دعوى الجاهلية أو الكلمة المنتنة

عبد الحميد بن باديس

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

دعوى الجاهلية -يا بني عمي، أو يا قومي، أو يا أهل بلدي، أو يا أهل وطني- انتقموا لي، فإذا دعا بها وقعت التفرقة بين عشيرة وعشيرة أو بين قوم وقوم أو بين بلد وبلد، أو بين وطن ووطن، وأثارت الحمية في كل واحدة من الناحيتين على الأخرى، ودفعت إلى الإسراف .. أما دعوى الإسلام فهي: يا عباد الله، أو يا مسلمون إني ..

 

 

 

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال الأنصاري يا للأنصار، وقال المهاجري يا للمهاجرين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "ما بال دعوى الجاهلية!" قالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال: "دعوها فإنها منتنة". رواه الشيخان.

 

الألفاظ: كسعه: ضرب دبره بيده أو صدر قدمه. رجل.. رجلا: كان الرجلان من الموالي. يا للأنصار، يا للمهاجرين: استغاثة من كل بقومه ومواليه لينصروه على الآخر. دعوى الجاهلية: الدعاء الذي كان يدعو به الجاهلية بنعرة العصيبة لإثارة الحمية يدعو الرجل قومه؛ لينصروه ولو على الباطل. دعوها: اتركوها. منتنة: مكروهة في العقل والدين ككراهة الشيء المنتن في الشم ومفرقة للجمع كما يفرق النتن المجتمعَين.

 

المعنى:

 

كان الرجل في الجاهلية -إذا نزل له أمر- استنصر بقبيلته وتعضد بهم ودعاهم إلى معونته ونصرته، بما بينه وبينهم من عصبية قبلية فتثور حميتهم فيندفعون إلى مؤازرته فيؤيدونه ظالما أو مظلوما، فإذا كان ظالما زادوا في ظلمه، وإذا كان مظلوما لم ينتهوا عند حد في الانتقام له من ظالمه، فلما جاء الإسلام أبطل الانتصار بالعصبية والتعضد على الانتقام بالقبيلة. وجعل الحكم بالقضاء الشرعي والتوصل إليه بالبينات والحكام؛ فلو أن ذلك المكسوع كان ممن تأدب بالإسلام وتغلغلت روح الإسلام في قلبه لكان دعا بدعوى الإسلام فقال يامسلمون قد ضربني هذا، وأقام عليه البينة وساقه إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ليقتص له منه، ولما لم يكن كذلك وكانت الروح الجاهلية لا تزال منها عقابيل(1) في صدره دعا بدعوى الجاهلية، وكان صاحبه مثله فقابله بمثلها، فلما سمع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك منهما سأل عن السبب الذي أثار تلك الدعوى فلما عرفوه بسببها نهى عنها وحذر منها، فأبرزها في أقوى صورة تنفر منها إبرازا للمعقول في صورة المحسوس؛ لأنه أبلغ في التأثير على السامع فوصفها بأنها منتنة.

 

الدعويان وأثرهما:

دعوى الجاهلية -يا بني عمي، أو يا قومي، أو يا أهل بلدي، أو يا أهل وطني- انتقموا لي، فإذا دعا بها وقعت التفرقة بين عشيرة وعشيرة أو بين قوم وقوم أو بين بلد وبلد، أو بين وطن ووطن، وأثارت الحمية في كل واحدة من الناحيتين على الأخرى، ودفعت إلى الإسراف والتعدي فأوسعت الظلم والشر، وأبقت الإحن والأحقاد والترات مما يسترسل معه الظلم والفساد في المستقبل.

 

أما دعوى الإسلام فهي: يا عباد الله، أو يا مسلمون إني ظلمت فأنقذوني أشهدوا لي.

 

فإذا دعا بها كانت جامعة لا تفريق فيها وأهابت بالسامعين كلهم كذات واحدة كلهم ينصرون الحق فيكفوا الظلم إن كان واقعا على المظلوم في الحال ويشهدون بالظلم عند الحاكم ليجري العدل مجراه؛ فأين تلك الآثار من هذه الآثار؟

 

ولقد ظهرت آثار الأولى في الأمة العربية في جاهليتها، وظهرت آثار الثانية فيها بعد إسلامها، فأرى الله العباد -عيانا جهرة- اختلاف الأثرين في أمة واحدة في زمن قريب وأقام عليهم حجته، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

تفرقة وتمييز:

كل من سعى إلى تحصيل شيء مستعينا بذوي عصبية له لنسبة جنس أو قبيلة أو بلد أو شيخ أو حرفة أو فكرة غير ناظر إلى أمة على حق أو على باطل فقد دعا دعوى الجاهلية، وكل من أجابه فقد شاركه في دعواه.

 

أما من عرف الحق وتيقن من نفسه الصدق في طلبه، واستعان على تحصيله بمن تربطهم به روابط خاصة، ولا يأبى أن يعينه عليه من لم يكن من جماعته؛ لأن قصده إلى تحصيل الحق بإعانة أي كان فهذا لا يكون دعا دعوى الجاهلية، بل دعا دعوى إسلامية؛ لأنها لم تخرج عن التعاون على الحق وهو من التعاون على البر والتقوى.

 

استدلال:

ثبت في صحيح مسلم في غزوة حنين أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "أيْ عباس نادِ أصحاب السمرة" فنادى بأعلى صوته: أين أصحاب السمرة؟ وكانت الدعوة: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار ثم قصرت على بني الحارث بن الخزرج فصارت: يا بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث بن الخزرج.

 

فكانت الدعوة -في ذلك اليوم الشديد- لمن جمعتهم بيعة الرضوان وهم أهل السمرة ثم لمن جمعهم اسم الأنصار ثم لمن جمعهم اسم أب. وكان ذلك كله حقا؛ لأنه دعوة إلى الحق.

 

تحذير وإرشاد:

ليحذر المسلم من كل كلمة مفرقة من كل ما يثير عصبية للباطل وحمية جاهلية يدعو بها ولا يجيب من دعا إليها؛ فإن بلاء كثيرا حل بنا وفتنة كثيرة أصابتنا من تلك الكلمات المفرقة.

 

ولتكن دعوته -إذا دعا- بالكلمات الجامعة التي تشعر بالأخوة العامة، وتبعث على القيام بالواجب بأيد متشابكة، وقلوب متحدة حتى إذا دعا جماعة خاصة يعلم منه نفعا خاصا في مكان خاص فليكن بما يفهمهم أنه إلى الحق دعاهم وعلى القيام به استعان بهم دون إباية من انضمام كل من ينضم إليهم، فإنه ما توجه قوم إلى نصرة الله ورضا الله قصدهم إلا كان الله معهم: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).

 

مجلة الشهاب: ج 2، م 13 - 1356ه - 13 أبريل 1937م.

 

___

(1) العقابيل: الشدائد وبقايا العلة أو العداوة مفردة (عقبول).

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات