طريق القرآن إلى القلوب في رمضان

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

إن الإيمان بقيمة القرآن العظيم هو الخطوة الأولى على طريق تحقيق التأثير والتغيير، فالإيمان بالقرآن هو الذي يولد الانبهار به، والاستسلام له، وفتح منافذ الاستماع والتلقي منه، والعكس صحيح فعدم الإيمان بالقرآن يدفع لإغلاق منافذ الاستماع له، وعدم...

 

 

 

من الأسئلة الوجودية التي يجب أن يطرحها كل مسلم على نفسه، خاصة ونحن على أعتاب شهر رمضان المبارك بخيراته وبركاته ونفحاته العلوية، تلكم الأسئلة المتعلقة بالقرآن الكريم، ورمضان هو شهر نزول القرآن، وهو أفضل مناسبة لطرح هذا النوع من الأسئلة.

أسئلة فاصلة ومصيرية في حياة المسلم ومسيرته إلى ربه.

أسئلة من عينة:

لماذا لا نستفيد من القرآن الكريم؟

لماذا لا يمس القرآن شغاف قلوبنا؟

لماذا لا يغير القرآن في حياتنا؟

لماذا أثر القرآن ومفعوله لا يدوم طويلاً في القلب والنفس والسلوك والحركة؟

لماذا لا نجد لذة وحلاوة وقشعريرة التلاوة في قلوبنا وجوارحنا؟

 

وعند البحث عن أجوبة لهذه الأسئلة الهامة والمصيرية سوف نصطدم بواقع أليم راكمته سنوات التيه والبعاد والهجران، كما راكمته سنوات من التعامل الخاطئ مع كتاب الله -تعالى- حتى كانت المحصلة النهائية، أعظم معجزات الرسل بين أيدينا ولا ننتفع بها، ولا تؤثر في حياتنا، ولا تصل أنوارها إلى قلوبنا ونفوسنا.

 

فقد استقر في الأذهان، وفي العقل الباطن، صورة مبتورة عن القرآن، وتكوَّن حاجز نفسي سميك بين القلب وبين الآيات المسموعة والمقروءة، وكأنها بلغة أخرى غير اللغة التي ننطقها، حتى ارتضى العقل ألا يبذل أي محاولة لفهم المراد منها، هذا الحاجز يبدأ في التكون داخل المسلم منذ نعومة أظافره.

 

مفاهيم خاطئة:

 

لقد توارثت الأمة جيلا بعد جيل هذا التعامل الخاطئ مع القرآن، ورسخ في الأذهان مفاهيم خاطئة حول الطريقة المثلى لخدمته، من أبرز هذه المفاهيم الخاطئة:

 

1- الخلط بين الوسائل والأهداف:

 

فقد أصبح غاية المطلوب من القرآن هو إتقان تلاوته، وحفظ حروفه، وكثرة قراءته لتحصيل الأجر والبركة دون ربط هذا كله بمعانيه، مع أن النصوص القرآنية واضحة الدلالة بأن الهدف من قراءة القرآن: فهمة وتدبره، والفقه فيه والعمل به، وما التلاوة والسماع والحفظ إلا وسائل للانتفاع بكنوزه، كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا"، وقال ابن القيم -رحمه الله- : "أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب. وأما من حفظه ولم يفهمه، ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم".

 

ومع قوة ووضوح وكثرة النصوص الدالة على ذلك إلا أنها لم تقع مواقعها الصحيحة في النفوس، وغالبية المسلمين لم يعودوا يدركون قيمة القرآن الحقيقية، ومقصد نزوله: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15 - 16].

 

2- الكم والكيف:

 

إنه أمر غاية في الصعوبة أن يكون دواء أحدنا في يديه، ثم يُعرض عنه، ليترك المرض يفتك بجسده ويهلكه، الكثير منا يشكو مرض قلبه وضعف إيمانه، فإن دللته على القرآن، لا تجد لكلماتك أي وقع إيجابي في نفسه، وكيف لا والصورة الذهنية التي تقفز للأذهان عند الحديث عن القرآن صورة ناقصة مشوهة لا تُعطي لهذا الكتاب إلا قدسية شكلية فقط، ولا تربط بينه وبين وظائفه الحقيقية في التغيير والشفاء.

 

فمعظم الناس يتعامل مع القرآن بمنطق مغلوط هو منطق: الكم لا الكيف، فيهتم بكثرة القراءة على حساب الآثار المترتبة على هذه القراءة، من باب تكثير الحسنات، حتى ولو كانت حسنات مثل الدقل، في حين يفرط في جواهر ولآلئ نفسية لو اهتم بالكيف كما يهتم بالكم.

 

واسمع لهذا الأثر العظيم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فكأنه يصف حالنا ويكشف سبب دائنا، فقال: "لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتي الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد -صلى الله عليه وسلم- فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلمون أنتم القرآن اليوم، ولقد رأيت اليوم رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ما يدري ما آمره، ولا زاجره، وما ينبغي أن يوقف عنده، وكل حرف ينادي: أنا رسول الله إليك لتعمل بي، وتتعظ بمواعظي". وفي رواية: "فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ولا يدري ما آمره، وما زاجره، وما ينبغي أن يوقف عنده ينثر نثر الدقل " (رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين).

 

والإيمان الذي أشار إليه ابن عمر -رضي الله عنه-: "وإن أحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن"  هو الإيمان بأن القرآن إنما أُنزل لتدبر آياته والعمل بما فيه.

 

وذلك الإيمان هو الذي دفع الصحابة -رضوان الله عليهم- لتحقيق النصيحة لكتاب الله على ذلك الوجه، فكانوا فور نزول السورة أو الآية يبادرون لتعلمها والعمل بها، كما قال ابن عمر في حديثه السابق: وتنزل السورة على محمد -صلى الله عليه وسلم- فنتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن نقف عنده منها.

 

3- غياب الجانب التطبيقي:

 

وهو مستنبط من أثر ابن عمر أيضا؛ فقد أفاد أن سبب التقصير في العمل بكتاب الله يرجع إلى عدم تمكن ذلك الإيمان من القلوب، وعندما يتخلف الإيمان عن القلوب فإن القوة الحقيقية الدافعة للعمل والتطبيق لهذا القرآن تغيب: "ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره" في حين أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا أحرص الناس على هذا الجانب التطبيقي، حين أوتوا الإيمان بقيمة القرآن.

 

فالصحابة مقارنة بالقرون التي تليهم هم أقل القرون حفظاً للقرآن، ولكنهم أكثر القرون تطبيقاً له وتنفيذاً لأحكامه، وتسليماً لمحكمه، وإيماناً بمتشابه.

 

فلم يكونوا يقرؤونه بقصد الثقافة والاطلاع، ولا بقصد التذوق والمتاع، لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة فحسب، أو يقرؤونه للاسترزاق والتأكل به على موائد الأمراء والحكام، وإنما كان يتلقى القرآن ليعرف أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته، يتلقى الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان الأمر اليومي ليعمل به فور تلقيه.

 

محاور تأثير القرآن:

 

إن الإيمان بقيمة القرآن العظيم هو الخطوة الأولى على طريق تحقيق التأثير والتغيير، فالإيمان بالقرآن هو الذي يولد الانبهار به، والاستسلام له، وفتح منافذ الاستماع والتلقي منه، والعكس صحيح فعدم الإيمان بالقرآن يدفع لإغلاق منافذ الاستماع له، وعدم الاكتراث به، بمثل هذا تحدث عيسى -عليه السلام- لبني إسرائيل: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِين) [آل عمران: 49].

 

والمغزى واضح في ختام الآية: فإن لم تكونوا مؤمنين بي كرسول فلن تستقبلوا هذا الآيات استقبالا صحيحًا.

 

ونفس الأمر بالنسبة للقرآن فإن لم يزدد الإيمان بقيمة القرآن، وبالهدف من نزوله، وبأنه قادر - بإذن الله- على تحقيق التغيير في حياتنا.

 

وإن لم يحدث هذا فإن أي كلام يقال عن تدبر القرآن، والتمهل في حفظه، وضرورة التخلق بأخلاقه لن يجد الاستجابة الكافية في نفوس مستمعيه.

 

فنقطة البداية الصحيحة للانتفاع بالقرآن هي العمل على زيادة الإيمان به في القلوب، كما يقول الإمام البخاري: "لا يجد طعمه إلا من آمن به"، فكلما ازداد الإيمان: ازداد التلهف للإقبال عليه، والاستسلام له، والانجذاب نحوه، والانشغال به.

 

وحتى نصل إلى درجة تأثير القرآن في القلوب وتغييره للنفوس، فيجب علينا العمل على ثلاثة محاور للوصول إلى تحقيق الوصال بين القرآن والقلوب؛ كالآتي:

 

المحور الأول: تقوية الرغبة بإثارة الأشواق:

 

الرغبة في أي أمر من أمور الدنيا والآخرة تعتمد في المقام الأول على إثارة الشوق إلى هذا الأمر، فبإثارة الشوق تتقد الرغبة ويقوى الدافع.

 

فالرغبة في الشيء تولد الشعور بالاحتياج إليه، ومن ثمَّ الانتفاع به، والقرآن هو أعظم مرغوب، وأرجى مطلوب، وأعز مهدوف، والخطوة الأولى في طريق العودة إلى القرآن، هي زيادة الثقة فيه، والتعرف على قيمته الحقيقية، وكيف أنه قادر -بإذن الله- على إحياء قلوبنا وتغيير ما بأنفسنا.

 

والتعرف كذلك على العقبات التي تواجهنا في طريق العودة إليه وكيفية اجتيازها، مع تصحيح المفاهيم الخاطئة التي رسخت في الأذهان عن كيفية التعامل معه.

 

وكلما ازدادت الثقة في القرآن قويت الرغبة، واشتدت الحاجة، وتولد الدافع القوي للإقبال الصحيح عليه.

 

ويقول السعدي في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ) [يوسف: 7]: "آيات لكل من سأل عنها بلسان الحال أو بلسان المقال، فإن السائلين هم الذين ينتفعون بالآيات والعبر، وأما المعرضون فلا ينتفعون بالآيات".

 

وإن من الشروط الأولية الأساسية للاستفادة من القرآن الكريم والانتفاع به، هو: وجود الرغبة إليه، وطلب الاستفادة منه، فمن لم تتحقق عنده الرغبة والطلب ماذا يكون تأثير القرآن فيه؟ فإن من سنة الله تعالى ونواميسه أنه لا يعطي إلا بالرغبة والسؤال، وللرغبة والسؤال عنده قيمة كبيرة، فالقلق على الوضع الراهن، وعدم الاقتناع به، والجهد للإصلاح والتغيير، والبحث عن الطريق هو أول خطوة عنده في سبيل السعادة.

 

لذلك فإن الخطوة الأولى والأساسية في طريق العودة إلى القرآن هي: ترسيخ وتعميق الشعور بالرغبة الأكيدة، والاحتياج الحقيقي إليه.

 

وهذا يستلزم منا القراءة في بعض الكتب التي تناولت هذا الموضوع والإكثار منها في البداية؛ لتقوم بتغذية وتقوية مشاعر الرغبة وتأججها لينتج عنها دافع قوي ومستمر للإقبال الصحيح على القرآن.

 

والكتب التي تحدثت عن القرآن كثيرة نرشح منها تلك التي أبرزت قيمة القرآن، وكيفية التعامل الصحيح معه، فمن هذه الكتب:

 

- "أخلاق حملة القرآن" لأبي بكر الآجري.

- "تدبر القرآن" لسلمان بن عمر السنيدي.

- "مختصر قيام الليل" لمحمد بن نصر المروزي.

- "النبأ العظيم" لمحمد عبد الله دراز.

- "التذكار في أفضل الأذكار" للإمام القرطبي.

- "منهج السلف في العناية بالقرآن الكريم" لبدر بن ناصر البدر.

- "صحابة رسول الله وجهودهم في تعليم القرآن الكريم" لأنس أحمد كرزون.

- "جيل قرآني فريد" من كتاب معالم في الطريق لسيد قطب.

- ما كتبه ابن القيم عن القرآن في كتب: "زاد المعاد"، "الفوائد"، "مدارج السالكين" "مفتاح دار السعادة".

- "فضائل القرآن" للفريابي.

- "فضائل القرآن" لأبي عبيد الهروي.

 

فقراءة بعض من هذه الكتب تقوى الرغبة، وتشتد الحاجة إلى القرآن، مع استحضار السنة الربانية: "الإمداد على قدر الاستعداد"، وأن الاستعداد للتلقي يزيد وينقص تبعًا للشعور بالاحتياج، فمن اشتد شعوره بالاحتياج إلى القرآن وقويت في ذلك رغبته ازداد استعداده لذلك التلقي، ومن ثمَّ الإقبال الدائم عليه، فيتحقق تبعًا لذلك الوصال بين القلب والقرآن.

 

المحور الثاني: الإلحاح على الله -عز وجل-:

 

لا بد من استحضار قاعدة شرعية أساسية عند الحديث عن الانتفاع بالقرآن، وهي أنه حتى يتحقق الانتفاع لابد أن يصدر الأمر الإلهي من الله -عز وجل- بحدوث ذلك، وأن نوقن بأن الذي سيفتح لنا قلوبنا ليحدث الوصال بينها وبين القرآن هو الله وحده لا شريك له: (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) [سبأ: 50]، وقال سبحانه: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) [التوبة: 118] فالهداية والتوبة أي التغير الكلي من الله -عز وجل- وحده، وحتى لا تفهم القاعدة بصورة خاطئة ويقع التواكل والتكاسل والاحتجاج بالقدر، فقد ربط سبحانه بين إمداده وعطائه للعبد، وبين مدى حرص هذا العبد واستعداده لتلقي هذا العطاء: (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) [الجن: 14]، وفي الحديث القدسي يقول تعالى: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم".

 

فالجملة الأولى: "كلكم ضال إلا من هديته" تحصر وتقصر الهداية على الله -عز وجل-، والجملة الثانية: "فاستهدوني أهدكم" تبين دور العبد في استجلاب تلك الهداية، فإن كانت الهداية من الله، إلا أن البداية من العبد يطلبها بلسان حاله أو مقاله، قال ابن رجب الحنبلي: "عون الله للعبد على قدر قوة عزيمته وضعفها، فمن صمم على إرادة الخير أعانه الله وثبته".

 

واعلم أن العزيمة على الرشد مبدأ الخير، فإن الإنسان قد يعلم الرشد وليس له عليه عزم.

 

فالخير كله منوط بالعزيمة الصادقة على الرشد، وهي الحملة الأولى التي تهزم جيوش الباطل، وتوجب الغلبة لجنود الحق، قال أبو حازم: "إذا عزم العبد على ترك الآثام، أتته الفتوح"، فمن أراد أن يصل القرآن إلى قلبه فعليه أن يستصحب عزيمة صادقة في ذلك، ثم يترجم هذه الرغبة والعزيمة في صورة دعاء وطلب من الله -عز وجل- بأن يبلغك مرادك.

 

فالإلحاح على الله -تعالى- هو ترجمة الرغبة ودليل الشوق إلى القرآن، فعلينا أن ندعوه سبحانه دعاء المضطر الذي يخرج دعاؤه من أعماق قلبه، دعاء من تتقاذفه الأمواج في البحر، فأخذ يصارع الغرق، وليس لديه شيء يتعلق به إلا أمله في الله بأن يستجيب تضرعه، وينقذه من الموت.

 

ومفتاح الإجابة هو التضرع والحرقة واستشعار الاحتياج الماس لله -عز وجل-، قال ابن رجب: "وعلى قدر الحرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء".

 

وعلى طالب العلا ألا يكتفي بالدعاء والاستغاثة مرة أو مرتين، بل لا بد من الإلحاح والإلحاح على الله بدعاء المضطر مرات ومرات كل يوم حتى ينفتح الباب.

 

فالله -عز وجل- يسمع دعاء الداعين أجمعين من أول مرة، ولكنه يريد أن يرى الصدق في الطلب، ويرى الجدية في الطلب، لذلك فهو قد يؤخر الإجابة اختبارًا لنا، فإن تركنا الباب، وأوقفنا التضرع والدعاء كان ذلك علامة وبيَّنة على عدم صدقنا في أننا بحاجة ماسة لإجابة ما نطلبه من الله، وأن الأمر لا يعدو أن يكون رد فعل لحالٍ طارئة عشنا معها، وتأثرنا بها تأثرًا لحظيًا، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يُستجب لي" (متفق عليه).

 

المحور الثالث: الإكثار:

 

فطلب العلا لا ينبغي أن يكون من المقلين المقترين في سعيه وطلبه وعزمه وجهده وشوقه.

 

والإكثار المقصود هنا هو الإكثار من متعلقات القرآن من تلاوة وترتيل وتدبر وتمعن وتفكر وتحزن وتمهل.

 

فبين القرآن وبين القلوب المؤمنة صلة قوية، يفتح أمامها خزائن أسراره.

 

فعلى الباحث عن الوصال أن يتلو الآيات مرارا، مستحضرًا قلبه، محاولاً الوصول إلى معناها قبل قراءة التفسير، ثم يقرؤه بعد ذلك، فسيعرف بذلك كيف يتفهم كتاب الله من غير واسطة.

 

فالإكثار من تلاوة القرآن، وإطالة فترة المكث معه، وعدم قطع القراءة بشواغل وملهيات الدنيا، يبقي المؤمن في جو القرآن، وسلطان الاستعاذة، خاصة في البداية، ويُفضل أن يكون اللقاء بالقرآن في مكان هادئ -قدر المستطاع- وبعيدًا عن الضوضاء ليساعد المرء على التركيز وعدم شرود الذهن، ولا ننسى الوضوء والسواك قبل القراءة فهي أيضًا من المعينات.

 

وإن كان البعض يفضل أن يقرأ من حفظه دون فتح المصحف، فإن القراءة من المصحف وبصوت مسموع وبترتيل من الأمور التي تحقق التأثير في القلوب، فالترتيل له وظيفة كبيرة في الطَّرْق على المشاعر ومن ثمَّ استثارتها وتجاوبها مع الفهم الذي سيولده التدبر، لينشأ بذلك الإيمان حينما يتعانق الفهم مع التأثر.

 

كما علينا بالقراءة الهادئة الحزينة بأن نُعطي الحروف والغُنَّات والمدود حقها حتى يتيسر لنا معايشة الآيات وتدبرها والتأثر بها، وعلينا كذلك أن نقرأ القرآن بصوت حزين لاستجلاب التأثر.

 

ما يستحب تكرار وترديد الآية أو الآيات التي حدث معها تجاوب وتأثر قلبي حتى يتسنى للقلب الاستزادة من النور الذي يدخل، والإيمان الذي ينشأ في هذه اللحظات، ويستمر ترديد وتكرار تلك الآية أو الآيات حتى يتوقف التأثر والانفعال، فكما قيل: الآية مثل التمرة كلما مضغتها، استخرجت حلاوتها.

 

بالجملة إذا أحسنَّا الإقبال على القرآن، وأكثرنا من تلاوته بالليل والنهار، فسنجد بعون الله لذة المناجاة، وسنأنس بكلام الله أكثر من أُنسنا بأي شيء آخر، وستأتينا الفتوحات من حيث لا نحتسب.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات