المشروع الأمريكي في حرب أهل السنة (2- 3)

عبد العزيز بن ناصر الجليِّل

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

هذا النوع من الحرب أشد خطراً من الحرب العسكرية بل إن الحرب العسكرية إنما هي أداة لتمكين الفكر الكفري والغربي في أمة الإسلام وتشويه للعقيدة الربانية التي يتبناها أهل السنة المسلمين. والحرب العسكرية تكون في العادة مؤقتة بتحقيق أهدافها، أما الحرب الفكرية فهي...

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

ثانياً: الحرب الفكرية:

وهذا النوع من الحرب أشد خطراً من الحرب العسكرية بل إن الحرب العسكرية إنما هي أداة لتمكين الفكر الكفري والغربي في أمة الإسلام وتشويه للعقيدة الربانية التي يتبناها أهل السنة المسلمين.

والحرب العسكرية تكون في العادة مؤقتة بتحقيق أهدافها، أما الحرب الفكرية فهي مستمرة بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

ويمكن بيان هذا النوع من الحرب في الفقرات التالية:

الفقرة الأولى: سبق ذكر بعض المقولات عن صناع القرار في الحكومة الأمريكية التي يؤكدون فيها على أهمية الحرب الفكرية على أهل السنة من المسلمين لتشويه عقائدهم وإقناعهم بالفكر الغربي أو ما يسمونه بالفكر الإسلامي المعتدل، وأن الحرب العسكرية لا تحقق لهم أهدافهم ما لم يصاحبها حرباً فكرية، وأعيد هنا قول أحد طواغيتهم وزير الدفاع الأمريكي في حكومة "بوش" المهزوم، حيث يقول: "إن الحرب تستهدف تغيير المدارك وإن المحتم الفوز فيها وعدم الاعتماد على القوة العسكرية وحدها(1).

 

وقد نص تقرير لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 م على ذلك التوجيه، حيث جاء فيه: "إن العدو الرئيسي لأمريكا هو تيار إسلامي راديكالي متطرف، تعود مرجعيته إلى أفكار ابن تيمية وسيد قطب، ولا يوجد مجال للتصالح مع هذا التيار، ولابد من عزله وتصفيته تماماً، لكن لابد أولاً من منازلته في ميدان حرب الأفكار، من أجل كسب الغالبية المحايدة التي يمكن أن تتحول إلى متعاطفة معه".

 

وجاء في تقرير "راند" الشهير: "بناء شبكات إسلامية معتدلة" أن الولايات المتحدة اليوم تقود حربًا على الصعيدين الحربي والفكري، فهي تقود معركة بالأفكار، حيث لن تكون الغلبة على الجانب الآخر إلا بتشويه الأيديولوجيات المتطرفة في أعين معتنقيها ومؤيديها.

 

الفقرة الثانية: يوضح الأستاذ/ حسن الرشيدي في دراسة له بعنوان: "حملة للترويج لإسلام جديد" من إصدارات مجلة البيان في إصدارها الثاني من إصدارات "موسوعة التقرير الارتيادي" الفرق بين آلية الغزو الفكري الذي بدأ بعد الاستعمار في القرن الماضي، وبين آلية الحرب الفكرية الجديدة، فيقول: "فحروب الأفكار التي شنتها الغرب عندما استتب له احتلاله لمناطق العالم الإسلامي، منذ أواخر القرن التاسع عشر كانت حملة لفرض أفكاره وتوجيهاته، ولذلك أطلق عليها المفكرون المسلمون في هذه العصور: "الغزو الفكري"، وشرعوا في تسطير الأدبيات في مواجهة الفكر الغربي، وبيان جذوره، وإظهار عواره وضرره على الأمة والإنسانية.

كان ما اصطُلِح على تسميته: الغزو الفكري موجهاً للأمة بعمومها، وهو أخطر من الغزو العسكري؛ لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية، وسلوك المسارب الخفية في بادئ الأمر، فلا تحس به الأمة المغزوة، ولا تستعد لصده، والوقوف في وجهه، حتى تقع فريسة له، وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه، وتكره ما يريد منها أن تكرهه.

 
ولكن بمرور الوقت وتعاقب الأزمات ظهرت الصحوة الإسلامية، وتصدت لهذه المحاولات حتى أصبحت هذه الفئة العلمانية معزولة عن الجماهير، لا تستطيع التوغل في الأمة بأفكارها ومعتقداتها، وخاب ظن الغرب في شأن هذه الطائفة، بتراجع الاهتمام بمنطقة الشرق الاوسط عموماً، ولكن مع تجدد الاستراتيجيات التغريبية بذراعها الأمريكي، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، واصطدام الجيوش الغربية بالمقاومة الإسلامية في مناطق عديدة، بدأ التفكير من جديد في مرحلة أخرى من الغزو الفكري، أصبح يطلق عليها "حرب الأفكار" عبر عنها الكاتب الأمريكي "توماس فريدمان" الذي نشر مجموعة مقالات، حاول فيها شرح وتحليل مفهوم أو مقولة حرب الأفكار، حيث يرى أنها بصورة أساسية ينبغي أن تكون في داخل المجتمعات الإسلامية نفسها، وبإشراك المعتدلين في هذه المعركة، فهو يعتقد أن الأكثر أهمية هو إيجاد سبل لجعل المجتمعات التي يأتي منها هؤلاء الأصوليون، هي التي تردعهم أولاً، فهي -أي هذه المجتمعات- الوحيدة التي تعرف أناسها، وهي الوحيدة أيضاً -حسب تقدير "فريدمان"- القادرة على كبح متطرفيها، ودعا الغرب لتبني أساليب وتكتيكات تساهم في تعزيز مكانة ونشاط هؤلاء المعتدلين(2).

 

فالجديد في هذه الحملة أن الهدف الرئيسي لحرب الافكار الجديدة هو: تشويه معتقدات المسلمين في أعين معتنقيها، وتفريغ الإسلام من مضمونه وأصوله.

 
كما أن الجديد فيها أيضاً من خلال تقرير "راند" وكلام "فريدمان" السابق: أن التركيز والاعتماد في تنفيذ هذه الحرب على ما يسميهم التقرير بالمعتدلين من المنتسبين إلى الإسلام، كدعاة الإسلام الديموقراطي والليبرالي والعصراني، وعلى الصوفية والشيعة الرافضة الذين يجتمعون على الخرافة والبدعة والشرك بالله -عز وجل-.

ويوصي تقرير "راند" بأن تدعم الإدارة الأمريكية هذه التيارات المعتدلة المناوئة للتيار السني السلفي، لكي تتصدى لهذه التيارات السنية الجهادية، وأطروحاتها، والتي يجب محاربتها، وإسقاطها، وتشويهها، والقضاء عليها، وفي هذا الاطار يجب تشجيع الاتجاهات الصوفية والشيعية، ولولا التشيع ما كان التصوف، ويجب دعم ونشر الفتاوى الشاذة لتقف في مقابل النصوص الصحيحة التي ترتكز عليها الوهابية السلفية وتعظمها.

 

الفقرة الثالثة: المعتدلون في نظر أمريكا: ذكر التقرير الصادر من مؤسسة "راند" في ربيع الأول 1428 ماذا يقصد الأمريكيون بالمعتدلين الذين تحرص على دعمهم، وتوظيفهم في تشويه العقيدة الصافية عند المسلمين.

 

وذكر هذا التقرير بعض الملامح الرئيسية التي يمكن من خلالها تحديد الاتجاهات الإسلامية المعتدلة، ومن أهمها:

1- القبول بالديمقراطية: يعتبر قبول قيم الديمقراطية الغربية مؤشراً مهماً على التعرف على المعتدلين، فبعض المسلمين يقبل بالنسخة الغربية للديمقراطية، في حين أن بعضهم الآخر يقبل منها ما يتواءم مع المبادئ الإسلامية، خصوصا ً مبدأ "الشورى"، ويرونه مرادفاً للديمقراطية.

كما أن الإيمان بالديمقراطية يعني في المقابل رفض فكرة الدولة الإسلامية.

2- القبول بالمصادر غير المذهبية في تشريع القوانين: وهنا تشير الدراسة إلى أن أحد الفروق الرئيسية بين الإسلامين المتطرفين والمعتدلين، هو الموقف من مسألة تطبيق الشريعة، وتؤكد الدراسة أن التفسيرات التقليدية للشريعة لا تتناسب مع مبادئ الديمقراطية، ولا تحترم حقوق الإنسان.

3- احترام حقوق النساء والأقليات الدينية "حسب النظرية الأمريكية": وفي هذا الصدد تشير الدراسة إلى أن المعتدلين أكثر قبولاً بالنساء، والأقليات المختلفة دينياً، ويرون بأن الأوضاع التمييزية للنساء والأقليات في القرآن يجب إعادة النظر فيها، نظراً لاختلاف الظروف الراهنة عن تلك التي كانت موجودة إبان عصر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

4- نبذ الإرهاب والعنف غير المشروع "حسب النظرية الأمريكية": وتؤكد الدراسة هنا على أن الإسلامين المعتدلين يؤمنون -كما هو الحال في معظم الأديان- بفكرة "الحرب العادلة"، ولكن يجب تحديد الموقف من استخدام العنف، ومتى يكون مشروعاً أو غير مشروع.

 

إن من يقرأ هذه الملامح والصفات يدرك على الفور: أن تعريف الاعتدال بالمفهوم الأمريكي لا يعبر إلا عن المصالح الأمريكية الهادفة إلى تحويل المسلمين بعيداً عن الإسلام، تحت دعوى الاعتدال العالمي.

 

الفقرة الرابعة: انتهت مراكز الأبحاث الأمريكية إلى أن التيار السلفي -العلمي والجهادي- هو عدوها اللدود الذي شكل مصدر قلق وإزعاج وخوف منذ ظهوره وانتشاره؛ لأنه ينطلق من عقيدة الولاء والبراء، وبغض الكافر وجهاده، ونبذ الشرك بجميع صوره، وبتحديد هذا التيار -من قبل مراكز البحوث الأمريكية، وأنه الأخطر على الغرب الكافر- وضعوا في حربه ثلاث طرق تحدث عنها الأستاذ/ أحمد فهمي -حفظه الله تعالى- فقال: "الطريقة الأولى: استبدال السلفية: يقوم مفـهوم الاستـبدال علـى قـيام جهـات الضـغط الغربية -بطرق غير مباشرة غالباً- بتحفيز وتشجيع تيارات ومناهج أخرى، لكي تقوم كبديل للمنهج السلفي في الدول الإسلامية، وترتكز فكرة الاستبدال على وجود رغبة عامة وعارمة لدى الجماهير في التدين.

 

وانبعاث هذه الفكرة -التبديل بين أنماط التدين- في العقلية الغربية وتناميها لدرجة القناعة، يدل على تطور خطير في نظرتهم وتفسيرهم للسلوك الديني للمسلمين، وقد كانت الفكرة القديمة تنحصر في تجفيف منابع التدين، واستبدال الدين بأفكار علمانية براقة، ولكن مع فشل هذه الفكرة، بدأ الكثيرون ينتقلون إلى مرحلة تالية، وهي: فلندع المسلمين يتدينون كما يريدون، لكن فلنقدم لهم نحن "التوليفة" المناسبة للتدين.

 

وتكمن خطورة السلفيين بالنسبة لخصومهم في: أنهم يقودون الناس في قطار سريع يصلهم مباشرة بين الواقع ومصادر التشريع، أما غيرهم من التيارات فيأخذون الناس في جولة سياحية تطول وتقصر بحسب المنهج، وأحياناً تتحول الرحلة بمجردها إلى هدف منشود.

 

والعناصر الرئيسة المتضمنة لـ "توليفة" التدين الأمريكية:

1- رموز ودعاة مستقلون، يقدمون نمطاً متطرفاً في تسامحه واعتداله، ليبرز النمط السلفي للتدين على أنه متطرف في فهمه وتمسكه بتعاليم الإسلام.

2- غطاء وحاجز سياسي توفره التيارات السياسية التي تنظر للتيارات السلفية على أنها معوق لتقدمها السياسي، كما أنها على استعداد لتقديم تنازلات دينية في سبيل تحقيق مكاسب سياسي.

3- الربط الوثيق بين السلفية العلمية والدعوية، وبين السلفية الجهادية، بحيث يصبح الجميع منهجاً واحداً متعدد المراحل أو المستويات.

4- إفساح المجال في عدد من البلدان الإسلامية لدعاة التصوف، وخاصة الذين طوروا خطابهم في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر، والذي يقفزون فيه على كل ما يثير الغرب في الإسلام، ويقدمون صياغة جديدة قابلة للتسويق في الثقافة الغربية.

 

واستكمالا لما سبق ذكره فإننا سنقدم تفصيلاً أكثر لعنصري: دعاة الاعتدال، والمتصوفة الجد.

 

العنصر الأول: دعاة الاعتدال:

وقد بدأ نجمهم في البزوغ في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد 11 سبتمبر، وأهم صفتين تمثلان جواز المرور لهذه الفئة من الدعاة: أنهم يتجاوزون نقاط الاختلاف الساخنة مع الغرب، ويقفزون على قضايا الولاء والبراء، والقضايا العقدية إجمالاً، كما أنهم لا يرتبطون غالباً بأي انتماءات لجماعات إسلامية عليها علامات استفهام غربية.

 

العنصر الثاني: المتصوفة الجدد:

ونحتاج إلى بعض التفصيل لهذا العنصر نظراً لأهميته وخطورته على الدين الحق، وهناك دلائل كثيرة تشير إلى أن السياسة الأمريكية باتت تنظر إلى الصوفية "المعدلة" على أنها يمكن أن تمثل بديلاً مناسباً للتدين لدى عامة المسلمين، ونذكر فيما يلي بعض هذه الدلائل، ثم نقدم نموذجين للمتصوفة الجدد:

 

- في عام 2003م عقد مركز نيكسون للدراسات في واشنطن مؤتمراً عنوانه "فهم الصوفية والدور الذي ستلعبه في السياسة الأمريكية" وكان من أبرز الحضور الدكتور برنارد لويس، وهو من أبرز الناقمين على الإسلام، والدكتور كوركوت أوزال شقيق الرئيس التركي الأسبق تورجوت أوزال، ومحمد هشام قباني رئيس المجلس الإسلامي الأمريكي.

 

- ووزع في المؤتمر دراسة بيانية توضح الجماعات والمذاهب الإسلامية والمنتمين إليها، وجاء فيها أن مجموعة السلفية هم الذين ينتمون إلى مدرسة ابن تيمية، وأطلقوا عليها: "مجموعة الإسلام السياسي"، ووضعوها داخل دائرة حمراء، واعتبروا من بينها: الوهابية - الجماعات الفلسطينية الإسلامية - الجماعات الإسلامية السلفية - حزب التحرير - جماعة التبليغ.

 

- يعتبر المجلس الإسلامي الأمريكي الصوفي الذي أسسه هشام قباني مصدراً مهماً للمعلومات لدى الإدارة الأمريكية عن الإسلام والمسلمين، وكان بول وولفويتز مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق يعقدان لقاءات دورية مع أعضاء المجلس للتشاور معهم حول قضايا الإرهاب "الإسلامي".

 

وقد استرعى انتباه متخصصين أمريكيين الصراع بين الحركات الإسلامية السلفية، وبين الطرق الصوفية، ولذلك قررت الإدارة دعم الصوفية، ولكن بصورة غير مباشرة، وذكرت المجلة الأمريكية أنه في إحدى الدول العربية في شمال إفريقيا دعا قادتها في هدوء زعماء الصوفية المحليين، وقدموا لهم ملايين الدولارات كمعونة لاستخدامها كحصن ضد الأصولية المتشددة.

 

كما أوصت لجنة في الكونجرس الأمريكي مختصة بالحريات الدينية، بتشجيع الحركات الصوفية في العالم الإسلامي، والحال هكذا؛ فليس غريباً أن تنشر مجلة يو إس نيوز الأمريكية أن واشنطن تسعى لتشجيع ودعم الحركات الصوفية، كإحدى وسائل التصدي للجماعات الإسلامية، ويشمل ذلك تشجيع إعادة بناء الأضرحة وترجمة المخطوطات الصوفية القديمة، ويعتقد استراتيجيون أمريكيون أن أتباع الصوفية ربما كانوا من بين أفضل الأسلحة الدولية ضد الإسلاميين "المتشددين!(3).

 

ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى نموذجين يمثلان التيار الصوفي الجديد: أولهما: الداعية علي الجفري، والثاني: الدكتور محمد هشام قباني المقيم في الولايات المتحدة.

 

فالأول -الجفري- برز بقوة عن طريق مواعظه للنخبة الفنية، والطبقة الغنية في مصر، ثم عبر الفضائيات؛ وذلك بعد 11 سبتمبر، وبدا أن الطريق أمامه مفروش بالورود؛ ففي خلال وقت قصير زار الولايات المتحدة، وطاف في تسع ولايات، وألقى دروساً ومحاضرات بعضها في جامعات أمريكية.

 

والنموذج الثاني "هشام قباني" -من أصل لبناني- الذي أسس ما يسمى المجلس الإسلامي الأعلى، وهو منظمة صوفية في الولايات المتحدة، ويحظى الرجل بدعم كبير من الإدارة الأمريكية، ودُعي إلى البيت الأبيض والخارجية، وألقى محاضرات على مسؤولين في واشنطن، إحداها كانت بعنوان "التطرف الإسلامي وخطورته على الأمن القومي الأمريكي".

 

ويبدي الدكتور هشام قباني عداءً خاصاً للسلفية، ممثلة في الدعوة الوهابية، ويُعتبر أحد مصادر المعلومات والتحريض ضدها في أمريكا، وهو يعرض الصوفية كبديل واضح للوهابية، فيقول مخاطباً من يعنيه الأمر: "علِّموا الطلاب الصوفية، يجب أن يتعلم الطلاب كيف يصبحون محبين للسلام، وكيف يصبحون جزءاً من المجتمع الكبير؛ فالوهابية تحرض الطلاب على أن لا يكونوا جزءاً من المجتمع الكافر، ولكن ينبغي الاندماج والتكامل مع النظام الذي يعيش فيه المرء، أما الدين فمسألة بين المرء وبين الرب، هكذا يقول الإسلام" (نقلاً عن صحيفة صنداي استريت تايمز، موقع إسلام ديلي).

 

الطريق الثاني: احتواء السلفية:

هناك فكرة دقيقة تحتاج إلى تأمل وهي وجود فرق بين السلفية والسلفيين، وهذا يعني أنه عندما نتحدث عن احتواء السلفية كفكر، فهذا يختلف عن احتواء السلفيين، كحاملين لهذا الفكر، واذا كان احتواء الفكر أهم وأخطر من احتواء حامليه من وجهة نظر الخصوم، إلا أنه لن يمكن احتواء الفكر إلا بعد احتواء حامليه، أو على الأقل احتواء عدد ممكن من رموز السلفيين وأتباعهم، وبات من الأمور المعتادة أن نجد جماعات ورموزاً سلفية لهم مذهبان قديم وجديد.

 

والخطة التي تنفذ اليوم لاحتواء السلفيين، ومن ثم السلفية في الوقت الحالي، هي في ممارسة مزيد من الضغوط والحصار عليهم، وأخطر وسائل الضغط -وعلى غير ما يتوقع الكثيرون- هو أن يفتح المجال أكثر للرموز السلفية كي يخرجوا من ميدانهم الرئيسي، ويبرزوا للعلن وللجماهير، من خلال الإعلام، وفي ميادين لا يملكون أدواتها، حيث يواجهون عالماً تغيرت مفاهيمه وثوابته، وأصبحت له قواعده الخاصة، وعندها سيجد السلفيون المطروحون للعلن أنه لا بد من تقديم جوازات المرور، المتمثلة في التخلص من عبء بعض الثوابت، ولا بأس من طمأنة الغيورين، ودغدغة مشاعرهم بأنه لا يوجد تغير أو تراجع، ولكن كل ما في الأمر أنه لا بد من التعامل مع الإعلام بقدر من المداراة والمواربة.

 

وهناك آلية أخرى لاحتواء الفكر السلفي وهي: ضغط الاعتقال، وقديماً كانت السجون تعتبر أحد محفزات الغلو والتكفير كما حدث في مرحلة الستينيات في مصر، ولكن في السنوات الأخيرة أصبحت السجون عاملاً حافزاً للتراجعات والمراجعات كما حدث مع الجماعة الإسلامية في مصر أيضاً.

 

الطريق الثالث: إقصاء السلفية:

في أوقات سابقة في بعض الدول الإسلامية كان تصريح أحدهم: أنا سلفي، يعد بمثابة إذن مرور لممارسة كثير من الأنشطة والتحرك الدعوي بحرية ويسر، ولكن الآن أصبح الوضع مختلفاً، وأصبحت السلفية في قفص الاتهام في بلدان كثيرة، وبات السلفيون تحت المجهر؛ فما الذي تغير؟ إنه ببساطة: الإقصاء.

 

والمنطلَق الأول لتبرير وتسريع إقصاء السلفية، هو: الربط التعسفي بين السلفية العلمية، والسلفية الجهادية(4) إنها إذن استراتيجية متعددة المراحل: استبدال - احتواء - إقصاء. وهذا يعود بنا إلى السؤال المطروح في مقدمة المقال عن كيفية مواجهة التيارات السلفية؛ فالإجابة الصحيحة تتضمن الخيارات الثلاثة، وليس خياراً واحداً.

 

ولا ريب في أن هذا التنوع في مواجهة السلفية يبدو متناسباً أكثر مع كون التيارات والفكر السلفي يتفاوت حجمه، ومستوى انتشاره بين البلدان الإسلامية، ومن ثَم لا بد أن تختلف طرق مواجهته من المنظور الغربي؛ فبعض الدول حققت إنجازات مسبقة، وتجاوزت مرحلة الاستبدال بالفعل، وهي الآن ما بين الاحتواء والإقصاء مثل مصر، وبعض الدول تجاوزت المراحل الثلاث مثل تونس وليبيا، ودول أخرى لا تزال بين الاستبدال والاحتواء. هذا التحليل يفرز لنا نتيجة بالغة الأهمية، وهي أن سياسة الاحتواء تمثل عاملاً مشتركاً حالياً في عدد كبير من الدول الإسلامية(5).

 

ويقول الباحث د/ عبد الوهاب المسيري: "مما له دلالته أن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام يشجع الحركات الصوفية، ومن أكثر الكتب انتشاراً الآن في الغرب مؤلفات محي الدين ابن عربي، وأشعار جلال الدين الرومي، وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية، فالزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يُضعِف -ولا شك- صلابة مقاومة الاستعمار الغربي(6).

 

وينبه الأستاذ/ محمد بن عبد الله المقدي في مقال له طويل بعنوان: "نقض العرى.. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي" على مظاهر تستدعي الانتباه فيقول: "حين دخلت القوات الصليبية الأمريكية والبريطانية إلى البلاد الأفغانية، كان أول ما قاموا به أنهم فتحوا المزارات والأضرحة، وسمحوا للموالد أن تقام وروجوا لها. يقول أحد شيوخ الطرق واسمه "صوفي محمد" -وهو في الستين من عمره- لوكالة "رويترز": "إن حركة طالبان المتعصبة أغلقت المزارات، وأوقفت الاحتفالات، ومنعتنا من حلقات الذكر والإنشاد طوال فترة حكمها، رغم أنها لم تتوقف حتى في وجود الحكم الشيوعي، والاحتلال الروسي! وأنا سعيد جداً بسقوط تلك الحركة المتعصبة، وأمريكا سمحت لنا بممارسة طقوسنا، وإقامة موالدنا، ونحن نشكر لها ذلك وبشدة"  هكذا قال وهكذا فعلت أمريكا: فتحت الأضرحة، وأقامت الموالد لإحياء البدعة، ومحاربة السنة، ولتشويه الإسلام.

 

* وفي صيف "2001م" شنت الحكومة اليمنية هجمة شرسة على جميع المعاهد الدينية بحجة مكافحة الإرهاب، فقامت بإغلاقها عدا "دار المصطفى" ب "تريم" وهي تتبنى النهج الصوفي.

 

* وفي زيارة هامة للرئيس الباكستاني "برفيز مشرف" إلى الهند شملت إجراء محادثات مع رئيس الوزراء الهندي "مانموهان سينج" توجه الرئيس "مشرف" لولاية راجستان -بغرب الهند- لزيارة ضريح إسلامي بارز، ثم توجه إلى العاصمة دلهي.

 

* وفي 16 شوال 1426 حضر مولد البدوي السفير الأمريكي في القاهرة، معلناً عن إعجابه الشديد بعالم التصوف الإسلامي، لافتاً إلى ما تنطوي عليه الصوفية من تسامح، وما تجسده من قيم ومبادئ إسلامية رفيعة، مثل الحق والخير والجمال!

 

* وقام الرئيس الجزائري "عبد العزيز بوتفليقة" بزيارات مكثفة، لعدد من زوايا وأضرحة "الأولياء والصالحين" المنتشرة في مختلف أنحاء الجزائر؛ لزيادة شعبيته لدى عدد كبير من الجزائريين، الذين يتبركون بهؤلاء الأولياء، وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في الثامن من إبريل "2004م".

 

* وفي العراق أيضاً -في مدينة كركوك- أوضح عدد من أهالي المدينة أن مِن المتصوفة في المدينة مَن أخذوا يهادنون الاحتلال والحكومة المعينة، خوفاً من الاعتقال، خاصة شيخ الطريقة الكستزانية ويدعى محمد الكستزاني، والذي أعلن قبل أشهر أن الجهاد في العراق ينبغي أن تنطبق عليه عدة شروط قبل إعلانه منها: صفاء القلب، وتحقيق الصلة بين العبد وربه. وهو ما أثار حفيظة المقاومة العراقية، وأهالي المدينة على حد سواء(7).

 

ولعل ما أراد الكاتب لفت النظر إليه هو أن المشروع الأمريكي في استخدام التيار الصوفي لحرب التيار السلفي يساعده في ذلك كثير من حكام الشعوب المسلمة، تلك الحكومات العلمانية التي تعادي التيار السلفي، وتقرب من التيار الصوفي لما تعلمه من أصالة المذهب السلفي، ومشروعه المنادي بتحكيم شرع الله لاطمئنانها للتيار الصوفي المعادي للمشروع السلفي.

ومما يدل على تمالؤ هذه الحكومات مع المشروع الأمريكي: استجابتها في تغيير مناهج التعليم، وحذف كل ما يشير إلى عذاوة الكفار، كالولاء والبراء، والجهاد في سبيل الله، واستجابتها وتشجيعها لابتعاث الآلاف من الطلاب إلى أمريكا للدراسة، وتغيير الأفكار والتأثر بأنماط السلوك والتربية في المجتمعات الأمريكية.

فما ظننا بحال هؤلاء المبتعثين بعد بقائهم سنوات في بلاد الكفر وما يحملون في عقولهم من الأفكار التي تأثروا بها وأثروا؟

 

وفي نهاية الحديث عن هذه الحرب الفكرية يمكن أن نحدد أهداف الحرب وآلياتها فيما كتبه الأستاذ/ عبد العزيز كامل -حفظه الله- في مقال له بعنوان: "حرب الأفكار بين يأس الأمريكان وبأسهم" أقتطف منه قوله: "وقد حدد تقرير لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر هدفاً جوهرياً من أهداف "حرب الأفكار" عندما نص على أنه لا بد من منازلة التيار غير المعتدل في ميدان حرب الأفكار، من أجل كسب الغالبية المحايدة التي يمكن أن تتحول إلى متعاطفة معه.

 

"كسب الغالبية" إذن؛ هو الهدف والرهان الاستراتيجي، للاستيلاء على القلوب والعقول، والوصول إلى ذلك لا يكون إلا عبر تحركات تكتيكية، يكون "الدولار" فيها هو الوقود المحرك لأفكارهم، والمحرق لأفكار غيرهم، وهذا ما ذهب إليه تقرير مؤسسة "راند" السابق الصادر في "18/4/2005" بعنوان: "قلوب وعقول ودولارات"، والذي نص على أهمية مزاحمة "العدو" على عقول الناس وقلوبهم، عن طريق تسخير الدولار، في تغيير الأفكار، باتجاه العلمنة والأمركة واللبرلة.

 

أي باختصار: "تغيير الإسلام" في فهم واعتقاد متبعيه. لهذا فإن الحرب الأمريكية الراهنة على العالم الإسلامي، ستبقى في جوهرها -وإن سكنت المدافع- حرب أفكار، ولذلك فمن غير المتوقع أن تتوقف بشكل نهائي، أو ترتبط بتغيرات سياسية عندنا أو عندهم، لارتباط تلك الحرب بمعايير رضاهم عنا وعن عقائدنا ومبادئنا وأفكارنا، وهذا الذي لن يحصل، ما دام المسلمون مسلمين، والنصارى نصارى واليهود يهوداً: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120]؛ فالمعركة بيننا وبينهم ستظل دائماً معركة على الثوابت، بين ما عندنا من منهج الحق والهدى، وما عندهم من أفكار الغي والهوى(8).

 

____________________

(1) صحيفة واشنطن بوست 27/3/2006

(2) انظر: إصدار "حملة للترويج لإسلام جديد"، ص(3- 4) من إصدار مجلة البيان الإسلامية.

(3) ومما يؤكد دعم الغرب بقيادة أمريكا للحركات الصوفية وتوظيفها في حرب السنة وأهلها تلكم المؤتمرات التي تعقد بين الفينة والأخرى والتي يتبناها ويدعو إليها التيار الصوفي العالمي، ومن آخرها مؤتمر: "جروزني" في الشيشان المنعقد في 25 - 27 ذو القعدة 1437 تحت عنوان: "من هم أهل السنة والجماعة؟" بمباركة الولايات المتحدة وروسيا، والذي أود التنبيه عليه في هذا المؤتمر ما يلي: إن المؤتمر يأتي في ظرف عصيب ومآسي وآلام تمر بها الأمة في كثير من البلدان، وتعاني فيه من حرب إبادة، ومع ذلك لم يتطرق هذا المؤتمر الخياني في توصياته المضحكة المبكية إلى حال المسلمين في سوريا والعراق، واستنكار ما يفعله الدب الروسي في أهلنا وأطفالنا في حلب وغيرها من المدن السورية، ولا ما يقوم به الروس من تحالف مع العدو الإيراني الرافضي في عدوانهم على أهل السنة في الشام، ولا ما يقوم به التحالف الدولي في العراق من تدمير لمدن أهل السنة وأهلها، وكأن أصحاب المؤتمر في كوكب آخر غير كوكب الأرض. وكأنه يرسل للعالم رسالة مفادها: أن الدين ليس له دخل في السياسة ولا في أحوال الأمة ومآسيها ودمائها.

ورسالة أخرى يريد تقريرها ألا وهي: طمأنة قوى الكفر في الغرب والشرق أن عداء المجتمعين في هذا المؤتمر ليس ضد المشروع الأمريكي ولا الروسي الرافضي وإنما هو لأعدائنا السلفيين المتشددين، وهاتان الرسالتان هما ما يريده الغرب والشرق الكافرين من عزل الدين عن السياسة، وفي قيام الحركات الصوفية في حرب التيارات السنية السلفية بدعم معنوي ومادي من الولايات المتحدة -في سياق مشروعها الأجرامي في حرب السنة وأهلها- هذا يدل على ما ذكر آنفاً من توصيات مراكز الأبحاث الأمريكية في استخدام التيار الصوفي وتراثه كذراع من أذرعة الحرب الفكرية على السنة وأهلها.

(4) ومن سياسات الاقصاء التي تتبعها أمريكا ووكلائها من كثير من حكام الشعوب المسلمة: تغييب الرموز السلفية ولا سيما الصادعين بالحق والمجاهدين، فهم إما في غياهب السجون أو بالاغتيالات الفردية، وكذلك ما تقوم به أمريكا ومن معها من التحالف الدولي من دعم جوي عسكري لرافضة العراق في تدمير مدن أهل السنة وقتل أهلها وتشريدهم.

(5) انظر: مقال "ممنوع دخول السلفية والسلفيين" أحمد فهمي، مجلة البيان عدد: 221 بشيء من الاختصار والتصرف اليسير.

(6) موقع الجزيرة نت.

(7) انظر: المقال وتوثيق المنقولات في مجلة البيان عدد: 223.

(8) انظر: المقال في مجلة البيان العدد: 238.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات