كنت خطيبا فاشلا

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: تجارب

اقتباس

بشروني ذات يوم أنني قد عُينت خطيبًا في أحد المساجد، ويالسوء ما بشروني به! فقد كنت أرتبك وأتلعثم وترتعد فرائصي إذا ما جئت ألقي السلام على جاري، فكيف أصعد منبرًا وأقف أمام مئات من الناس وأخطب فيهم؟! لقد كانت بالنسبة لي كارثة! فجلست في حَيْصَ بَيْصَ.

 

 

 

يُحكى أن شابًا صالحًا سافر سفرًا ليس بالبعيد، وبينما هو ماضٍ في طريقه إذ حانت صلاة الجمعة، فدخل أحد المساجد فتوضأ وجلس منتظرًا الصلاة، ولفت نظره شدة الزحام داخل المسجد وخارجه، فقال في نفسه: من المؤكد أن خطيب هذا المسجد من الخطباء المفوهين كي يجتمع له هذا الجمع الحاشد.

 

ولم يخب ظن الشاب؛ فما أن صعد الخطيب المنبر تكسوه الهيبة والوقار، ثم حمد الله واستفتح، إلا ورُفعت إليه الرقاب وتطلعت إليه الأبصار، يشتد صوته حينًا حتى يكاد يخلع القلوب من الصدور، ويترقرق حينًا حتى يستدعي الدموع من العيون، ويتهدج حينًا حتى يقطر في أفئدة المستمعين إخلاصًا وصدقًا، وما أن انتهى من خطبته حتى كان قد سبى القلوب وملك العقول.

 

فقال الشاب في نفسه -وقد فرغوا من الصلاة ـ: والله لا أنصرف حتى أهنئ هذا الخطيب على أسلوبه الرائع وكلماته الرقراقة وبديهته الحاضرة وتفاعله الصادق... ولعله يسدي إليَّ نصيحة تنفعني، خاصة وأنني أمارس الخطابة أحيانًا وأتمنى أن أتفوق فيها.

 

ودخل الشاب على الخطيب فهنَّأه وشد على يديه، وسأله سؤال المعجب المنبهر: أي ملكة خطابية تمتلك، حتى تؤثر في الناس هذا التأثير؟! أي تعبيرات! أي صوت! أي إشارات! أي حضور! أي...!

 

فقاطعه الخطيب في تؤدة ورصانة: هون عليك يا بني، فإنك ستعجب إن علمت كيف كانت بدايتي.

 

قال الشاب متعجبًا: وكيف كانت؟!

 

وبدأ الخطيب يقص حكايته قائلًا: بشروني ذات يوم أنني قد عُيِّنت خطيبًا في أحد المساجد، ويالسوء ما بشروني به! فقد كنت أرتبك وأتلعثم وترتعد فرائصي إذا ما جئت ألقي السلام على جاري، فكيف أصعد منبرًا وأقف أمام مئات من الناس وأخطب فيهم؟!

لقد كانت بالنسبة لي كارثة! فجلست في حَيْصَ بَيْصَ([1]).

 

وفي هذه الأثناء دخل علَيَّ أحد الأصدقاء فكأنه أشفق عليَّ لما رأى حالتي، فجعل يشجعني ويشد من أزري، ثم بسَّط لي الأمر قائلًا: «إن الأمر أيسر مما تتصور؛ فما هي إلا وريقات تجمع أسطرها من هنا وهناك، ثم تحفظها، وتصعد المنبر فتسردها، أَمَا تذكر أيام الجامعة حينما كنا نحفظ صفحات الكتب ثم نسكبها سكبًا على وريقات الإجابة في الامتحان؟ فهون عليك ولا تشقق على نفسك».

 

ومرت الأيام سراعًا، وقد نسخت خطبة نسخًا من أحد كتب الخطب التي وقعت تحت يدي اتفاقًا، وكنت لا أفارق تلك الوريقات أبدًا ولا تفارقني، أتلوها على نفسي على أمل أن استظهرها، فأستغني عنها.

 

حتى حانت اللحظة الموعودة لارتقاء المنبر، فخرجت من غرفة الخطيب كأن أثقالًا من حديد قد شُدت إلى قدمي، مرتعد الفرائص مضطرب القلب زائغ العينين... وما هو إلا أن وضعت قدمي على الدرجة الأولى للمنبر حتى أحسست بدوار يجتاحني، وكدت أسقط مغشيًا علي لولا أن تمسكت بحاجز المنبر، وما كدت أعتليه حتى تشبثت بجانبي المنبر كأني غريق وقد وجد طوق النجاة.

 

ودسست يدي في جيبي لألتقط تلك الوريقات التي سطرت فيها الخطبة، مع أنني كنت قد تعهدت أن أتركها قبل صعود المنبر وألقي الخطبة من حفظي، لكنها تمسكت بيدي! أو تُراني أنا الذي قد تمسكت بها! المهم أن أحدنا لم يستطع مفارقة الآخر...

 

وبدأت فقلت: «إن الحمدُ لله» بالضم، وقد كانت مكتوبة أمامي: «الحمدَ» بالفتح! وواصلت القراءة من الوريقات أرفع المنصوب وأخفض المرفوع... حتى ضجَّ مني سيبويه والخليل بن أحمد، وكم فأفأت وتأتأت حتى صارت الفاء والتاء وحدهما نصف خطبتي، كل ذلك وعيناي منصبَّتان على الوريقات كأنهما قد تجمدتا، وكأن رقبتي قد فقدت ليونتها ومرونتها، أخشى أن أرفع عيني إلى الجمهور فتصطدم بعين أحد منهم! أو أضل عن السطر الذي أقرأ فيه، فأضيع في متاهة لا مخرج منها!

 

سردت سطور الوريقات سردًا وصببتها في آذان الناس صبًا، كأني أقرأ على والدتي قائمة الخضروات التي جلبتها من السوق مصحوبة بأسعارها! وانتهيت من الخطبتين، وجاء وقت الدعاء، فاكتشفت -ويالهول ما اكتشفت -أنني قد نسيت أن أدوِّن دعاءً في الوريقات، فأُسقط في يدي، ثم استجمعت قواي واستنفرت ذاكرتي واستحضرت ما سمعت من أدعية طوال عمري، ودعوت، ولا أدري أدعوت لنفسي أم عليها، كل الذي لفت نظري أنه لم يؤمِّن على دعائي أحدٌ إلا القليل.

 

ونزلت، فصليت، فالتفت، فقمت مسرعًا -بل هاربًا -أحلم باللحظة التي أغلق فيها على نفسي باب غرفتي، لكنني لم أنعم بتلك الأمنية؛ فقد اعترض طريقي عدد من المصلين، فمنهم من لوَّح ومنهم من لـمَّح ومنهم من صرَّح، المهم أن جميعهم قد اتفقوا على طلب واحد، فحواه: «ليتك لا تعتلي هذا المنبر مرة أخرى!»، أو بعبارة أكثر تهذيبًا: «ليتنا ما صلينا في هذا المسجد، كي لا نرى وجهك»!

 

وكانت تجربة عصيبة لا تفارق حلقي مرارتُها، ومع ذلك فقد اعتليت المنبر مرة ومرة ومرات على أمل أن يزول ما بي من رهبة وتلعثم وتهيب وتردد... لكنه كان يزيد مع الأيام، خاصة حينما كنت أتلقى كلمات الإطراء والإعجاب والثناء الغزيرة، من مثل: «ألن ترحمنا يومًا من خطبك!» أو: «ما الذنب الذي اقترفناه حتى يعاقبنا الله بك!» أو: «لولا أن هجر المساجد حرام لما وجدت منا رجلًا واحدًا ها هنا!».  

 

وصارت مشكلتي تتزايد وتتفاقم، فكنت أتمنى ألا يأتي يومُ الجمعة أبدًا، وحتى ضاقت الدنيا عليَّ، وحتى ظننت أنه لا علاج لفشلي ولا دواء لمرضي...

* * *

 

وعند هذه النقطة استوقف الشابُ الخطيبَ قائلًا: عجبًا من حكايتك! ما كنتُ لأتوقعها أبدًا! لكن كيف صرت إلى ما أنت فيه الآن؟! وكيف اكتسبت تلك المهارة الخطابية التي رأيتُها بعيني؟! وكيف تغلبت على كل تلك المشكلات التي رويت؟!

 

وعندها ظهر التأثر على وجه الخطيب، وخشع صوته، ثم قال: كان ذلك في ليلة شكوت فيها لله همي وحالي، وبكيت وتذللت، فخضع القلب واستكانت الجوارح وصفت النفس، ونبت العزم محل اليأس، ووجدت عبارة واحدة لرسول الله  -صلى الله عليه وسلم- تتردد في أذني: «استعن بالله ولا تعجز»([2])، فاستعنت وما عجزت، وتلك كانت بداية النجاح.

 

قال الشاب: فهلا دللتني على الطريق كي أصبح خطيبًا مفوهًا مبرزًا؟

 

فأجابه الخطيب: نعم أيها الزميل، إليك ما أسميه: «استراتيجية النجاح الخطابي»، وهي حصاد تجربتي على مدار سنين، وبنودها على نوعين، أولهما: بنود تأصيلية تأسيسية، ومنها:

 

البند الأول: صحح نيتك وقصدك:

 

نعم يا بني، لقد اكتشفت أن كراهيتي للخطابة من البداية لم تكن لمجرد رهبتي من مواجهة الناس، بل السبب الأهم هو أنني كنت اعتبرها مجرد وظيفة ومصدر دخل... وعالجت ذلك بأمور عديدة منها:

(1) تذكُري أن المنبر مكان النبي  -صلى الله عليه وسلم- فهو شرف وفخار لمن اعتلاه.

 

(2) استحضاري أن الخطيب من ورثة علم الأنبياء ومؤتمن عليه، فإن مال فقد خان الأمانة.

 

(3) إدراكي أني أؤدي فريضة شرعية محكمة، هي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أصبحت عليَّ فرض عين.

 

(4) اكتشافي أن أغلب الناس اليوم غرقى؛ غرقى في غفلة تطويهم، غرقى في ذنوب تدميهم، غرقى في دنيا تغويهم، وعليَّ أن أكون السبَّاح الماهر الذي يستنقذهم، لا أن يكون من الغارقين معهم!

 

ولا أخفي عليك -يا بني -أني لما جرى بالفصاحة لساني، وهدأت من روعها أركاني، وتشوف الناس إلى مكاني، حدثتني نفسي بما يقول الناس الآن عني؛ تراهم يقولون: «العالم العلامة، والحبر الفهامة، والفصيح البليغ؟!»... فاحتجت أن أصحح نيتي وقصدي مرة أخرى، فقلت لها: يا نفس تنافقين؟! أما يفزعك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم ـ: «إن أكثر منافقي أمتي قراؤها»([3]).

 

يا نفس: أتحبين أن تخرجي يوم القيامة ذليلة مخذولة لا أجر لكِ؟ أَمَا بلغك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم ـ: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمله لله أحدًا فليطلب ثوابه من عنده؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك»([4]).

 

يا نفس: ألا تفزعين أن تكوني من الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة؛ فإن منهم: رجل «تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار»([5]).

 

فأول ما تفعل -يا بني -إذا أردت النجاح في الخطابة هو أن تسائل نفسك: لماذا أصعد المنابر وأدبج الخطب وأزوق الكلمات...؟ هل ليقال: هو فصيح، هو بليغ، هو علَّامة؟! هل لأنها وظيفة تقتات منها؟! هل لأنك انبهرت بخطيب ما فأنت تريد أن تكون مثله؟! هل لأنها شهوة نفس عندك؛ تُشبِع بها رغبة، وتثْبت بها تفوقًا؟!... إن كانت هذه نيتك فلا تتعنى؛ فقد خسرت وبارت تجارتك!

 

البند الثاني: استعن بربك وتوكل عليه، وتبرأ من حولك وقوتك:

 

وهل لك من حول ولا قوة إلا بربك! إنه إن أسلمك فأنت الضائع الخاسر الهالك! فإذا أردت سدادًا فاستعن به وتوكل عليه، وإذا تلوتَ في كل ركعاتك: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]، فلا تجعلها مجرد كلمات باللسان، بل فلتطع أمر نبيك -صلى الله عليه وسلم ـ: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز»([6]).

 

وإن سألتني: ما هو مقام الاستعانة والتوكل؟ أجبتك: «هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله، والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقينًا بكفايته لما توكل عليه فيه»([7]).

وليكن لسان حالك:

 

أنا الـفـقــــــــــــير إلى رب الـــبريـــــــــــــات   ***   أنا المسيكين في مجموع حالاتـي

لا أستطيع لنفسي جـلب منفـعة   ***   ولا عن النفس لي دفع المضرات

ولست أملك شيئًا دونـــه أبـــــــــدًا    ***   ولا شـــريك أنــا فـي بعـض ذرات

والفقر لي وصف ذات لازم أبدًا   ***   كما الغنى أبدًا وصــف لـه ذاتـي

وهذه الحال حال الخلق أجمعهم   ***    وكلــهـــم عـنـــده عــــبـــد لــه آتـي([8])

 

البند الثالث: ثق في نفسك:

 

«الثقة في النفس نجاح»، وإنك لن تنجح ما دمت وجلًا مرتعدًا مترددًا خائفًا، بل كن جريئًا جسورًا ثابتًا واثقًا، يقول أحد الحكماء: ««أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح»... لأن الحيرة والدَّهش يورثان الحبسة والحصر... وعلامة سكون نفس الخطيب ورباطة جأشه: هدوءه في كلامه، وتمهله في منطقه»([9]).

 

أخي الخطيب: أنت لست بالشيء القليل، بل أنت بثقتك بنفسك -بعد ثقتك بربك -عزيز كريم؛ وكفى أن الله -عز وجل -اختارك أنت لتدعو إليه وتدل الناس عليه، وتقف مكان نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

 

أخي الخطيب: لقد رفعك الله وأعزك، رفعك معنويًا حين علَّمك من علمه، ورفعك حسيًا حين جعل قدميك يوم الجمعة فوق رءوس الناس.

 

أخي الخطيب: إن أهل الباطل يصولون ويجولون بباطلهم وكلهم ثقة وثبات، فهل يعقل أن يتزعزع ويتزلزل ويتردد أهل الحق؟!

 

أخي الخطيب: إن ثقتك في نفسك تنعكس على من يخاطبك؛ فإن أحس بك ثابتًا واثقًا اطمأن إلى الحق الذي تحمله، وإن رآك مضطربًا مترددًا شك هو الآخر وتردد؛ قائلًا في نفسه: «لو كان ما يحمله هو الحق، إذًا لثبته ذلك الحق!»، فثقة الآخرين فيك فرع عن ثقتك بنفسك.

 

وليكن نصب عينيك قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].

 

البند الرابع: اعمل قبل أن تقول:

 

ائتمر قبل تأمر، وانتهي قبل أن تنهى، وإياك إياك أن يخالف عملك قولك فتقرض شفتيك بالمقاريض -والعياذ بالله -فعن أنس أن رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- قال: «رأيت ليلة أسري بي رجالًا تقرض شفاههم بمقارض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟! فقال: الخطباء من أمتك؛ يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون»([10]).

 

وأنت تحفظ حديث الصحيحين: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه»([11]).

 

وإنك إن عملت بما تقول، اكتسى كلامك صدقًا، وقطرت نبرات صوتك إخلاصًا، فكنت خير مبلِّغ لرسالة ربك.

***

 

فهذي جملة من الثوابت والأصول، ذكَّرتك بها -وأنت في غنى عنها -والغرض من هذه البنود التأسيسية: صيانتك وحفظك من الميل والزلل، ثم ضمان نجاحك بإذن الله -تعالى.

وبقي النوع الثاني من بنود النجاح الخطابي، وهي بنود فنية، ومنها:

 

البند الخامس: اهتم بالتحضير غاية الاهتمام:

 

يا بني: إن الخطيب مهما وسع اطلاعه وغزر علمه ونبغت مداركه، لا يستغني أبدًا عن التحضير والتجهز والاعداد قبل أن يتصدر للخطابة، «فأن الخطيب كالمجاهد؛ لا يخوض غمار الحرب من غير أن يدَّرَع بدروعها ويتترس بتروسها ويلبس لها لأمتها، وليس ذلك في الخطيب إلا بالتحضير والتهيئة والاستعداد للموقف من كل نواحيه.

 

وإن الذى يتعرض للخطبة من غير سابق تحضير ولا تهيئة، ولم يكن ذا إلمام سابق بالموضوع، يجئ كلامه ضعيفًا في معناه ومبناه.

 

بل إن ذا الاطلاع الواسع والعلم الغزير بما يقول إن لم يراجع نفسه آنا بعد آن، ويفكر طويلًا فيما يعتزم قوله وقتًا بعد آخر، يضعف أسلوبه الخطابي، وتلين عباراته، وينحدر إلى منهوى من الابتذال سحيق، وتتجه معانيه اتجاهًا سطحيًا، وتفقد قوة التأثر»([12]).

 

وعليه فلا تقل: عندي من الحصيلة العلمية واللغوية والمهارة الخطابية ما يغنيني عن التحضير! فمهما بلغ علمك ومهارتك فلن يبلغا علم ومهارة الفاروق عمر؛ وقد قال يوم السقيفة معلنًا أنه يحضر للخطبة قبل إلقائها: «وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر»([13])، ومعنى «زوت مقالة»: «أي هيأتها وصورتها في نفسي»([14]).

 

ولا تغضب إن قلت لك: إن عدم التحضير خيانة للأمانة التي وضعها الله في عنقك، وتضييع لأداة عظيمة من أدوات الإصلاح.

 

البند السادس: حاول وتدرب ولا تيأس:

 

يقول أبو دواد الإيادي: «رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة»([15])، فإن فاتتك الموهبة فلا يفوتنك التدريب.

 

والسؤال: على أي شيء يتدرب الخطيب؟ والجواب: على أشياء عديدة، نظرية وعملية، منها:

ــ التدرب على كيفية التحضير الجيد للخطبة.

ــ التدرب على مهارات الإلقاء المتميز المبدع.

ــ التدرب على وسائل التأثير في الجمهور.

ــ التدرب على تقويم ردود الفعل على الخطبة...

 

إذن فتدرب وواصل وثابر، وإياك أن تيأس مهما أخفقت، فليس الفشل أن تخفق، إنما الفشل هو أن تيأس، فإذا يئستَ فقد فشلتَ.

 

البند السابع: لا تنس القصص والأشعار:

 

فإنها تجذب الآذان وتشحذ العقول وتشد الانتباه وتستجلب التركيز وتعزز الفهم وتسهل الحفظ...

 

فأما القصص فأسلوب قرآني ونبوي، وقد عالج النبي  -صلى الله عليه وسلم- الأعرابي الذي تمنى عليه: «ناقة يركبها، وأعنزًا يحلبها أهله»، بقصة عجوز بني إسرائيل التي اشترطت على موسى -عليه السلام -مرافقته في الجنة([16])؛ ليدرك تفاهة أمنيته إذا ما قارنها بأمنيتها.

 

وأما الشعر فإنه يختصر المعاني اختصارًا ويثبتها في الأذهان والقلوب تثبيتًا. ولو كلمتك عن تقوى الله -عز وجل -ساعة، فأوقع من ذلك وأخصر وأدوم أن تحفظ عني قول الشاعر:

إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى    ***  تـجــرد عــريانًا ولــو كـان كاسيًا

 

البند الثامن: عش واقع الناس، وادْنُ من أفهامهم:

 

فلا تعزل نفسك -أيها الخطيب -عن واقع الناس من حولك، ولا تتكلم فيما لا يعنيهم، فلا توبخهم على عدم إخراج زكاة المال، وهم من الفقراء المعدمين! بل بيِّن لهم أجر الفقير الصابر العفيف... ولا تكرر عليهم أحكام التيمم وهم صيادون يسكنون على شاطئ بحر! بل علِّمهم آداب السفر إذا خرجوا وإذا عادوا...

 

ثم اختر الأسلوب الذي يناسب السامعين، والمستوى الخطابي الذي يستوعبونه، وخاطبهم على قدر عقولهم.

 

ولا تخرج عن موضوع خطبتك فيتشتتوا، ولا تطل عليهم فيملوا، ولا تغب عنهم فينسوك، وتقرب منهم ليحبوك.

 

وأخيرًا أقول لك: إذا نجحت فلا تغتر:

 

فما هذا النجاح من عندك، بل أنت الضعيف القليل الفقير المسكين، وما النجاح إلا منة عليك من رب العالمين، إن شكرت أدامها عليك، وإن جحدت نزعها منك.

***

 

بُنيَّ: هذي كانت خلاصة تجربتي، ولم أقصص عليك كل بنودها، بل ما رأيت أنه أهمها، فهل تراك قد استفدت منها؟([17]).

 

----

[1])) يقال: «في حَيْصَ بَيْصَ»: «أي في اختلاط من أمر، ولا مخرج لهم، ولا محيص منه»، لسان العرب لابن منظور (7/9)، دار صادر بيروت، الطبعة: الثالثة 1414هـ.

[2])) مسلم (2664).

[3])) أحمد (6633)، والطبراني في الكبير (25)، وصححه الألباني: (الصحيحة: 750).

 ([4])ابن ماجه (4203)، وابن حبان واللفظ له (404)، وصححه الألباني (التعليقات الحسان: 405).

[5])) مسلم (1905).

[6])) مسلم (2664).

[7])) مدارج السالكين لابن القيم (1/103)، الناشر: دار الكتاب العربي بيروت، الطبعة الثالثة 1416 هـ.

[8])) المصدر السابق (1/521)، بتصرف.

[9])) الصناعتين لأبي هلال العسكري (19 ـ 22)، الناشر: المكتبة العنصرية بيروت 1419هـ.

[10])) ابن حبان (53)، والبزار (7418)، وصححه الألباني (الصحيحة: 291).

[11])) البخاري (3267)، ومسلم واللفظ له (2989).

[12])) الخطابة لمحمد أبو زهرة (112)، بتصرف بسيط، دار الفكر العربي القاهرة.

[13])) البخاري (6830).

[14])) فتح الباري لابن حجر (1/128)، الناشر: دار المعرفة بيروت، 1379هـ.

[15])) العقد الفريد لابن عبد ربه (4/146)، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ.

[16])) ابن حبان (723)، والحاكم (3523)، وصححه الألباني (الصحيحة: 313).

[17])) هذا، وإن كانت أحداث هذه القصة من نسج الخيال، إلا أنها تتكرر على أرض الواقع كل يوم.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات