حاجة البشرية للرسل

ربيع أحمد

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ومن الأدلة على حاجة البشر للرسل أن عقول الناس قد تدرك حسن معظم أفعالهم الحسنة وقبح معظم أفعالهم القبيحة لما تترتب عليها الأفعال من المصالح والمفاسد، وبناء على ما في الأفعال من صفات، ولكن لا يلزم من كون الفعل حسناً عند الناس أن يأمر الشرع به، وأن يكون محبوباً عند الله، ولا يلزم من كون الفعل قبيحاً أن ينهي الشرع عنه، وأن يكون ..

 

 

 

من نعم الله علينا أن أرسل لنا رسلاً يدعون إليه ويعرفون الناس به، ويعرفون الناس كيفية عبادته، وما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال والاعتقادات والسلوك ليمتثلوها، ويعرفون ما يبغضه الله ويكره من الأقوال والأفعال والاعتقادات والسلوك ليجتنبوها؛ لذلك الرسل بمثابة الصلة بين البشر وبين ربهم، وصدق الله القائل في القرآن: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [1] والبشر في حاجة ماسة وملحة للرسل.

 

ومن الأدلة على حاجة البشر للرسل، هو حاجة الإنسان إلى قوانين وأخلاق تنظم حياته، وتضبط سلوكه، ليتميز بذلك عن سائر المخلوقات.

 

وأيضاً من الأدلة على حاجة البشر للرسل كون الفطر مجبولة على عبادة الخالق - جل وعلا -، والتدين فطرة متأصلة في النفوس البشرية، والإنسان لا يستغنى عن الدين، بل لا حياة لمن لا دين له، والنفوس عقولها غير كافية لإدراك حقائق الدين لذا كان الاسترشاد بالرسل واجباً، إذ معرفة الطريق الموصل إلى رضا الله - جل وعلا - ومعرفة ما يحبه الله وما يسخطه ومعرفة النهج المحقق للغاية من خلق الإنسان لا تستطيع أن تقوم به الفطرة أو يقوم به العقل، بل لابد من رسل يبلغون الناس ما يرضى ربهم، ويحذرونهم مما يسخط - سبحانه - جل وعلا -، وإذا كان العقل البشري أضعف من أن يدرك مراد بشر مثله قبل أن يخبره بمراده، فكيف بمعرفة مراد الله خالقه وخالق كل شيء؟!

 

ومن الأدلة على حاجة البشر للرسل أن عقول الناس قد تدرك حسن معظم أفعالهم الحسنة وقبح معظم أفعالهم القبيحة لما تترتب عليها الأفعال من المصالح والمفاسد، وبناء على ما في الأفعال من صفات، ولكن لا يلزم من كون الفعل حسناً عند الناس أن يأمر الشرع به، وأن يكون محبوباً عند الله، ولا يلزم من كون الفعل قبيحاً أن ينهي الشرع عنه، وأن يكون مكروهاً عند الله فالعقول مهما كانت قاصرة عن معرفة كون الفعل الحسن عقلاً حسناً عند الله أو الفعل القبيح عقلا قبيح عند الله، فقد يكون الفعل الحسن عندهم قبيحا عند الله، والفعل القبيح عندهم حسن عند الله فالناس قد ترى بهواها النافع ضاراً والضار نافعاً متأثرين بشهواتهم وتطلعهم للنفع العاجل اليسير دون التفات إلى الضرر الآجل الجسيم، والعقول متفاوتة فقد يكون الحسن عند أحدهم قبيح عند الآخر؛ ولذلك الشرع لا يدرك بدون رسل فالرسل هم الذين يعرفون الناس ما يجوز التعبد به لله، وما لا يجوز.

 

وأيضاً من الأدلة على حاجة البشر للرسل أن القوانين البشرية عرضة لأن تـخـترق فلا سبيل لتهذيب البشر بالعلوم المادية الكسبية وحدها بل لابد من الإيمان بالغيب ليكون باعث على اتباع الحق وترك الظلم وإقامة العدل ففرق بين قانون بشري يمكن أن يخترقه الشخص سراً وبين قانون سماوي، وشرع إلهي يعرف الإنسان أن هناك خالق بصير به سميع له رقيب عليه يراه في السر والعلن، وهناك آخرة وجنة ونار فيعمل الإنسان الصالحات كي يدخل الجنة ويجتنب المعاصي كي لا يدخل النار وبهذا تهذب النفس، ويصلح المجتمع، والمشهور أن أرقى البشر عقلاً ورأياً في شئون العالم رجال السياسة الدولية في الغرب وإنك لتجد غاية سياستهم أن يسخروا ثروة شعوبهم ونتائج علومها وفنونها لعداوة بعضهم لبعض وإعدادها للتقتيل والتدمير [2] فهل مصلحة البشرية بعقول البشر أم صلاح البشرية باتباع تعاليم خالق السماء والأرض فهو الذي يعلم ما يصلحها وما يفسدها، وصدق الله القائل في القرآن: ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [3].

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة، فالإنسان مضطر إلى الشرع لأنه بين حركتين: حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره، والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، فهو نور الله في أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمنا.

 

وليس المراد بالشرع التمييز بين النافع والضار بالحس، فإن ذلك يحصل للحيوانات، فإن الحمار والجمل يفرق ويميز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده، والأفعال التي تنفعه في معاشه ومعاده كنفع الإيمان والتوحيد والعدل والبر والإحسان والأمانة والعفة والشجاعة والعلم والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجيران، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والاستعانة به، والرضا بمواقع أقداره، والتسليم لحكمه، وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وغير ذلك مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته.

 

ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل المنافع والمضار في المعاش، فمن أعظم نعم الله على عباده، وأشرف مننه عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبين لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام وأشر حالا منها، فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأسوا حالا من الكلب والخنزير، وأحقر من كل حقير، ولا بقاء لأهل الأرض إلا بآثار الرسالة الموجودة فيهم، فإذا درست آثار الرسل من الأرض، وانمحت معالم هداهم أخرب الله العالم العلوي والسفلي وأقام القيامة.

 

وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل عليهم الصلاة والسلام وسائط بين الله - تعالى -وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده، وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين فبعثه الله رحمة للعالمين، وحجة للسالكين، وحجة على الخلائق أجمعين، وافترض على العباد طاعته ومحبته وتوقيره وتعزيره والقيام بأداء حقوقه، وأخذ العهود والمواثيق بالإيمان به واتباعه على جميع الأنبياء والمرسلين، وأمرهم أن يأخذوها على من اتبعهم من المؤمنين، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فختم به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتآلفت بها القلوب بعد شتاتها، فأقام به الملة العوجاء، وأوضح به المحجة البيضاء، وشرح له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، أرسله - صلى الله عليه وسلم - حين فترة من الرسل، ودروس من الكتب، حين حرف الكلم، وبدلت الشرائع، واستند كل قوم إلى ظلم آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، فهدى الله به الخلائق وأوضح به الطرائق، وأخرج الناس به من الظلمات إلى النور، وميز به بين أهل الفلاح وأهل الفجور، فمن اهتدى بهديه اهتدى، ومن مال عن سبيله فقد ضل واعتدى، فصلى الله وسلم عليه وعلى سائر الرسل والأنبياء" [4].

 

-----

[1] - النحل الآية 36

[2] - الوحي المحمدي لمحمد رشيد رضا ص 45

[3] - الملك الآية 14

[4] - مجموع الفتاوى لابن تيمية 19 / 99 - 102

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات