلاء الذين قال الله عنهم: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34].

ثانيًا: إبراز المتفق عليه، وعدم التركيز على نقاط الخلاف: فقلت لهم: إننا جميعًا نصلي في مسجد واحد، ونتجه إلى قبلة واحدة، ونتمنى أمنية واحدة؛ هي رضا الله وجنته... أليس كذلك؟! فيجيبون: بلى، فأقول: أكل هذا الاتفاق بيننا ثم نختلف!...

 

ثالثًا: تفويض علم "مَنْ على الحق" إلى الله: وجلَّ الله الذي قال للكفار: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ:24-25]، فمعلوم يقينًا من المصيب ومن المخطئ، لكنها خطوة على طريق تحييدهم ثم هدايتهم؛ فحري بهم - إن لم يُستثر غضبهم- أن يرجعوا إلى أنفسهم فيدركوا أنهم على خطأ؛ ألا ترى أن ذلك حدث مع قوم إبراهيم -عليه السلام- وإن اختلفت وسيلته عما نحن بصدده، قال -تعالى-: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) [الأنبياء:64]، "يعني: تفكروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم، فقالوا: ما نراه إلا كما قال"([7]).

 

رابعًا: العمل على عدم إخراج أضغانهم: لا أقول: "لكل إنسان وجهان" إذًا لأسأتُ التعبير! ولكن أقول: لكل إنسان حالان؛ حال الرضا وحال الغضب، وهذا الكلام ينطبق حتى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر"([8]).

لكن الفرق بيننا وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه النقطة هو أنه -صلى الله عليه وسلم- لا يقول في الحالين إلا الحق؛ فلما نهت قريشٌ عبدَ الله بن عمرو أن يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متذرعين بأنه بشر يتكلم في الغضب والرضا! فأمسك عن الكتابة، أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصبعه إلى فمه، وقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق"([9]).

وطبيعي أيضًا أن يكون كلام الإنسان في الرضا غير كلامه في الغضب، وهذه واقعة تؤكد ذلك، ترويها أم المؤمنين عائشة فتقول: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت عليَّ غضبى"، فقلت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: "أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى، قلت: لا، ورب إبراهيم" فقلت: أجل، والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك([10])!

 

واعتمادًا على هذه الحقيقة جهدت الجهد ألا أُخرج أضغانهم وألا أثير غضبهم، ومن ذا الذي يعمد إلى حية عملاقة قد تركته وآوت إلى جحرها فيُدخل إليها عُودًا يحرشها به على نفسه؟! ومن ذا الذي يجد ذئبًا ضاريًا قد أدار له ظهره ثم يقذفه بحجر؟! إن التصرف القويم في هذه الحالات أن تعمل على تجنب من تجنبك، بل ومن لم يتجنك أيضًا... ولقد كان.

وبهذا أظنني قد سَلِمْتُ -بحول الله- من عقبة المعاندين حتى لا تعرقل ما عملت من أجله زمنًا، ثم كانت الخطوة الأخيرة -أو كما ستعلم: إنها الأولى-.

 

الخطوة الثامنة: عودة الخنفوشي إلى الأموات:

أُقِرُ أمامكم: أني لم أكن واثقًا أنني سأنجح في هذه المهمة، ولكن كما قالوا: "عليك أن تسعى، وليس عليك إدراك النجاح"، والله -تعالى- يعطي الأجر على العمل لا على نتيجته، وإلا فإنه يأتي يوم القيامة "النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد"([11])، وأجورهم جميعًا على الله... ولكن كان من الله الفتح وكانت منه -تعالى- المنة والفضل؛ إذ حدث ما لم أتوقع أن يحدث بهذه السرعة؛ فقد رأيت الناس تَتْرَى واحدًا بعد الآخر وكلٌ يصارحني: "أنه يحس بخطأ أن يبقى هذا القبر في المسجد"، ولا تستطيع كلماتي أن تنقل إليكم ما شب في قلبي ساعتها من سعادات -وليس سعادة واحدة- وأفراح وزهور وأهازيج... وأيضًا من شكر لله -تعالى-؛ فهو الهادي وحده لا شريك له... وقد تتابعت الأحداث التالية سريعًا سريعًا -وهكذا الغيث إذا نزلت منه قطرة تتابعت قطراته-:

 

فأولًا: تحولت "إرادة نقل القبر" من شعور أفراد، إلى رأي عام بين رواد المسجد، حتى صاروا يطالبونني به.

ثانيًا: سعت مجموعة مفوضة من أهل المسجد إلى إزالة الضريح فعليًا، وأخذوا في استخراج التصاريح اللازمة لذلك.

ثالثًا -وفي ليلة تلألأت نجومها-: إذا بمن يقول لي: نريدك قبل فجر الغد بيننا لأمر خطير، ولم يصرح به، وحضرت إلى المسجد قبل صلاة الفجر وإذا بفئوس وأدوات داخل المسجد، وإذا بهم قد أقلوا عظام الخنفوشي "المباركة"، ووضعوها في النعش، وإذا بنا نشيعه من جديد في "موكب مهيب" فنعيده إلى مَنْ هم أولى به؛ إلى الأموات، دفناه في القبر الذي جهَّزوه طوال الليل، ثم عدنا سريعًا لندرك صلاة الفجر، وكانت أول صلاة ليَّ في هذا المسجد لا يحضرها السيد "الخنفوشي"... وفي هذه الصلاة قرأت قول الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:33] ، وقوله -تعالى- (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81]، فكأنني حضرت النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح وهو يحطم الأصنام حول الكعبة!

 

رابعًا -وليتها ما كانت-: فبينما أنا في خضم فرحتي وتزاحم مشاعري، إذا بمن يأتيني فيقول: نريد تغيير اسم المسجد؛ فلم يعد يليق أن يظل اسمه: "مسجد الخنفوشي"، فقلتُ: جميل، وما تريد أن تسمِّيه؟ فقال: "نريد أن نسمِّيه مسجد: (أيوب المختار) لينالنا شيء من بركاتك ونفحاتك!"، وأيوب المختار هذا هو اسمي الذي نسيت أن أخبركم به.. فأدركت ساعتها أن الطريق ما زال طويلًا، وما هذه إلا البداية، وأن كل ما فعلته من إزالة الضريح من المسجد لم تكن -بحق- إلا الخطوة الأولى على الطريق الصحيح.. فليس ببعيد إن طاوعتهم ثم متُّ أن يجعلوا لي ضريحًا مكان ضريح "الخنفوشي".. ولله الأمر.

***

 

إخواني الخطباء: قد سُقتُ إليكم هذه التجربة وأنا أعلم أنها قد لا تناسب بعض المجتمعات، وإنما قصصتها عليكم لسببين:

الأول: أننا في هذا الموقع الكريم نسعى إلى العالمية، ونخاطب أهل الأرض أجمعين، لا نقصد بموضوعاتنا دولة بعينها ولا مجتمعًا بعينه.

السبب الثاني: أن هذه الاستراتيجية التي قدمناها تصلح مع أي مسجد فيه شيء من البدع المستقرة، وإن لم يكن فيه قبر، وتصلح كذلك مع كل معاند شارد.

والله من وراء القصد عليم، وما كان من خطأ فمني، وما كان من توفيق فمن الله وحده.

 

----

 ([1])البخاري (3701)، ومسلم (2406).
 ([2])البخاري (3445).
 ([3])مسلم (2662).
 ([4])البخاري (2898)، ومسلم (112).
([5]) البخاري (1496)، ومسلم (19).
([6]) عيون الأثر لابن سيد الناس (1/160)، الناشر: دار القلم – بيروت، الطبعة الأولى، 1414/1993، والسيرة النبوية لابن هشام (1/387 ـ 388)، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية، 1375هـ - 1955 م.
([7]) تفسير الخازن (3/229)، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ.
([8]) مسلم (2603).
([9]) أبو داود (3646)، والحاكم (359)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1532).
([10]) البخاري (5228)، ومسلم (2439).
 ([11])البخاري (5752)، ومسلم (220).

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات