معايير الإيمان

عبدالله السحيم

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ومن المتقرر عند العقلاء كافة؛ أن اليقين لا يزول بالشك، فما لنا نرى يقينيات البعض ومسلماتهم ومبادئهم وقيمهم تزول بالشكوك؟ بل بما هو أقل منها وأدنى؛ بأوهام رخيصة، تقذف في قلوب الكثير فتكون (كالسفنجة)، خصبة لكل وارد، وتتشرب كل ما يلامسها، زلالاً أو عفناً! فلا تكن عقيدتك ودينك مرتعاً لكل عابث، يقلقك ويحرك يقينك .. بل كن على ثقة تامة، ويقين راسخ كالجبال، لا تحركه الرياح مهما قويت وعتت..

 

 

 

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه، وبعد؛

 

في ظل تقلبات مدهشة يشهدها عالمنا على كل الأصعدة، ما بين صراعات سياسية، وعراكات فكرية، ونظرات وتحليلات، ومشاهدات وتأملات، وحلول وأطروحات، وأخطاء وتخبطات، يدهش الإنسان من هذا كله؛ ويحرص على متابعة كل حدث يحصل، وقراءة كل فكرة تطرح، يتجدد كل شيء في أوقات قياسية قليلة جداً .. ترهق المرء وتتعبه ولما يلحق بها ويلم .. فيغفل المرء عن قضية القضايا وأهمها بالنسبة له .. حيث ينشغل بمتابعة هذا كله وينسى أهم قطعة يملكها؛ أولا وهي موطن نظر الرب تبارك وتعالى .. فيتناقص اهتمامه بقلبه فتجد الانحرافات الدخيلة إلى قلبه متسللاً خفياً .. حتى تتمكن منه وهو لا يشعر .. وهذا سبب خفي من أسباب تحولات بعض المتابعين ممن نراهم يتحولون عن أيماننا وعن شمائلنا ..

 

تأمل معي أيها الكريم: اشتراط الطمأنينة في الإيمان في قول الله -جل ذكره-: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)، فإنه لا يصح إيمان أحد حتى يكون نقياً خالصاً من كل دغل، ولذا عد العلماء من شروط الشهادتين (اليقين) علاوة على مجرد (العلم) احترازاً من كفر الشك الذي دهم الناس في أزماننا هذه، ويسمونه بغير اسمه كالحقيقة النسبية وغيرها من النظريات التي تزرع الشك في قلوب الناس .. وهذا يبين لك المراتب العظيمة المذكورة في قول الله تعالى وتقدس: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).. فتأمل أيها الموفق: لا يتم إيمان عبدٍ حتى يحكِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان.

 

فمَن استكمل هذه المراتب وكملها فقد استكمل مراتب الدين كلها. فمَن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر. ومَن تركه مع التزامه  فله حكم أمثاله من العاصين" ..

 

وتحكيم النبي - الله عليه وسلم- بعد موته: بالرد إلى سنته، والرجوع إليها في كل أمر من أمورنا، وفي كل خلاف يحدث بيننا، وفي كل نقاش يدور بيننا، فمتى ما رفعت راية السنة وحكم الدين فالإذعان واجب الجميع،  فحكمها هو الحكم الذي لا نرضي عنه بديلاً ولا تحويلاً، والحظ معي المراتب الآتية بعد ذلك: (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).. واختبر بها قلبك؛ فإنها نعم المعيار للإيمان.. وبقدر ما يخرم شيء منها في قلبك يكون الخرم في إيمانك.. فكن على حذر ..

 

فإن الواجب أن يكون منتهى أمرك حيث قال ربك وهو العليم الخبير: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً).. ولاحظ معي كيف جعل التسليم لحكم الله ورسوله والرضا بذلك يقابل العصيان، وأن الانقياد يقابله الضلال المبين .. وفي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"..

 

ومن المتقرر عند العقلاء كافة؛ أن اليقين لا يزول بالشك، فما لنا نرى يقينيات البعض ومسلماتهم ومبادئهم وقيمهم تزول بالشكوك؟ بل بما هو أقل منها وأدنى؛ بأوهام رخيصة، تقذف في قلوب الكثير فتكون (كالسفنجة)، خصبة لكل وارد، وتتشرب كل ما يلامسها، زلالاً أو عفناً! فلا تكن عقيدتك ودينك مرتعاً لكل عابث، يقلقك ويحرك يقينك .. بل كن على ثقة تامة، ويقين راسخ كالجبال، لا تحركه الرياح مهما قويت وعتت..

 

وبالنظر في هذا وتأمله ينكشف لك سر استفتاح كتاب ربنا جل ذكره بقوله: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).. فهو الحق الناصع .. والهدى الواضح .. والبيان التام .. لكنه لفئة (المتقين) فقط.. (ولا يزيد الظالمين إلا خساراً).. وقد هداك ربك السبيل؛ فكن مؤمناً شاكراً ولا تكن ضالاً كفوراً ..

 

وكلما علت هذه المعالم الإيمانية في نفسك .. وتمكنت من فؤادك .. وخالطت بشاشتها قلبك .. رأيت بنور بصيرتك قول الصادق المصدوق: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً".. ولذلك شرع لنا أن نملأ قلوبنا بهذا الذكر العظيم ونردده مع كل إشراقة شمس وإدبارها، وفي كل مرة تسمع بها منادي الفلاح يدعوك للصلة بربك العظيم .. لكن هذا المذاق لا يتأتى بالدعاوى المجردة ما لم تصحبها إقامة البينات الصادقة .. فالرضا بالله وقدره، ورسوله وشرعه وسنته، والإسلام وحكمه وتشريعه، ليس أمراً سهلاً، أو دعوى رخيصة، بل هي معانٍ عظيمة جدير بنا أن نتأملها وأن نسعى في تحقيها على أن نصل إلى الرضا التام الذي يذيقنا طعم الإيمان، وهو بوابة لجنة الدنيا؛ التي من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة..

 

ما أجمل الوقوف مع هذه المعايير الإيمانية في ظل التوهج المستعر في أيامنا هذه.. وأن نقف مع قلوبنا وقفة نخلصها وننقيها لربنا بين كل آونة وأخرى، وأن نعرضها على معايير الإيمان ونفحصها حتى ننقيها من كل شائبة تشوب إيماننا ويقيننا .. وكثرة الشواغل تصرف القلب عن لذة الإيمان، وتلهيه عن جمال العلاقة مع الله، حيث تتطلب قلباً خالياً.. كما كان ابن تيمية عليه رحمة الله يفعل، حيث يخرج أحياناً إلى الصحراء يخلو عن الناس لقوة ما يَرِدُ عليه، قال بعض أقاربه: "فتبعته يوماً فلما أصحر تنفس الصعداء، ثم جعل يتمثل بقول الشاعر، وهو لمجنون ليلى في قصيدته الطويلة:

وأخرج من بين البيوت لعلني *** أحدث عنك النفس بالسر خالياً

 

ولا زال ذلك المشهد ماثلاً أمام عيني؛ حينما كنا قبل أربع سنوات -تقريباً- بين يدي شيخنا الفذ: عبدالرحمن بن صالح المحمود –وفقه الله- في درس التعليقات على شرح ابن أبي العز على العقيدة الطحاوية –ذلك الدرس الذي مليء إيماناً- ، حيث كان الدرس عميقاً في بعض النظريات الكلامية العويصة؛ وكان الشيخ يتفنن في طرحها وعرضها، فلما اقترب الأذان وقف الشيخ وقفة وقال: "ينبغي لطالب العلم إذا تعمق في مثل هذه المسائل أن لا يستمر فيها طويلاً، بل يقف وقفة إيمانية، تملؤ قلبه تعظيماً وإجلالاً لله تعالى، ومن نعمة الله علينا هذه الصلوات الخمس التي تصلنا بالله تعالى"، ثم دخل المؤذن ليؤذن لصلاة العشاء فقال: "تأملوا الأذان كلمة كلمة..." .. كل هذا؛ حتى لا تتمكن هذه المباحث من قلوب العباد، فيأخذون زاداً إيمانياً يواجهون به هذه الدواخل .. فيا لها من تربية متزنة .. وما أجمل الاتصال مع الله يزداد مع ازدياد الهرج والمرج ..

 

ثبت الله الجميع بتثبيته، وسددهم بتسديده، وأرانا الحق حقاً وألزمنا إياه، وأرانا الباطل باطلاً وصرفنا عنه، والحمد لله مبدؤ كل أمر ومنتهاه.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات