الإسلام فيما يحرمه على الإنسان يصون به إنسانيته

محمد البهي

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

حرَّم الإسلام على الإنسان، الذكر والأنثى على السواء، شرب الخمر، وهو إذ يحرم شرب الخمر لا يبغي فقط؛ أن يجنب الإنسان ضرر الإسراف في الإنفاق، ولا التزام عادة سيئة فقط، وإنما قبل هذا وذاك يريد أن يجنبه الضرر الذي يصيب بناء نفسه وجسمه...

تدخَّل الإسلام بتوجيهه في حياة الإنسان الفرد وفي صلته بمن معه وبمن يشاركه الحياة الإنسانية العامَّة، تدخَّل لا ليكون وصياً ولا رقيباً عليه، وإنما ليحدد له منهج السلوك في حياته بنوعيها الخاصة والعامة، وربما يظن كثير من الناس أن الإسلام بتدخله في توجيه الإنسان اقتحم دائرة الحريَّة الشخصيَّة للفرد، ولم يتركه يفعل ما يشاء طالما لا يصيب غيره معه بضرر ولا أذى.

 

ولكن إذا عرف أن الإسلام قصد إلى إقامة مجتمع إنساني له جوانب الاستطاعة المختلفة في الحياة، وله الإمكانيات التي يسود بها، والتي يؤمِّن بها نفسه في مواجهة الاعتداء الذي يوجه إليه لحظة ما، لكن إذا عرف ذلك في الإسلام؛ فإنه لا يستغرب بحال أن يتدخل في منهج الفرد في حياته كما يتدخل في منهج العلاقات بين الفرد والفرد.

 

الإسلام يريد للفرد أن يكون مواطناً صالحاً، والمواطن الصالح هو الذي يستطيع أن يلائم بين نفسه وبين غيره، والذي يستطيع أن يشارك في تحقيق أهداف مجتمعه ووطنه، وكون الإنسان يلائم نفسه مع غيره أمر يتوقف على فهم الحياة الإنسانية، ثم على دربة عملية لحل المشاكل التي قد تطرأ على حياته في محيطه الخاص وفي علاقته بغيره.

 

وتوجيه الإسلام هو للجانبين معاً: هو لدفع الإنسان نحو فهم الحياة فهماً سليماً، ثم لدفعه مرة أخرى نحو حل الأزمات والمشاكل التي تعرض له.

 

الإسلام يريد للإنسان أن يفهم الحياة الإنسانية على أنها وجود مشترك، وأنه لذلك؛ عليه أن يعين ويساعد على تحقيق هذا الوجود المشترك، عليه أن يتجنب أذى الغير وضرره، كما يتجنب أذى نفسه وضررها، وبذلك يخلو هذا الوجود المشترك مما يسبب آلاماً للإنسان نفسه أو لغيره، وهنا في هذه الدائرة، وهي دائرة التوجيه للمعاونة في تحقيق الوجود المشترك، تدخل الإسلام بتحريم بعض أشياء، سواء فيما يتعلق بالأكل والشرب، أو يتعلق بالملبس والتزين، أو يتعلق باللعب والتسلية، ونصَّ على تحريم هذه الأشياء لا لذواتها، وإنما لما يترتب عليها من آثار تضر الإنسان؛ كإنسان في محيطه الخاص، أو في علاقته بغيره: نجد ا لإسلام هنا حرَّم شرب الخمر، وأكل الميتة، ولعب القمار والميسر على الإنسان، ولبس الحرير على الرجل وتزينه بالذهب.

 

وإذا ناقشنا الإسلام؛ فيما حرمه من هذه الأشياء، نجده قد حرمها لأن تناولها أو ممارستها يسيء إلى إنسانية الإنسان على العموم ذكراً أو أنثى، كما يسيء إلى رجولة الإنسان إن كان ذكراً؛ فحرم على الرجل لبس الحرير الصافي وهو الطبيعي وتزينه بالذهب؛ لأن الرجل في مجال الحياة الخارجية هو المكافح في سبيل تحصيل الرزق، والمدافع ضد الاعتداء على الأسرة الصغيرة والأسرة الكبيرة وهي الوطن كله، وشأن المكافح -كشأن المدافع على السواء- أن يكون عرضة للمشقة بأنواعها المختلفة، عرضة للأزمات النفسية والمادية إذا ما ضاقت عليه سبل العيش، أو ضيَّق عليه خصمه الخناق في الاعتداء عليه.

 

ومن أجل هذا حرَّم عليه لبس الحرير النقي، والتزين بالذهب، لا لأنها مظهر من مظاهر الرخاء والرفاهية، ولكن لأن ارتباط النفس بالتزيي بالحرير والتزين بالذهب، والحرص على حملهما يدعو إلى أن يحرص المتزيي والمتزين بهما على تجنب لقاء المشاكل والأزمات وأنواع المشقات.

 

والذي يحرص من الرجال على أن يتجنب ألوان المشقة وأنواع الأزمات؛ هو رجل يصلح لنوع معين من الحياة، وهو الحياة الرتيبة فقط، وليست هذه هي طبيعة الحياة، وإنما كما نجد في طبيعة الأرض التي نسكنها الجبال المرتفعة، والوهاد المنخفضة، والأرض اليابسة، والماء الجاري، والرمال والصخور، والرياح في هوجها وفي اعتدالها، وذلك كله يدعو من يرتادها إلى أن يتخذ عدته لمواجهة ما يقابله فيها.

 

كذلك طبيعة الحياة الإنسانية بالنسبة للإنسان ليست واحدة في مستواها، ولا واحدة في الاستمتاع بها، بل فيها الرخاء والضيق، وفيها ارتفاع المستوى وانخفاضه، وفيها العسر واليسر، وفيها انفعالات النفس العنيفة والرقيقة التي تشبه العواصف الهوجاء مرة، والبسمات الهادئة مرة أخرى، وهذا من شأنه أن يحمل الإنسان الذي يريد الحياة على أن يكون معداً للقاء كل حال تواجهه من هذه الحالات المتقابلة المتباينة.

 

وإذن من الطبيعي للإنسان ومما تدعو إليه طبيعته أن يخلع ما يربطه بلون معين من الحياة؛ فلا يتعود لبس الحرير ولا التزين بالذهب مثلاً مما من شأنه أن يربطه بالحياة الهادئة الرتيبة، وأن يكون أكثر استعداداً للحالات المختلفة التي تقوم عليها طبيعة الحياة.

 

وعلى هذا النحو حرَّم الإسلام على الإنسان، الذكر والأنثى على السواء، شرب الخمر، وهو إذ يحرم شرب الخمر لا يبغي فقط؛ أن يجنب الإنسان ضرر الإسراف في الإنفاق، ولا التزام عادة سيئة فقط، وإنما قبل هذا وذاك يريد أن يجنبه الضرر الذي يصيب بناء نفسه وجسمه، كما يصيب عن طريقه بناء المجتمع الذي هو واحد من أبنائه ومن المشاركين في إقامته، يريد الإسلام بتحريم الخمر على الرجل وعلى المرأة أن يحول دون فقدانهما الإعداد الصالح للحياة نفسها، يحول دون أن تفقد المرأة إعدادها لأن تكون امرأة ذات خفر وحياء يحول بينها وبين التسول والاستجداء من أجل هذه العادة السيئة إذا هي ضاقت يدها عن الإنفاق في سبيل حاجتها إلى الشراب، يحول دون أن تفقد المرأة أهليتها لأن تكون زوجة ذات تدبير وأم ولد ذات حنان وعاطفة، وراعية في المجتمع ذات صبر وتؤدة في رعايتها لمن ترعاه، وفي مباشرتها لما تباشره، ويحول دون أن يفقد الرجل كرامته كرجل؛ فيجبن عندما تطلب منه النجدة، وتخور قواه عندما لا يجد شراباً، ويسوء خلقه إذا ما تحكَّمت فيه العادة، يحول دون أن يفقد أبوته وصلاحيته للأبوة، وصلاحيته للولاية العامة والخاصة، يحول دون أن يفقد الرجل شجاعته وجرأته، وعزمه، وإيمانه بالفداء والتضحية إذا ما اضطر للقاء خصم وعدو، أو إذا ما هوجم وهو في عقر داره، ذلك هو سبب تحريم الخمر على الرجل والمرأة معاً.

 

يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:90]، وشرحت السنة الصحيحة الخمر بما يروى عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "كل مسكر خمر"، "إن من الحنطة خمراً، ومن الشعير خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن التمر خمراً، ومن العسل خمراً، وأنا أنهى عن كل مسكر" والخمر أخذت هذا الاسم لمعنيين: لما فيها من الاختمار ثم لأنها تخامر العقل – وهو تفسير عمر -رضي الله عنه- عندما خطب على المنبر؛ فقال: "يا أيها الناس إنما نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل"، ومعنى مخامرتها العقل: أنها تمازجه وتشتبك به فتُلِبس عليه طريق التفكير والحكم، وتحول عندئذ دون أن يكشف طريقه الصحيح.

 

والإنسان إنما تميز كإنسان؛ لأنه ذو عقل يستطيع أن يكشف به ما يلبس عادة على غيره، وأن يحل به المشاكل التي لا يستطيع غيره بحكم فطرته حَلَّها؛ فإذا تناول الإنسان الرجل أو المرأة، ما يفسد عليه هذه الخصيصة وما يعوقها دون أن تؤدي وظيفتها؛ فقد حرم الإنسان نفسه من ميزته، وسوَّى بينه وبين غيره من المخلوقات، وليست هذه فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها.

 

فشارب الخمر يريد أن يشوه خلق الله تعالى الذي يتمثل في الطبيعة التي فطر عليها، ويمسخ أبرز ميزة له وهي ميزة العقل الذي هو أداة الحكم الصحيح على الأشياء والحل السليم للمشاكل والأزمات.

 

والخمر ليست فقط هي ما اختمر من العنب، ولا ما اختمر من الحنطة والشعير والتمر والعسل، وإنما هي كل ما يؤدي إلى نتيجة ما اختمر من هذه الأشياء السالفة، وهذه النتيجة هي سد المسالك على العقل في مباشرة الحكم الصحيح وإنتاج الحلول السليمة لمشاكل الحياة وأزماتها، والمخدرات بأنواعها المختلفة؛ الحشيش، الأفيون، الهوريين، الكوكايين، وكل ما يشتق منها هي في معناها وسلم نتائجها خمر، وإن لم تأخذ اسم الخمر فيما مضى على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد خلفائه والمسلمين الأولين، بل إن ابن تيمية -الفقيه المشهور- جعلها أدخل في الحرمة وأشد في المنع من الخمر التي ذكرت بالاسم في القرآن؛ فيقول: "إن فيها من المفاسد ما ليس في الخمر؛ فهي بالتحريم أولى، ومن استحلها وزعم أنها حلال؛ فإنه يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل مرتداً، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين".

 

ويقول تلميذه ابن القيم: "يدخل في الخمر كل مسكر مائعاً كان أو جامداً، عصيراً أو مطبوخاً، وتدخل فيه اللقمة الملعونة لقمة الفسق والفجور التي تحرك القلب الساكن إلى أخبث الأماكن"، ويعني باللقمة الملعونة: الحشيش.

 

وأدخل ابن تيمية المخدرات في التحريم على نحو أشد من تحريم الخمر عندما ظهرت في وقته في آخر المائة السادسة وفي المائة السابعة من الهجرة، حين ظهرت دولة التتار وخربت بغداد وغزت دمشق والشام، وهي وإن لم تأخذ اسم الخمر فيما مضى قبل عهد ابن تيمية لأنها لم تكن معروفة، لكن يصح أن تأخذ الآن اسم الخمر، طالما هي أشد أثراً وأكثر فتكاً بالعقل في أحكامه وحلوله.

 

فهذه الأشياء التي تناولها الإسلام بالتحريم في حياة الإنسان، وإن بدت أنها قاصرة على حياة الإنسان الشخصية، تتجاوز حياته الخاصة إلى علاقته بغيره، إلى علاقته بجاره، إلى علاقته بأسرته، إلى علاقته بوطنه، إلى علاقته بمجتمعه؛ فالإنسان الذي يحول دون إعداد نفسه للقاء المشاكل والأزمات، والإنسان الذي يحول دون أن يكون ذا أهلية وذا صلاحية في بيته وفي وطنه، ويحول دون أن يكون ذا شجاعة وذا جرأة في مقاومة خصمه وعدوه، ويحول دون أن يكون ذا تضحية وفداء في الدفاع عن وطنه ومجتمع، هو إنسان كما ذكرنا أضاع طاقته البشرية، وأتلف إمكانياته التي كانت له بحكم طبيعته.

 

ومن هنا مكافحة الخمر في جميع صورها، وأنواعها أمر يجب أن يحرص عليه المجتمع السليم، وتحرص عليه الرعاية الواعية وهي رعاية كل من له ولاية على نفسه أو على غيره.

 

والمدنية الغربية الحديثة تعاني أزمات عنيفة بسبب انتشار الخمر في مجتمعاتها وفي مقدمة هذه الأزمات :أزمة الرجولة، وأزمة الشجاعة والجرأة، وأزمة التضحية والفداء، ولولا أن هناك أسباباً اقتصادية تدعو إلى صنع الخمر والاتجار بها، ولولا أن هناك عادات استحكمت وتحكمت في القيادة والتوجيه -في التشريع وسياسة الحكم على السواء- لولا هذا وذاك، لما ترددت هذه المجتمعات في تحريم الخمر بأنواعها.

 

وشيوع الشراب في المجتمع الغربي يَسَّر لدخول أنواع متعددة من المخدرات حتى أصبح في متناول من هم في سن المراهقة من روَّاد المدارس وعمال المصانع، وأصبحت بذلك مشاكل هذا المجتمع صعبة الحل لأنها تتعلق بالاقتصاد القومي من جانب، وبتحكم العادات والتقاليد من جانب آخر.

 

وكلنا يعلم أن أوربا بمجتمعاتها المختلفة ودولها العديدة أرادت ذات يوم أن ترضي شهوة السيادة والاستعمار فيها، كما تخلق أسواقاً لمنتجاتها الصناعية الاستهلاكية بعدما حولت الصناعة فيها من يدوية إلى آلية، ومن فردية إلى رأسمالية؛ فقسمت الصين بينها إلى مناطق نفوذ، وأكبر شعب على وجه البسيطة عدداً هو شعب الصين، ولكي يستقر الأمر لأصحاب مناطق النفوذ في هذا البلد الكثير العدد، روجوا تجارة الأفيون وروجوا استهلاكه بين أفراد الشعب الصيني، حتى أصبح تناوله عادة متأصلة ومستحكمة، وبذلك قلَّ إنتاج الشعب الصيني، فضلاً عن ضعف مقاومته لهذا المستعمر الدخيل.

 

ولعلنا نعرف كذلك أن بريطانيا كانت في مقدمة المستعمرين الذين رسموا ما يسمى بسياسة الأفيون في الصين، تمكيناً للأهداف الاستعمارية التي أشرنا إليها، ولم تصبح الصين بلداً ذا يقظة وذا رأي في السياسة العالمية الدولية إلا عندما حرمت الأفيون وعالجت مشكلة الإدمان عليه.

و(سياسة الأفيون) التي رسمتها أوروبا ونفذتها في الصين إلى قيام الحرب العالمية الثانية تتبعها إسرائيل في تهريب المخدرات بوسائل مختلفة إلى البلاد العربية، بغية إضعاف مقاومة هذه الشعوب من جانب، وإضعاف إنتاجها من جانب آخر، حتى تنفرد بالقوة وتنفرد بالسيطرة في منطقة الشرق الأدنى، وحتى تحقق سياستها فيما يسمى الإسكان والتعمير، وحتى تحقق حلمها الذي يداعبها والذي قامت عليه وهو: (من النيل إلى الفرات).

 

وهنا ندرك الآن مزايا تحريم الخمر والمخدرات في حياة الإنسان المسلم، وندرك تشدد الإسلام في تحريمها تفادياً لآثارها المخربة، وهي آثار تعود على بناء الوطن بالضعف والتفكك، وعلى المجتمع بميل أفراده إلى السكون والدعة وعدم المقاومة.

 

الإسلام يريد فرداً قوياً هو مواطن صالح، ويريد مجتمعاً ذا بناء متماسك هو مجتمع ذو سيادة في الداخل والخارج، ولذا حرَّم الخمر وما يشبهها، وتناول بالتحريم معها أشياء أخرى تتصل بهذا الهدف السامي.

 

وهكذا لو استرسلنا فيما حرمه الإسلام على الإنسان لوجدنا أن هدف الإسلام كان دائماً هو: فرد قوي صالح في مجتمع قوي متماسك.

 

متى يكون للدين أثره؟!

ولكن لا تكون للدين إيجابيته، ولا يكون له أثره في سلوك الإنسان إلا إذا كانت قيمه مصونة عن التجريح، وكانت فوق النقد الساخر البذيء؛ فخاصية الدين ليست في خلود قيمه فقط، وليست في استيعاب مبادئه لطبيعة الإنسان، ومساوقتها للمستوى المهذب الرفيع للإنسانية، وليست في أنه وحي من الله تعالى وليس من صنع البشر، وليست في أن المُبّلِغ به كان معصوماً عن الخطأ فيما بَلّغ، وإنما كذلك في قدسيته، وفي طاعة الناس له طاعة منبثقة عن ضمير في النفس، كَوَّنته المهابة من الله والإيمان بعظمته، وأنه وحده هو الأكبر في الوجود، وأنه من أجل ذلك لا إله إلا هو سبحانه له الملك وله الحمد.

 

فإذا خفَّت قدسية الدين في النفوس، وتخلخلت عظمة الله -تعالى- الذي أوحى به، وضمر الضمير الذي تنبثق عنه الطاعة لمبادئ الدين، جنح الناس إلى الاستخفاف بقيمه، ومال أمرهم إلى التخلف عن متابعة هذه المبادئ، وأصبح الحلال والحرام من الكلمات التي تنطق بها الألسن دون أن تعيها القلوب؛ فضلاً عن أن تحفل النفوس بها في التصرفات والسلوك.

 

وعندئذ يصبح الدين، وتصبح أحكامه ومبادئه على هامش حياة الناس، وتصبح فاعليته وانفعال الناس به أمراً لا يعدو أسماعهم، وإن لم يسلم شأنه من استخفافهم وسخريتهم به.

 

وعندئذ -أيضاً- لا يكون بديلاً عنه في فاعليته وانفعال الناس به، لا يكون القانون والتشريع، ولا تكون الفلسفة، ولا يكون التوجيه الإنساني في صورة مَّا ذلك البديل في أثره وطواعية المؤمنين به، وهنا تكون الأزمة في (العِوَض) بجانب تلك الأزمة الأخرى التي صاحبها تقلص فاعلية الدين وانفعال الناس به، بسبب تعرض قيَمه للتجريح، وعرض مبادئه أمام الرأي العام في سخرية واستخفاف.

 

وهنا يفقد المجتمع مصدراً للتوجيه والتأثير، في الوقت الذي لا يستطيع فيه أن يجد عوضاً له، مهما أجهد نفسه في التفتيش عن هذا العِوَض؛ لأنه لا يوجد عوض عن الدين إلا دين آخر في صورة ما، لأنه لا يوجد عوض عن العقيدة إلا عقيدة أخرى، ولأنه لا يوجد عوض عن الإيمان إلا إيمان آخر.

ومعنى ذلك: العوض عن الدين يجب أن تكون له خصائص الدين من القدسية والارتفاع عن مستوى النقد، يجب أن تكون له منزلة الدين والعقيدة والإيمان في وجوب الطاعة له وامتلاء النفس والقلب بقيمه.

 

فإذا أريد الآن أن نعرف رأي الإسلام في المخدرات فهاكم الرأي فيها، وهي حرمة تعاطيها مشددة وواضحة لا لبس فيها، ولكن لكي يتبع هذا الرأي باسم الإسلام يجب أن تصان قداسة الإسلام فيما تعرض له الصحافة من مبادئه.

 

يجب أن لا يكون هناك توجيه آخر في البيت، أو في المدرسة، أو في الإذاعة، أو على المسرح، أو في أفلام السينما يقلل من الطاعة لمبادئ الإسلام، أو يخفف من وزنها في نفوس الأطفال والشبان والشيوخ على السواء.

 

لا يكفي أن يطلب رأي الإسلام في المخدرات؛ فإذا ذكر الرأي فلا يطاع لأن هيبة مبادئه وأحكامه في النفوس وعليها قد ضعفت أو زالت، بفعل التعقب المستمر في مصادر التوجيه العديدة من الصحافة إلى الكتاب، إلى القصة والرواية، إلى التمثيل والعرض، لمبادئ الإسلام وتتبعها وأخذها بمآخذ من ينتسبون إلى الإسلام في أقوالهم وتصرفاتهم.

 

وإنما إذا طلب رأي الإسلام في توجيه المجتمع ليكف عن آفة وعلة فيه، أو ليوحد كلمته ويجمع صفوفه، لتحقيق هدف من أهدافه العليا، أو للقاء عدو مشترك، أو إذا طلب رأي الإسلام ليعاون الغني الفقير فيه، أو لغير ذلك من الغايات التي تتطلبها سيادة المجتمع وسيادة أفراده على عوامل الضعف أي ضعف، إذا طلب رأي الإسلام في هذا أو ذاك؛ فالواجب قبل أن يطلب رأيه أن تصان قيَمه وتعلو مبادئه على الابتذال والسخرية والاستخفاف.

 

إن أزمات المجتمع لا يحلها قول ضعيف، مهما بلغ قوله من السلامة، والدين إن لم تصن حرماته، وإن لم تتوفر لتعاليمه القداسة؛ فهو ذلك الضعيف الذي سلم رأيه من الهوى والانحراف.

 

وإن أزمات المجتمع لا تحلها ندوات يناقش فيها الرأي والتوجيه، وإنما يحلها الإيمان بالمثل والقيم، إن الإيمان في الإنسان قوة خالقه في السلم، وقوة ضاربة مُفّزِّعة في الحرب، في السلم يخلق الإيمان قوة الإرادة، وقوة السعي والعمل، وقوة الإنتاج، وقوة التعاون والتكتل، وفي الحرب ليس هناك سلاح أمضى على العدو، ولا أشد إرهاباً له من الإيمان؛ فإذا كان الإيمان هو الإيمان بالمثل والقيم كان سلاحه أكثر مضاء وإرهاباً.

 

وإن كان الإيمان هو الإيمان بالله تعالى تحول سلاحه لا إلى المضاء والإرهاب، وإنما إلى الفتك والإفناء، لأن الذين يؤمنون بالله يستعذبون الموت في سبيل الله تعالى، لأنهم إذا ماتوا عندئذ صاروا أقرب إلى الخلود، والخلود غاية يتمناها الإنسان من طبيعته التي تحب الحياة إلى الأبد، (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران:169-170].

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 

المصدر: مجلة رسالة الإسلام، السنة الثانية عشرة، شوال 1379 - العدد 2

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات