دلائل اليقين

خالد بن منصور الدريس

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ثانيًا: تدبر القرآن، ومن المواسم التي تسنح للمسلم في كل سنة شهر رمضان، وهو شهر القرآن الذي أنزل فيه، وتتحقق فيه من الفرص لسماع القرآن وتدبره ما قد لا يحدث في باقي أيام السنة لكثير من الناس، فشهر رمضان فرصة ثمينة لكل مسلم ليتدبر كتاب الله -عز وجل- ليزيد من يقينه ويبني رصيدًا كبيرًا وقويًا له يستعين به على تحقيق أمله في بلوغ رضا الخالق -عز وجل-.

 

 

 

اليقين أعلى منازل عبادات القلوب، وعليه مدارها، وهو بمنزلة الروح لأعمال القلوب التي هي أرواح لأعمال الجوارح.

 

كان بعض السلف يقول: "باليقين طلبت الجنة، وباليقين هرب من النار، وباليقين أديت الفرائض، وباليقين صبر على الحق، وفي معافاة الله خير كثير، قد والله رأيناهم يتقاربون في العافية، فإذا نزل البلاء تفارقوا".

 

ومن روائع ابن القيم -رحمه الله- في وصف منزلة اليقين قوله: "وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وعمل القوم إنما كان عليه، وإشاراتهم كلها إليه، وإذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهما حصول الإمامة في الدين قال الله تعالى وبقوله يهتدي المهتدون: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ? وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]".

 

الدعاء باليقين وأنه أفضل ما يؤتى العبد:

ولجلالة منزلة اليقين في عبادات القلوب حثت السنة النبوية على أن يدعى الله ويسأل أن يرزق به، فقد ثبت عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال من على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول -فاختنقته العبرة وبكى- ثم قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هذا المنبر يقول عام أول: «سَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْيَقِينَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ مَا أُوتِيَ الْعَبْدُ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ» (المستدرك على الصحيحين: [1944]).

 

اليقين ضد الشك:

واليقين في اللغة: هو زوال الشك مع العلم وتحقيق الأمر.

 

وتأكيد هذا المعنى ورد في السنة النبوية كما في الحديث الثابت عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُلْقِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِذَا اسْتَيْقَنَ التَّمَامَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» (سنن أبي داود: [1024]).

 

فجعل اليقين ضد الشك، فاليقين هو العلم المتحقق الذي لا يداخله تردد أو ضعف ثقة به.

 

اليقين هو الإيمان كله:

أما من حيث المعنى الاصطلاحي لليقين، فإن من العلماء من يدقق في معنى اليقين ويذهب إلى أنه يطلق على معنيين:

الأول: أصل الإيمان بأركانه وشروطه المعروفة.

 

والثاني: منزلة رفيعة من منازل الإيمان لا ينالها إلا الكُمّل من المؤمنين.

 

ولا يطلق على أحد بأنه موقن إلا إذا استقر في قلبه العلم والعمل مطمئنًا بذلك.

 

وقد جاء في السنة النبوية المطهرة ما يدل على أن اليقين هو الإيمان المنجي، كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة وغيره عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلَا مَشْعُوفٍ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الْإِسْلَامِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَصَدَّقْنَاهُ. فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللهَ؟ فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللهَ، فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللهُ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، وَيُقَالُ لَهُ: عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللهُ. وَيُجْلَسُ الرَّجُلُ السُّوءُ فِي قَبْرِهِ فَزِعًا مَشْعُوفًا، فَيُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَقُلْتُهُ، فَيُفْرَجُ لَهُ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللهُ عَنْكَ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ إِلَى النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، عَلَى الشَّكِّ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللهُ» (سنن ابن ماجه: [4268]).

 

وقد ثبت عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "اليقين الإيمان كله".

 

ويشرح الحافظ ابن رجب قول ابن مسعود هذا فيقول: "واليقين: هو العلم الحاصل للقلب بعد النظر والاستدلال، فيوجب قوة التصديق حتى ينفي الريب ويوجب طمأنينة القلب بالإيمان وسكونه وارتياحه به، وقد جعله ابن مسعود الإيمان كله.. ولم يرد ابن مسعود أن ينفي الأعمال من الإيمان، إنما مراده: أن اليقين هو أصل الإيمان كله، فإذا أيقن القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، انبعثت الجوارح كلها للاستعداد للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة فنشأ ذلك كله عن اليقين".

 

اليقين هل يقوى ويضعف؟

والصحيح أن اليقين يرتفع وينخفض ويقوى ويضعف، ويزيد وينقص لعلاقته بالإيمان كما تقدم، قال الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في كتاب التوحيد: "اليقين يقوى ويضعف".

 

ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن كثيرًا من الناس لا يصلون إلى اليقين الكامل، ولو أتيح لهم من يشككهم لشكوا، ولكنهم ليسوا كفارًا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ تلك الشكوك، ولا عندهم من قوة الحب للّه ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عوفوا من المحنة والفتنة وماتوا دخلوا الجنة لأن معهم من الإيمان ما ينجيهم، وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توقعهم في التشكك، فإن لم ينعم اللّه عليهم بما يزيل تلك الشبهات، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق.

 

كيف يكتسب اليقين؟

يتحصل اليقين ويكتسب بأمور من أهمها:

أولًا: حب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بإخلاص وصدق، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» (صحيح مسلم: [43]).

 

وقد قال العلماء -رحمهم الله-: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات، وتحمل المشقات في رضا الله -عز وجل-، وإيثار ذلك على عرض الدنيا.

 

ثانيًا: تدبر القرآن، ومن المواسم التي تسنح للمسلم في كل سنة شهر رمضان، وهو شهر القرآن الذي أنزل فيه، وتتحقق فيه من الفرص لسماع القرآن وتدبره ما قد لا يحدث في باقي أيام السنة لكثير من الناس، فشهر رمضان فرصة ثمينة لكل مسلم ليتدبر كتاب الله -عز وجل- ليزيد من يقينه ويبني رصيدًا كبيرًا وقويًا له يستعين به على تحقيق أمله في بلوغ رضا الخالق -عز وجل-.

 

ثالثًا: تدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفاق، التي تبين أنه حق، قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ? أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت:53]، ومن ذلك مشاهدة العبر التي تحدث للعصاة والطغاة، والتأملات في السماء والفلك وسائر مخلوقات الله –عزوجل- فإن هذه المشاهدات المصحوبة بالتدبر تورث علمًا وطمأنينة في القلب.

 

رابعًا: العمل بموجب العلم، فاليقين ليس علمًا نظريًا فقط بل لا بد من أن يصدقه العمل، والعمل بالطاعات والصالحات، يعزز اليقين ويرسخه.

 

دلائل اليقين ومؤشراته:

لليقين دلائل ومؤشرات، وسنكتفي بها عن الحديث عن ثماره وفوائده، فإذا أردت أن تعرف قربك أو بعدك من اليقين، فأعرض نفسك على هذه المؤشرات، ومنها:

أولًا: إن مما يضاد اليقين التلون وانقلاب المفاهيم والتصورات بحيث يكون الحق في وقت باطلًا، ويصبح الباطل في وقت آخر حقًا، وما أجمل ما قاله الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان لأبي مسعود لما دخل عليه وقال له: "اعْهَدْ إِلَيّ فَقَالَ حذيفة: أَلَمْ يَأْتِكَ الْيَقِينُ؟!"

 

قَالَ : بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّي!

 

قَالَ حذيفة: "فَاعْلَمْ أَنَّ الضَّلاَلَةَ حَقَّ الضَّلاَلَةِ أَنْ تَعْرِفَ مَا كُنْتَ تُنْكِرُ وَأَنْ تُنْكِرَ مَا كُنْتَ تَعْرِفُ وَإِيَّاكَ وَالتَّلَوُّنِ فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ وَاحِدٌ".

 

فمن أهم المؤشرات الدالة على وجود اليقين: الثبات على الحق مع اختلاف الزمان والمكان بما في ذلك وقوع الفتن التي يُزين فيها الباطل، ويُشوه فيها الحق وأهله، وتقوم فيها سوق الشبهات والأباطيل، ويُضعف أهل الحق والصادعون به.

 

ثانيًا: التعامل مع المصائب والابتلاءات بقلوب مطمئنة إلى موعود الله وصابرة على قضائه وقدره، ففي الحديث الحسن المروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان إذا جلس مجلسًا لم يقم حتى يدعو لجلسائه بهذه الكلمات وزعم: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو بهن لجلسائه: «اللهم اقْسِمْ لنا من خشيتِكَ ما يَحُولُ بيننا وبين مَعاصِيكَ، ومن طاعتِكَ ما تُبَلِّغُنا به جنتَكَ، ومن اليقينِ ما تُهَوِّنُ به علينا مُصِيباتِ الدنيا، ومَتِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوتِنا ما أَحْيَيْتَنا، واجعلْه الوارثَ منا، واجعلْ ثأرَنا على من ظلمنا، وانصُرْنا على من عادانا، ولا تجعلْ مُصِيبَتَنا في دينِنا، ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ همِّنا ولا مَبْلَغَ علمِنا، ولا تُسَلِّطْ علينا من لا يَرْحَمُنا» (سنن الترمذي: [3502]).

 

ثالثًا: ألا يرضي العبد الناس بما يسخط الله رغبة بما عندهم أو خوفًا منهم.

 

رابعًا: الاعتقاد الجازم بأن الرِّزْقَ لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، مع العلم بأن الإنسان لو هرب من رزقه كما يهرب من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت.

 

خامسًا: ومن دلائل ضعف اليقين: أن يثق العبد بما في يده أكثر من ثقته بما في يد الله -عز وجل-.

 

سادسًا: ومن دلائل ضعف اليقين: ضعف العمل بالطاعات والخيرات والاغترار بما عند الله مع عدم العمل.

 

سابعًا: صدق التوكل على الله في الأمور كلها.

 

ثامنًا: الخوف من الله وخشيته بالغيب حين يخلو الإنسان بمحارم الله.

 

المصدر: موقع الدكتور خالد بن منصور الدريس

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات