بنية الحوار في سورة إبراهيم -عليه السلام-

عبد الرحيم حمدان حمدان

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

المتأمل في البناء الفني في "سورة إبراهيم" -عليه السلام- يكتشف أن السورة سلكت مسلكاً خاصا، ونهجت منهجاً معيناً في عرض مضامينها الفكرية الأساسية، وحقائقها الأصلية، منهجاً يميزها عن غيرها من السور القرآنية، وهو تعويلها على عنصر الحوار؛ بوصفه ركيزة جوهرية في عرض حقائقها الكبرى. والحوار في القران الكريم بابه واسع، وفنونه لطيفة؛ فقد تعددت أشكاله، وتنوعت أساليبه، لتشمل...

 

 

المتأمل في سورة إبراهيم -عليه السلام- يجدها تدور حول حقيقتين أساسيتين هما: حقيقة العقيدة في أصولها الكبيرة: الوحي والرسالة والتوحيد، والبعث والحساب والجزاء، وتناقش وحدة الرسالة والرسل، ووحدة دعوتهم، ووقوفهم أمة واحدة في مواجهة قوى البغي والطغيان المتمثلة في فريق المكذبين في الدنيا والآخرة.

 

والحقيقة الأخرى هي: حقيقة نعم الله على البشر كافة، أولئك الذين كفروا بهذه النعمة، والذين آمنوا بها وشكروا، نموذجهم في ذلك سيدنا إبراهيم -عليه السلام- ونموذج الآخرين هم الظالمون والكافرون بنعمة الله.

 

إن عرض هذه الحقائق الكبرى وتقديمها للعقل البشري والفكر الإنساني لا يتأتى بطرق تخاطب العقل، وأساليب تستخدم المنطق والحجج وحدها؛ وإنما تحتاج إلى أن تعرض تلك الحقائق بطرائق غير مباشرة، وتصب في أسلوب قصصي مثير ومشوق؛ حتى تترسخ في الذهن، وتدركها العقول، وتتأثر بها القلوب والنفوس.

 

ومن المعلوم: أن البناء القصصي يعد من أفضل القوالب لعرض الأفكار، وهو يتكون من عناصر فنية؛ ليستكمل وظيفته؛ مثل الوصف والسرد وأسلوب القطع، والاسترجاع، والحوار، وتقنية الحذف، وتقنية الاستباق، وهي مؤثرات تجعل الحوار الدرامي أكثر وقعاً وتأثيراً في المتلقي.

 

والمتأمل في البناء الفني في سورة إبراهيم -عليه السلام- يكتشف أن السورة سلكت مسلكاً خاصا، ونهجت منهجاً معيناً في عرض مضامينها الفكرية الأساسية، وحقائقها الأصلية، منهجاً يميزها عن غيرها من السور القرآنية، وهو تعويلها على عنصر الحوار؛ بوصفه ركيزة جوهرية في عرض حقائقها الكبرى.

 

والحوار في القران الكريم بابه واسع، وفنونه لطيفة؛ فقد تعددت أشكاله، وتنوعت أساليبه، لتشمل: حوار الله -سبحانه وتعالى- مع الملائكة، وحوار الله -سبحانه وتعالى- مع الرسل والأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه-، وحوار الله -سبحانه وتعالى- مع إبليس -عليه لعنة الله-، وحوار الله مع الأقوام عن طريق الرسل، وحوار الله مع الإنسان كإنسان، وحوار الإنسان مع الإنسان؛ كحوار أهل الجنة والنار، وحوار الرسل مع أقوامهم، وحوار الإنسان مع المخلوقات الأخرى؛ كالهدهد والنمل، وحوار الأنبياء مع الطغاة والحكام والجبابرة، وحوار الإنسان مع الجماد؛ مثل حوار الإنسان مع أعضائه التي تشهد عليه وتنطق يوم القيامة، وحوار الشيطان مع من اتبعه من بني الإنسان.

 

وقد يرد الحوار في صورة مناجاة رسول ربه، كما حدث في مناجاة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- لمولاه.

 

إن هذا التنوع الخلاق في موضوعات الحوار ومضامينه وأطرافه ما بين مؤمن وكافر، وزمانه ما بين الدنيا وعالم الآخرة، وفي أماكنه المتعددة، يغني المواقف ويثيرها، ويعمق الدلالات، ويعرضها في لقطات فنية متعددة تغني طرق الأداء القرآنية.

 

أهم مضامين الحوار في سورة إبراهيم -عليه السلام-:

 

ورغبة في توضيح الأمر أكثر ارتأينا أن نتطرق إلى بعض مضامين الحوار، وذلك بتلخيصها في العناصر الآتية، وفي الإمكان عرض بعض المشاهد الحوارية في سورة إبراهيم -عليه السلام- على النحو الآتي:

 

أ- الحوار بين الرسل وأقوامهم في الدنيا، يقول المولى -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) [إبراهيم: 6] في هذا المشهد تتجلى شخصية موسى -عليه السلام- وهو يؤدي رسالته التي تتمحور حول تذكير قومه بنعمة الله عليهم، نعمة النجاة من سوء العذاب الذي يلقونه من آل فرعون، وقد خرج أسلوب الأمر عن حقيقته إلى غرض بلاغي وهو النصح والإرشاد، وإلى الحرص الشديد الذي يبديه موسى على قومه، وهنا تتعمق دلالة الشكر ومعناه في نفوس قومه، وفي أثناء حواره معهم يدرج لهم إبراهيم قول المولى-عز وجل-: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، وفي هذا اللون من التنويع في أسلوب الحوار ما يؤكد دعوته، ويحمل في طياته الوعد والوعيد، الإغراء والحث، إن هذه المقابلة تثير الذهن، وتعمق الفكرة، وتشحن الخطاب بدلالات قوية موحية.

 

ويستثمر الأداء القرآني وسائل فنية أخرى في عرض الفكرة والحقائق الأصلية، فيعول خطاب موسى -عليه السلام- على تقنية تداخل الحكايات وتناسلها؛ ليصور مشاهد حية عن الأنبياء السابقين مع أقوامهم، ليحرك نفوس المتلقين وينبه العقول، إذ يتنقل موسى -عليه السلام-، في هذا المشهد من كونه أحد المتحاورين مع قومه إلى راوٍ يدعُ أشخاص الرواية يتحدثون ويتحاورن فيما بينهم، وهي طريقة من طرق عرض القصة في القران، يقول موسى محاوراً قومه وناقلاً لهم الحوارات التي دارت بين الأقوام السابقة ورسلهم لعلهم يتعظون: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [إبراهيم: 9] استعان الخطاب القرآني في رسم ملامح هذا المشهد الحي بتقنية الحوار إلى جانب توظيف صيغة الاستفهام الموحي بالتقريع واللوم، الممزوج بمشهد الحركة المتمثلة في تلويح الكفار بأيديهم: (فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) تعبيراً عن عنادهم وصلفهم ورفضهم لما جاء به رسلهم: (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [إبراهيم: 9].

 

ويستمر الخطاب القرآني في عرض مشاهد الحوار المحتدم والمتصاعد، إذ ترد الرسل على الأقوام الكافرة، إذ يدعونهم إلى عبادة الله وحده: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [إبراهيم: 10]، فيرد القوم الكافرون على رسلهم محاورين: (إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا)، ويتصاعد الحوار، فيرد الرسل على أقوامهم المعاندين غير منكرين بشريتهم، بل يقرونها، ولكنهم يوجهون الأنظار إلى منة الله في اختيار الرسل من البشر، وفي منحهم ما يؤهلهم لحمل الأمانة الكبرى: (إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ)، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده.

 

أدى الحوار دوراً تصويرياً مؤثراً في رسم ملامح المعركة بين الإسلام والجاهلية وتجسيدها، يقول المولى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم: 13] تتجلى في هذا الحوار صورة القوة الغاشمة وهي تسفر عن وجهها الصلد، وهنا يتبين أنه لا مجال للدعوة، ولا مجال للحجة، فالكافرون يريدون من أنبيائهم ترك دعوتهم، والالتحاق بهم، وهذا أمر مستحيل.

 

ب- مشهد حوار فريق من الكفار وساداتهم يوم القيامة، وفي مشهد آخر، يعرض الأداء القرآني الحقائق في صورة حوار ونقاش ومجادلة بين فريق من الكفار وسادتهم يوم القيامة، بعد أن انكشفت حقيقتهم ساطعة، والتي حاولوا إخفاءها في الدنيا عن البشر، وفي هذا المشهد الحواري لفتة فنية، وإعجاز قراني بليغ، إذ جعل المستضعفين هم الذين يبدؤون الحوار: (فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ) ويجيء دور الطغاة المستبدين، محاورين أتباعهم بصلف وترفع واستهزاء: (لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) [إبراهيم: 21]

 

يحفل الحوار هنا بالحيوية والحياة والحركة، استثمرت فيه إمكانات أسلوب الاستباق؛ ليوحي باشتداد لهجة النقاش والجدال العقلي، إنه يوحي بالضيق والبرم والضجر الذي يحس به الطغاة المكذبون، وفيه تأثير نفسي وتأنيب للضعفاء، فقد فات الأوان، لا ينفع جدل ولا رد ولا اعتراف بخطأ.

 

ج- مشهد حواري بين الشيطان وأتباعه يوم القيامة، تتضافر في هذا المشهد عناصر الفن القصصي إلى جانب عنصر الحوار حيث تنفرج الستارة عن الشيطان، وهو يقف يوم القيامة على خشبة المسرح، مرتدياً مسوح الكهان، ويلتف حوله أتباعه موجهاً إليهم خطبته، بعد أن قضى الأمر، وفات الأوان، وقد عرف المشاهدون مصيرهم، فريق ذاهب إلى الجنة، وفريق آخر مصيره إلى النار.

 

في هذا المشهد تجلت شخصية الشيطان المستكبر الطاغية بكل ملامحها وأبعادها، كما بدت شخصية أتباعه واضحة جلية، فقد رفعت الستارة عن شخصية الشيطان؛ ليقف فوق المسرح، وهو يلقى خطبة شيطانية قاصمة يصبها على أوليائه، بدأها بقوله: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ)، وينهي الشيطان خطبته ناقلاً لأتباعه قول المولى -عز وجل-: (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم: 22].

 

جاء الحوار في هذا المشهد في متتابعاً سريعاً في صورة جمل قصيرة تحمل سمة التكثيف والاختزال، وينبعث منها أحاسيس التلويم والتبكيت والطعن والتخلي والضعف. فكل فقرة هي طعنة أليمة نافذة حيث لا يملك الأتباع أن يردوها عليه، إنه يخزيهم، ويصمهم بالتقصير، ليس لهم عليه من سلطان، إنهم ضعاف الشخصية لا إرادة لهم. يؤنبهم يدعوهم لتأنيب أنفسهم، ويؤنبهم على أن أطاعوه، معلناً التبرؤ منهم، مظهراً الكفر بإشراكهم به، ويظن المتلقي أن أتباع الشيطان لم يردّوا عليه، بيد أن المتأمل في طريقة الخطاب القرآني في عرض هذا المشهد يدرك أن هؤلاء الأتباع كان يردون على الشيطان، ولكن بطريقتهم الخاصة التي تتوافق وطبيعة المشهد، إنهم يردون عليه في دواخل أنفسهم بأصوات غير مسموعة، إنهم يسبونه، إنهم يتحسرون على أن اتبعوه، وأنهم يلعنون اللحظات التي غرر بهم، ولم يكتشفوا أمره، وهذا لون من ألوان الحوار الداخلي الذي يحاور فيه الإنسان ذاته بضمير المتكلم؛ بغية التعبير عن الإحساس الداخلي للشخصية عبر رؤية ذاتية، وتقديم المحتوى النفسي لها، والإفصاح عن دواخلها.

 

ويدرك المتلقي أن حوار الشيطان مع أتباعه هو حوار يحمل صفة المفاجأة وسمة المفارقة بين صورة الشيطان في الدنيا، وصورته في الآخرة بعد انكشفت حقيقة أمره، وفضح سره، إنه حوار يدعو إلى العجب والإثارة، إنه يجيء في صورة الحوار اللا متوقع.

 

د- الحوار في صورة مناجاة إبراهيم لربه:

 

ويأتي الحوار أحيانا في صورة مناجاة، مناجاة بين العبد وربه، وهو هنا يجيء بين إبراهيم -عليه السلام- ومولاه، إنه مشهد خاشع، يظلله الشكر، وتشيع فيه الضراعة، ويتجاوب فيه الدعاء في نغمة رخيّة متموجة ذاهبة إلى السماء، إنه يجأر بالدعاء إلى الله، شاكراً إياه على نعمة الأمن، معبراً عن التسليم المطلق له، والالتجاء إليه في أخص المشاعر القلبية.

 

وتتبدى في هذا المشهد الحواري ملامح شخصية إبراهيم -عليه السلام- وأبعاده الداخلية، والتي تتجلى بوضوح رقيقة عذبة في لغة الحوار وصيغ المناجاة، إنه الإنسان العطوف الرحيم الأواه الحليم، ، حين تتصور القلوب متوجهة إلى الله في تعبير ندي يندي الجدب، ويرقق القلوب، إنه الشكر بدعاء الله يجعله دعامة الشكر بالعبادة والطاعة، وطلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين طلب الضارع الخاشع، يقول مناجياً: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) [إبراهيم: 41 - 40].

 

ويُلحظ هنا في مشهد المناجاة بنية التكرار وتركيباتها في دعاء إبراهيم -عليه السلام- الخاشع المنيب، فهنا تكرار لصيغة الدعاء: (ربنا، ربِّ)، إنه تكرار ذو مغزى ودلالة خاصة. فالتكرار يعمق إيمان إبراهيم بربه، ويرسخ تعلقه بجناب مولاه وقدرته على استجابة دعوة المحتاج إليه المتضرع له.

 

وتتجلى في بنية المنجاة ظاهرة التنويع في استخدام الضمائر، فمرة تأتي المناجاة بضمير المتكلم: (ربِّ)؛ لتعبر عن الذات الإنسانية في تعلقها وأملها الشديد باستجابة المولى- عز وجل-؛ لتحقيق ما يتطلع إلى تحقيقه، ومرة أخرى تجيء المناجاة بضمير المتكلم الجمع: (نحن)، (ربنا)؛ لتبرز التحام موسى -عليه السلام- بالأمة والأتباع لتحقيق ما يصبو إليه الجميع بعيدا عن المصالح الذاتية والأنانية الخالصة؛ لتعبر عن امتزاج الخاص بالعام والذاتي بالجمعي.

 

وقد يجمع الخطاب بين هاتين الصيغتين في نص واحد، يقول المولى: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) [إبراهيم: 4]، وهذا التنويع الخلاق منح الخطاب القرآني لوناً من العمومية والشمولية في إبراز خصائص الرسالة التي يحملها أولئك الأنبياء والرسل وسماتها.

 

والمتمعن في صيغة المناجاة التي أرسها إبراهيم -عليه السلام- يكتشف أنه لم يستخدم صيغة النداء: "يا الله"، وإنما عدل عنها إلى استخدام صيغة: (ربنا، ورب)، فما السر في ذلك؟ لعل المقصد من وراء ذلك يعود إلى أن إبراهيم لا يناجي مولاه بصفة "الألوهية"، وإنما دعاه بصيغة "الربوبية"؛ لأن قضية الألوهية لا اختلاف فيها بين البشر؛ وإنما الخلاف والجدل في قضية الربوبية أنه يلفت البشر إلى ما فيها من مخالفة واضحة لمدلول هذا الدعاء، إنها لفتة فنية تعبر عن مضمون إنساني شامل.

 

هـ- صورة مناجاة المولى -عز وجل- مع الكافرين:

 

يلتقي المتلقي في هذه السورة حواراً مفتوحاً مع الظالمين الكافرين من الأمم السابقة؛ ليكونوا عبرة للكافرين من قريش الذين عاندوا وأصروا على الكفر؛ لإقامة الحجج عليهم، وتفنيد الشبه التي يثيرونها والإجابة عن مقترحاتهم وأسئلتهم المتنعتة، وفي السورة مشاهد ومواقف حوارية مع المشركين يوم القيامة سيقت؛ لترهيبهم من هول يوم القيامة وتحذيرهم من عاقبة بقائهم على الشرك، ودعوتهم إلى الإقرار بالحق والتسليم له قبل فوات الأوان، قال تعالى:  (وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم: 44 -  46].

 

تنتقلُ بنا هذه الآياتِ الجليلةُ إلى صورةٍ حيَّةٍ من صورِ القيامةِ، ومشهدٍ من مشاهدِ الحوار فيها، حين يُعرض أولئك المُعرِضون المتعنتونَ المكابرون على ربِّهم، ويمثُلُون أمام المحكمةِ الإلهيةِ العادلة، لا يتخلَّفُ منهم أحدٌ، ويتوجهون في تذلل وخزي للمولى -عز وجل- معترفين له الآن بالربوبية، متوسلين له بقولهم: "ربنا"، سائلين الرجعة في غير وقتها: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي ردَّنا إلى الدنيا، فإنا قد أبصرنا، (نُجِبْ دَعْوَتَكَ)، والله يدعو إلى دار السلام (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ)، وهذا كله لأجل التخلص من العذاب الأليم وإلا فهم كَذَبَةٌ في هذا الوعد، ويسألهم ربهم سؤالَ تهكُّمٍ وتوبيخٍ: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) عن الدنيا وانتقال إلى الآخرة، فها قد تبين حنثكم في إقسامكم، وكذبكم فيما تدعون ليس عملكم قاصر في الدنيا من أجل الآيات البينات، بل (سَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) من أنواع العقوبات؟ وكيف أحل الله بهم العقوبات، حين كذبوا بالآيات البينات، وضربنا لكم الأمثال الواضحة التي لا تدع أدنى شك في القلب إلا أزالته، فلم تنفع فيكم تلك الآيات بل أعرضتم ودمتم على باطلكم حتى صار ما صار، ووصلتم إلى هذا اليوم الذي لا ينفع فيه اعتذار من اعتذر بباطل.

 

ثم ينتقل الحوار من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب وتتحول حركة الحكي إلى أسلوب الحكاية والسرد، فيقول المولى حكاية عن هؤلاء الظالمين المكذبين للرسل توبيخاً لهم: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) الذي وصلت إرادتهم وقدر لهم عليه، (وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) أي هو محيط به علما وقدرة فإنه عاد مكرهم عليهم، (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) أي ولقد كان مكرهم بالحق وبمن جاء به (من عظمه) لتزول الجبال الراسيات بسببه عن أماكنها، ويدخل في هذا كل من مكر من المخالفين للرسل لينصر باطلا، أو يبطل حقا، والقصد أن مكرهم لم يغن عنهم شيئا، ولم يضروا الله شيئا وإنما ضروا أنفسهم.

 

ومن السمات الفنية البارزة في بنية الحوار في هذه الصورة: إنه لم يأت مستقلاً بنفسه؛ وإنما جاء يتخلله السرد والحكاية؛ وذلك في قوله تعالى: (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ) [إبراهيم: 23].

 

ثم تلي السرد حوار المولى -عز وجل- وخطابه إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم: 24 - 25] يتبين للمتلقي إنه حوار غير مباشر، بين المولى -عز وجل- والنبي محمد -صلى الله عليه وسلمَ-، ولكن المتمعن فيه يجد دعوة خفية إلى التأمل في مصائر كل من الأمم الطيبة والأمم الخبيثة.

 

إن هذا السرد متصل بالمشاهد السابقة، مشهد الذين استكبروا مع الضعفاء، ومشهد الشيطان مع أتباعه متجلياً في حوار عجيب مشوق، إن هذا السرد يأتي خاتمة طبيعية للحكاية التي دار فيها الحوار، وهو حوار متناسق مع جو السياق والحوار وجو القصة، إنه خاتمة طبيعية، يأتي بمثابة تعليق السارد على الحكاية بعد إسدال الستار.

 

وهكذا اكتسب الحوار أهمية كبيرة في بنية الخطاب القرآني، وتبين أنه عنصر تكويني مهم في بناء المشاهد القصصية، فضلاً عن تعبيره عن الواقع النفسي والشعوري للشخصيات المتحاورة؛ من أنبياء وأتباع كافرين، أو بين شيطان لعين وأتباع خاسرين داخل المشهد العام للسورة، والذي يمنح القارئ فرصة التعرف عن قريب على الدوافع الحقيقية التي تغلف مواقف تلك الشخصيات، وتفسر انفعالاتها الذاتية إزاء التحديات المختلفة على امتداد السورة القرآنية.

 

ومن السمات الفنية التي لونت طبيعة الحوار وعناصر تكوينه في سورة إبراهيم، فهي قدرته على التعبير عن المستويات الفكرية التي طرحها هذا الخطاب لا يجنح إلى النزعة التقريرية، والخطابية المباشرة؛ وإنما مال إلى توظيف الأسلوب التمثيلي المركز؛ بقصد تحقيق المشاركة الوجدانية والإقناع والإثارة.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات