ملامح الخطاب الدعوي في المرحلة الجديدة

أحمد محمد زايد

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

كل هذا وغيره يؤكد لنا أننا على المستوى العملي دخلنا بالفعل مرحلة جديدة لا يصح بحال أبدا أن نكون نحن الدعاة بنفس الهمة والفكر والأسلوب والوضع القديم، فالمرحلة جديدة بحق، وهي تفرض علينا جملة من التحديات كما تفرض علينا جملة من الواجبات والمسئوليات بعد أن بانت هشاشة العلمانية التي ظلت محتمية بالدكتاتوريات المستبدة، فلما سقطت هذه الدكتاتوريات ترنحت معها الأفكار العلمانية، وانحاز الناس إلى الإسلام بحكم هويتهم، وهنا تأتي المسئولية وتظهر التحديات التي هي طبيعة المرحلة الجديدة.

 

 

 

ثناء على رب الأرض والسماوات:

اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به، على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرؤوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السموات والأرض أن تعلمنا ما ينفعنا، وأن تنفعنا بما علمتنا، وأن تزيدنا علماً وعملاً وإخلاصاً يا أرحم الراحمين!

 

مقدمة:

فإن من نعم الله –تعالى- وآلائه أن منَّ علينا وعلى الأمة الإسلامية بنعمة الوقوف في وجوه الطغاة حتى بدأت هذه الأصنام في التساقط واحدا تلو الآخر، وكان منهم طاغية مصر البائد المخلوع، وإن النجاة من الطغاة نعمة يحمد الله –تعالى- عليها، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [إبراهيم:6].

وبعد: فهذه رسالة عاجلة إلى إخواني الدعاة الذي يملكون زمام توجيه الجماهير المسلمة ويحملون إليها خطاب الله –تعالى- كتبتها على عجل إسهاماً في معالجة قضية الخطاب الدعوي في المرحلة الحالية، مرحلة ما بعد الثورة وإن كنت أعتبر الثورة لم تزل قائمة بعد، فأقول:

قامت الثورة المباركة انتفاضة عمت أرجاء مصر فحققت مقاصد هامة ومطالب عظيمة، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 

قد قرأت لكثير ممن حللوا هذه الثورات في كل من تونس ومصر وليبيا – وبخاصة من أولئك – الغربيين فرأيت أكثرهم بل قد يكون جميعهم يكادون يجمعون على أمر هام: وهو أن المستفيد الأكبر من هذه الثورات وما نشأ عنها "هو الإسلام والإسلاميون" سواء على المستوى الشعبي أو المستوى الحركي التنظيمي، وهذا أمر صحيح وإن كان الجميع سيتفيد من أجواء الحرية وما يصحبها من نتائج.

 

وهذا يفسر لنا ويؤكد لماذا كان الغرب حريصاً على استبقاء هذه الأنظمة المستبدة وحمايتها والإنفاق عليها، ولذا فإن هناك دراسات تقدمها بعض المراكز الغربية في الغرب لأصحاب القرار هناك أن ينهجوا نهجاً مع هذه الثورات هو ما أسميه "النهج الناعم"، وهو يتلخص في كلمتين هما: "استبدال الأشخاص واستبقاء الأفكار" كمحاولة لسرقة الثورة ووأد نتائجها، يعني محاولة الإبقاء على الفكر والنهج القديم نهج التخلف والاستبداد لكن مع شخص جديد، هذه الفكرة وغيرها من الخيارات بل والمؤامرات تدرس الآن في بعض أروقة المراكز البحثية الغربية؛ ليبقى المسلمون على ما هم عليه فتدور العجلة إلى الخلف مرة أخرى، وهذه الفكرة ربما تنجح والراجح خسرانها –إن شاء الله -تعالى- إذا ما انتبهت الأمة وقدرت قدر مرحلتها الجديدة.

 

كما حاولت هذه القوى الداخلية والخارجية في بعض نظراتها إلى هذه الثورات أن تنسبها بوضوح إلى الحركات الإسلامية كحركة النهضة في تونس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر وذلك لأمور منها: محاولة العودة بالشعوب إلى مرحلة بائدة من الاستمرار في التخويف بالإسلام والإسلاميين، ولكن شيئا من ذلك لن يحدث إن شاء الله ولكنها عقبات في طريق الثورة بعد مرحلتها الأولى.

 

كل هذا وغيره يؤكد لنا أننا على المستوى العملي دخلنا بالفعل مرحلة جديدة لا يصح بحال أبدا أن نكون نحن الدعاة بنفس الهمة والفكر والأسلوب والوضع القديم، فالمرحلة جديدة بحق، وهي تفرض علينا جملة من التحديات كما تفرض علينا جملة من الواجبات والمسئوليات بعد أن بانت هشاشة العلمانية التي ظلت محتمية بالدكتاتوريات المستبدة، فلما سقطت هذه الدكتاتوريات ترنحت معها الأفكار العلمانية، وانحاز الناس إلى الإسلام بحكم هويتهم، وهنا تأتي المسئولية وتظهر التحديات التي هي طبيعة المرحلة الجديدة.

 

أستطيع القول بأن ما قامت به الثورة في مرحلتها الأولى كان هدماً، نعم هدم لرؤوس الدكتاتورية تم في ثمانية عشر يوماً في مصر وهذه مدة وجيزة وهكذا الهدم لا يحتاج إلى كثير وقت.

 

وبقيت مرحلتان هامتان: هما مرحلة التطهير ومرحلة البناء وهما الثمار الحقيقية للثورة، والتواني فيهما ربما يسبب انتكاسة مرة أخرى والعياذ بالله.

 

ومن هنا صار الحديث عن مرحلة العمل لما بعد الثورة حديثاً استراتيجياً تمليه الضرورة العملية الواقعية، وقد ورد "وعلى العاقل أن يكون عالماً بزمانه ممسكاً للسانه مقبلاً على شأنه" شعب الإيمان للبيهقي ومصنف عبد الرزاق.  

 

والعمل المنشود لابد أن يكون من الجميع (دعاة وأهل علم، سياسيون، تربويون، آباء وأمهات، إعلاميون...)؛ لأنها ثورة، والثورة تكون شاملة تحدث تغييراً ظاهراً شاملاً لا جزئياً.

 

وأولى الناس بمراجعة خطواتهم وخططهم هم الدعاة ورموز المجتمع وقيادته الفكرية والدينية، ولذا كانت هذه السطور التي أدعو الله –تعالى- أن تؤتي أكلها وينتفع بها كاتبها وقارئها.

 

وهو موضوع وجيز في حجمه لكننا نأمل ونرجو أن يعطي إشارات ويضيء ومضات ويعطي مفاتيح في توجيه العقل الدعوي إلى بعض معاني وملامح وركائز خطابنا الدعوي في المرحلة القادمة بإذن الله -تعالى.

 

لماذا الحديث في هذا الموضوع؟

قد يسأل سائل لم الحديث في هذا الموضوع، وهل يستحق أن تكتب فيه سطور وتعقد من أجله محاضرات وندوات؟

 

أبادر فأقول: نعم ليس درساً واحداً ولا محاضرةً واحدةً إنما يحتاج إلى دراسات وبحوث وورش عمل؛ لنخرج بخطةٍ واضحة المعالم لأننا نرسم ملامح مرحلة جديدة لها ما بعدها.

 

وهذا يدفعنا إلى ذكر بعض ملامح خطابنا قبل الثورة:

أولاً: كان خطابا يشوبه بعض اليأس بل كثير من اليأس نظراً لطبيعة طبيعة المرحلة السابقة التي أغلقت كل أبواب الأمل وحجبت كثيراً من وسائل الإصلاح، ولا شك أن النفس البشرية يعتريها اليأس والإحباط من مثل هذه الممارسات.

 

ثانياً: كان يشبه خطاب الضحية الذي لا يتحكم في أي شيء وإنما يتحكم فيه غيره: وكان ذلك نتيجة منطقية لحالة الشعور بالتخلف والضعف، وهذا الشعور جعل فكرة المؤامرة شبه سائدة، وأننا نقول بعض ما نريد والنظام يفعل كل ما يريد فنحن ضحاياه على كل حال.

 

ثالثاً: كان خطاباً متحفظاً لا يفصح عما يريد بالطريقة التي يريد، وذلك نتيجة الخوف من الرصد المستمر لأنفاس الناس وكلماتهم، والمحاسبة على الفكر والحركة، وذلك أفقد الخطاب الدعوي بعض شفافيته وانطلاقته، وقزم أبعاده وحجم آفاقه.

 

رابعاً: كان خطاباً متحيراً أحياناً لا يدري ما المخرج وهذا نتيجة اليأس الذي نوهنا إليه سابقا، كما كان نتيجة عدم وجود استراتيجية واضحة المعالم للنظام مما يربك الجميع ويوقعهم في الحيرة والتخبط.

 

خامساً: كان خطاباً محدوداً في قضاياه قاصراً على بعض الجوانب الأمر الذي أدى إلى تضخم بعض القضايا وضمور البعض الآخر، فغلب على الخطاب الديني جانب المواعظ، وعلى الناحية الفقهية العملية جانب العبادات وعلى الجانب الاجتماعي بعض قضايا الأحوال الشخصية، أما جوانب الجهاد والسياسة والحقوق والحريات وغيرها مما يمثل قضايا يومية ومصيرية فقل من تطرق إليها في خطابه الديني اللهم إلا القليل الذي لا يسمع.

 

لذلك لابد لنا أن نتعامل مع الجو الجديد بروح وفكر جديد ولا نسحب طبيعتنا القديمة وخططنا القديمة على هذه المرحلة الجديدة، وإذ كان العلماء قد قالوا: "إن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال" فإن البلاغة الحقيقية أن نكون في خطابنا على قدر الحدث الذي نمر به ونحياه.

 

ملامح من خصائص خطابنا الدعوي في المرحلة القادمة:

نؤكد في هذه العجالة على بعض الملامح القديمة التي لابد من اصطحابها، ونطرح بعض الملامح الجديدة التي تحتل أولوية في ملامح الخطاب الدعوي ومن هذين الجانبين يتبلور خطاب دعوي راشد إن شاء الله -تعالى.

 

أولاً: خطاب تأصيلي قائم على العلم والبصيرة:

العلم شرف مقصود ومنبع مورود، فهو نور القلوب وضياء العقول، وضابط الأعمال وقانون السلوك، لا حجة لأي شيء معه، فهو حجة الحجج، والمرجع عند اللجج، لا تنتهي رحلته، ولا تشبع لطالب منه نهمته، (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114].

 

والخطباء والأئمة ورموز المجتمع اليوم أحوج الناس إلى الرسوخ في العلم من أي زمن مضى، فلا يصح من الناس في هذا الشأن إلاّ المليء. ولا تحسبنّ -أخي الحبيب- أن مجرد الوقوف مع كتب الوعظ أو غيرها سويعات ودقائق لتحضير خطبة أو درس لا يتجاوز ساعة هو العلم، بل هذه ثقافة إن جوَّزنا إطلاق ذلك عليها، والعلماء يفرقون بين العلم والمعلومات، والفرق بينهما أن المعلومات مفردة، والعلم نسق مرتبط بعضه ببعض، له منهج وله استعمال، وهذا هو الفرق بين العالِم والمثقف، فالمثقف عنده كثير من المعلومات في مادة معينة لكن ليس عالماً في هذه المادة، وقد تفوق معلوماته معلومات بعض علماء هذه المادة, لكن لا بدَّ علينا أن نعي طرق الاستعمال، وأن نعي الربط بين المعلومات، وأن نعي المعلومات أيضاً حتى نحصل علماً معيناً.

 

وقد يظن البعض في نفسه العلم أو يُظَنّ به، فتبدأ رحلة التوقّف بعد أن ضرب الكبر والعُجب النفس، فلا يقرأ المرء ولا يحني ظهره أمام الكتب؛ لأنه صار عند نفسه عالماً، حسِبه الرّعاع كذلك، روى الشاطبيّ في (الإفادات والإشادات) رواية تصوّر لنا مَن العالم بعلم حقّا، خلاصتها أن المرء لا يكون عالماً بعلم حقّاً حتى يتمكن من ثلاثة أمور:

1-الإحاطة بهذا العلم، بمعنى تحصيل جميع مسائله وتصورها.

 

2-القدرة على العبارة عنه بأحسن بيان، يعني التمكن من التعبير عن مسائله.

 

 3-القدرة على رد الشبهات حوله.

 

والرسوخ في العلم غير مجرد ممارسة العلم ومعالجته، فالراسخ في العلم لا يتطرّق إليه شك ولا ريب، لا يتبع الشبهات، ولا يتأثر بالسقطات والزلات، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ) [آل عمران: 7]. ولن تكون راسخاً في العلم ما لم تكن لك جولات واسعة مع علم الكتاب والسنة، تتشبع بهما حفظاً وفهماً، لا استظهاراً وترديداً، فالداعي الراسخ لا بد أن يتقن القرآن الكريم ويقرأ تفسيره، ويطالع كتب السنة ويعيش مع أبوابها ونصوصها، ويقرأ الفقه، ويدرس السيرة والتاريخ، ويحصل الأدب والشعر، ويدرك الواقع.

إن الكلام العجيب الذي نسمعه اليوم في وسائل الإعلام في الخطب والدروس والفتاوى وغيرها إنما كان أحد أسبابه الرئيسة الجهل الذي يصحبه التعالم، ويغذيه الغرور غالباً، أمَّا الراسخون في العلم فهم الذين يقنعون الناس، ولا يتجرؤون على القول في دين الله بلا علم. إن الأمة أمانة في أيدي الدعاة، تنتظر منهم الدواء كما تنتظر من الطبيب الحاذق الدقة في التشخيص ووصف الدواء، وقد أشفق أصحاب محمد بن الحسن عليه من طول سهره في المذاكرة والطلب فقال لهم: "إن أمة محمد تنتظرنا، فلو نمنا مَن يعلمهم".

 

فيا أيها العالم والخطيب والداعية، لا تضيع وقتك فيما لا يفيد أمتك، فوقتك ملك لها، تعتمد عليك في بيان الحق، وتنتظر منك علماً لا غثاء، فلا تخن الأمانة، ولا تضيع بالجهل الرسالة.

 

وبعد هذا نقول: إن المرحلة الجديدة تتناوشها أيدي وأطروحات وتيارات وأفكار كل يدلي بدلوه ويطرح فكره، وهناك قضايا حساسة وخطيرة سياسية واقتصادية ودولية وكلها قضايا مصيرية كل هذا الكم يطرح الآن ونحتاج إلى جيوش من الدعاة لبيان وجه الحق فيها، ولن يكون ذلك إلا باستيعاب الشريعة وإدارك حقيقتها في كل الجوانب، ثم بتصور كيفية عملها في الواقع، ثم بفهم كيف نطرح كل ذلك على الجماهير؛ لينتموا إلى حقيقة الإسلام الشامل لا بعض قضاياه التي ظنوا أنها الإسلام وحسب.

 

ثانياً: خطاب يتسم بالمراجعة والتقييم ليستفيد من الماضي ويبني الحاضر وينطلق إلى المستقبل:

وذلك أننا بشر نخطئ ونصيب، ونتقدم ونتباطأ، ولذا كن لابد وأن يكون خطابنا تقييمياً يدعو إلى المراجعة، فالمراجعة في الفعل البشري أمر شرعي فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربي عليها أصحابه ويقول: "إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير". هذا نوع من المراجعة للوصول إلى ما هو خير وأفضل، وأتمنى وأنا بصدد الحديث عن هذا الملمح أن تعقد ورش عمل وحلقات نقاشية لدراسة أوجه القصور في خطاب الدعاة بكل جرأة وشفافية ومعالجة هذا القصور بخطة محكمة واضحة.

 

ولقد أعجبني جدا ما قرأته عن تلك الوثيقة الرائعة التي أصدرتها حركة النهضة الإسلامية بقيادة الشيخ راشد الغنوشي  أثناء فترة المنفي وقد صدرت منذ أكثر من ثلاث سنوات وكانت بعنوان: "دروس الماضي وإشكالات الحاضر وتطلُّعات المستقبل"، والتي يصفها أحد الكتاب بأنها "أخطر وثيقة صدرت عن حركة إسلاميَّة عربيَّة معاصرة تقيم فيها تجربتها الخاصة وتنتقد نفسها مكرسةً بذلك مدرسة جديدة في النقد الذاتي، وهي ممارسة غير مسبوقة في الأحزاب الإسلاميَّة"، وقد تحدث الشيخ راشد الغنوشي مرارًا عن أهميَّة الاستفادة من التجارب السابقة للحركة.

 

فكثير من الاجتهادات قد نغيرها وكثير من الوسائل قد نستبدلها، وكثير من الأساليب قد نطورها، فما كان ممنوعا بحكم النظام البائد قد يصبح اليوم متاحا مباحاً، وما كان مناسبا لمرحلة التخفي والمطاردات والموازنات قد يخف اليوم جداً، فالبقاء على القديم في كل شيء سيؤخرنا قطعاً، وما سنكسبه اليوم من مواضع لن نتأخر عنه بعد ذلك إن شاء الله -تعالى.

 

ثالثاً: يمتاز بالوعي ويربي الوعي:

إن تمثيل الإسلام على مستوى الخطاب والتوجيه في هذه المرحلة ليس موضوع بلاغة وألفاظ، بل موضوع وعي وإدراك، والداعية غير المتمكن من تصور العالم من حوله سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكرياً. يكون عبئاً على الدعوة لا معيناً لها. من هنا تتضح أهمية الخطاب الدعوي العاكس لعقل الداعية ووعيه.

 

وهنا لابد من الدراية بمن حولنا محلياً: (بالأحزاب ورموزها ومناهجها وعملها وتحركاتها -حركة الاقتصاد وما يتصل بها– الجمعيات والتيارات الاجتماعية والفكرية داخل المجتمع المصري -حركات الشباب وتوجهاتها-قضايا الجماهير ومطالبها وواقعها … الخ)

 

وعالمياً: يجب الوعي بحركة الدول ومخططاتها والجديد عندها ومدى قربها أو بعدها منا – وكيفية التعاطي مع هذه الدول، ومن ثم يكون خطابنا واقعياً قائماً على الوعي، ثم نحلل كل ذلك بمنهجية علمية تنطلق من موازين الإسلام.

 

وإن من أكبر عوامل الوعي المتابعة للأحداث دائماً وفهم العلاقة بين هذه الأحداث ومن وراءها والمستفيد والخاسر من ورائها، ويمكن أن تساعد في ذلك مراكز دراسات ومراكز بحثية ونشرات متخصصة وغير ذلك، ولا شك أن الشبكة العنكبوتية تسهم في هذا كثيراً.

 

كما أن من عوامل الوعي الإحصاء والأرقام والوثائق وقد يسرت سبل الحصول على مثل هذه الأنواع من المعلومات بهذه الطريقة.

 

إذاً أيها الإخوة: الوعي الإنساني اليوم ليس هو وعي الإنسان بالماضي أو بأحداث مسجلة في بطون الكتب، إنما هو وعي بالحاضر بكل مشتملاته، مع فهم الواقع كما ذكرت وهذا الزمن، يشعر كل قوم بذواتهم وهوياتهم القومية والدينية والعرقية وبحقوقهم الإنسانية، على مختلف الأعراق والملل، لم يعد خافيا على أحد، وبالتالي فالخطاب الدعوي مسئول عن مخاطبة عصره وزمانه بما يليق بتطور الإنسان ووعيه.

 

وبعد وعي الدعاة لا بد وأن يكون خطابهم أيضاً باعثاً على الوعي ومنشئاً إياه، بعد فترة طويلة من التغييب لعقول الجماهير وتضليلها وتخدير مشاعرها وإبعادها عن الحقيقة بكل صورها لابد من رسم خطوات لإعادة هذه الجماهير إلى وعيها واستعادة عقلها إليها مرة أخرى، تلك الجماهير التي لم تعرف حقوقها طوال هذه الفترة تحتاج إلى وعي كامل صريح بحقوقها وكيفية المطالبة بها وبيان أن الدساتير والشرائع وكافة القوانين تكفل لها تلك الحقوق، هذه الجماهير التي لا تعد منشغلة إلا بالفنون والمباريات والتفاهات لا بد أن يعود وعيها بقضاياها ومستقبلها، هذه الجماهير التي عاشت معنى المصالح الشخصية لا بد وأن تعيش مرةً أخرى معنى المصلحة الأمة، هذه الجماهير التي كانت تصفق لجزَّاريها وجلاديها من خلال الشعارات الكاذبة والإعلام الكذوب آن لها اليوم أن تفرق بين من يخدعها وبين من يقودها إلى صلاحها ومصالحا، وهكذا يجب أن نرصد الجوانب التي ضاعت من وعي الجماهير ونحاول علاجها وخلق وعي جديد بالقضايا الهامة والمصيرية.

 

 

 

رابعاً: منفتح على الآخرين، توافقي لا يعتمد منهج الإقصاء:

توجد توجهات وشرائح وجماعات في المجتمع المصري، ظهرت كلها في وقائع الثورة، ربما الكثير منا لم نرها قبل ذلك ولم نهتم بها ولم نحتك بها مباشرة، وكانت جزءاً من نسيج الثورة ومكوناً من مكونات جمهورها الشعبي العريض، هذه الجماهير من حقها أن تتعرف علينا عن قرب وتنظر في رسالتنا وأفكارنا بعد أن حجبت عنا لأسباب كثيرة وحجبنا عنها كذلك، ومن واجبنا الاجتماعي والدعوي أن نصل إليها ونتصل بها ونعرض عليها ما لدينا،  وهذا جزء من الواجب، وقد تعودنا فترة من الزمن أن ينحسر الكثير منا وسط جمهور المتدينين بل وسط لون واحد منهم، واليوم الجماهير من هؤلاء تناقش الفكرة الإسلامية ما بين مقتنع  بها وصاد عنها، ما بين مشوش الفكر تجاهها أو متسائل حولها، أوخائف من حملتها ورجالاتها بعد عصر طويل من التشويش على الدعاة ورسالتهم.

 

جماهير تتحدث عن التغيير، وعن الحكومة كيف تتكون، وعن نظم الحكم وبعض هذه التيارات مرتاب أو خائف من الحكم الإسلامي ومن ظهور المتدينين، ومن هنا نقول إن الخطاب المنغلق أو الغاضب لا يحقق إلا كثيراً من العداوات والأعداء للفكرة الإسلامية، وهذا يتطلب انفتاحاً على وسائل الإعلام والصحف ومواقع النت، وانفتاح الدعاة في أحيائهم وبلادهم على الجميع يلتقون بهم ويتحدثون إليهم ويجلسون معهم ويسمعون منهم دون حواجز ليسمع الجميع منا بعد أن سمعوا طويلاً عنا، إن ثمة أسباب وموجبات لهذا الانفتاح منها:

-حق الدعوة ووجوب تبليغها للجميع فهي دعوة للعالمين.

 

–أننا لسنا مختلفين مع هؤلاء في كل شيء، فلا يوجد خلاف كلي بيننا وبينهم بل هناك قاسم مشترك بين جميع العقلاء يمكن الاجتماع عليه والتعاون فيه دون المساس بالأصول العقدية.

 

–لسنا وحدنا في الساحة فالجميع له حقوق وله أفكار وتوجهات فإهمال هؤلاء وتجاهلهم معناه إهمال كم كبير من المجتمع يجب الاستفادة منه أو على الأقل تحييده.

 

وفي السيرة الشريفة كانت وثيقة المدينة انفتاحاً وتنظيماً وتعاوناً بين المسلمين وبقية أطياف المجتمع الداخلي و ثم جاءت مراسلة الملوك والأمراء كصورة للانفتاح الخارجي ورأينا الهجرة إلى الحبشة كلام جعفر -رضي الله عنه- للنجاشي كيف قلب الميزان السياسي في موقفه من المهاجرين، ثم دلل حلف الفضول على ضرورة التعاون بين كافة العقلاء على المشترك الإنساني دون تخوف أو انقباض، وفي تاريخ العمل الإسلامي المعاصر صور ونماذج وأحداث على هذا الانفتاح والتواصل مع أطياف المجتمع أثمرت ثمرتها بينما تأخرت تيارات عن ركب الحياة بسبب انغلاقها عن هؤلاء جميعا بحجج حسبوها شرعية وما هي بذاك.

 

وأحب هنا أن أنقل في هذا المعنى الأخير كلاماً نفيساً لأهل العلم في بعض المفاهيم الشرعية التي فهمها البعض على غير وجهها وبالغ في ذلك فانغلق بسبب هذا الفهم بل وانسحب من ساحات دعوية كان يمكن أن يقتحمها ويؤثر فيها.

 

من هذه المفاهيم مفهوم (الولاء والبراء والمداهنة – مفهوم الركون إلى الظالمين)

 

أولاً: المداهنة والولاء: توسع البعض في تفسير هذا المعنى الشرعي ولم يفرق بين المعاني المرادة وغيرها فجعل كل صور العلاقة مع غير السلمين مداهنة وولاء بينما الأمر ليس على ما فهم ومن هنا حاول الإمام شهاب الدين القرافي في كتابه (الفروق) تصحيح هذا الفهم فقال في "الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَاهَنَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُدَاهَنَةِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ، وَقَدْ تَجِبُ" اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى الْمُدَاهَنَةِ مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُحِبُّونَ مِنْ الْقَوْلِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أَيْ هُمْ يَوَدُّونَ لَوْ أَثْنَيْت عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ، وَيَقُولُونَ لَك مِثْلَ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُدَاهَنَةٌ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَشْكُرُ ظَالِمًا عَلَى ظُلْمِهِ أَوْ مُبْتَدِعًا عَلَى بِدْعَتِهِ أَوْ مُبْطِلًا عَلَى إبْطَالِهِ وَبَاطِلِهِ فَهِيَ مُدَاهَنَةٌ حَرَامٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ لِتَكْثِيرِ ذَلِكَ الظُّلْمِ وَالْبَاطِلِ مِنْ أَهْلِهِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّا لَنَشْكُرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ يُرِيدُ الظَّلَمَةَ وَالْفَسَقَةَ الَّذِينَ يُتَّقَى شَرُّهُمْ، وَيُتَبَسَّمُ فِي وُجُوهِهِمْ وَيُشْكَرُونَ بِالْكَلِمَاتِ الْحَقَّةِ فَإِنَّ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَفِيهِ صِفَةٌ تُشْكَرُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَنْحَسِ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُ ذَلِكَ اسْتِكْفَاءً لِشَرِّهِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ مُبَاحًا، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا إنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ بِهِ الْقَائِلُ لِدَفْعِ ظُلْمٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مُحَرَّمَاتٍ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ الْقَوْلِ وَيَكُونُ الْحَالُ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إنْ كَانَ وَسِيلَةً لِمَنْدُوبٍ أَوْ مَنْدُوبَاتٍ، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا إنْ كَانَ عَنْ ضَعْفٍ لَا ضَرُورَةَ تَتَقَاضَاهُ بَلْ خَوْرٌ فِي الطَّبْعِ أَوْ يَكُونُ وَسِيلَةً لِلْوُقُوعِ فِي مَكْرُوهٍ فَانْقَسَمَتْ الْمُدَاهَنَةُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَظَهَرَ –حِينَئِذٍ- الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَقَدْ شَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ كُلَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْأَمْرُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ".

 

فهذا تفريق بين المعاني والأحوال بحسب مقاصدها وما توصل إليه واعتقد أن لقاءنا بالآخرين ومدحنا ما فيهم من خير كمقدمة لبيان الدعوة إليهم من الواجبات الشرعية نظراً لما يؤول إليه الأمر من فهم الإسلام والتعرف على الدعاة.

 

ثانياً: مفهوم الولاء والبراء الذي يرفعه الكثيرون دون فهم لمعناه الشرعي "فقد درج الكثيرون على إطلاقه على مجرد المخالطة، أو الزيارة، أو المراسلة (!!) … وهي كلها بعيدة عن مفهوم الولاء الشرعي الذي هو المودة والنصرة. ولا يسمى عمل ما إعطاء للولاء إلا إذا تضمن حباً قلبياً، وتفضيلاً للآخر على المؤمنين، وإلا فهو من جنس المعاملات التي تجري بين البشر، والتي الأصل فيها الإباحة والجواز. ولذلك قال تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)، [آل عمران:28]. فأوردت الآية قيداً لمعنى الولاء، وأشارت إلى الحالات التي تستثنى منه. قال الأستاذ محمد رشيد رضا في تفسير (المنار): (من دون المؤمنين) قيد في الاتخاذ، أي لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء وأنصاراً في شيء تقدم فيه مصلحتهم على مصلحة المؤمنين (…) لأن في هذا اختياراً هاماً وتفضيلاً على المؤمنين، بل فيه إعانة للكفر على الإيمان بطريق اللزوم".

 

ـ (إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) استثناء من أعم الأحوال، أي أن ترك موالاة الكافرين على المؤمنين حتم في كل حال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم فلكم حينئذ أن توالوهم بقدر ما يتقي به ذلك الشيء؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وهذه الموالاة تكون صورية لأنها للمؤمنين لا عليهم، والظاهر أن الاستثناء منقطع، والمعنى ليس لكم أن توالوهم على المؤمنين، ولكن لكم أن تتقوا ضررهم بموالاتهم. وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فجوازها لأجل منفعة المسلمين يكون أولى. وعلى هذا يجوز لحكام المسلمين أن يحالفوا الدول غير المسلمة لأجل فائدة المؤمنين بدفع الضرر أو جلب المصلحة، وليس لهم أن يواليهم في شيء يضر المسلمين وإن لم يكونوا من رعيتهم. وهذه الموالاة لا تختص بوقت الضعف بل هي جائزة في كل وقت تفسير المنار.

 

ولقد نوهت قبل قليل إلى حلف الفضول واشتراك الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه وبيانه أنه لو دعي إلى مثله لأجاب.

 

يقول الدكتور سعد الدين العثماني تعليقاً على مسألة حلف الفضول: "والآن هل يمكن أن نسمي هذا العمل ركوناً إلى الذين ظلموا! !، إن الكثيرين لا يزالون يجعلون من آية سورة هود: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود:113] متكأ لإدانة كل خطوة يتعاون فيها دعاة الإسلام مع غيرهم على طاعة أو خير، أو يستعينون بهم لتحقيق مصالح أو درء مفاسد عنهم.

 

والركون في اللغة يمكن أن يطلق على معاني عدة، منها مطلق الميل والسكون، أو الاعتماد على الشيء والرضا به، أو الود والطاعة، لذلك من الضروري الرجوع إلى الأصول الشرعية وإلى النصوص الأخرى؛ لمعرفة المراد الشرعي من النهي الوارد في الآية، وفي مقدمة ذلك القواعد المقتضية لجلب المصالح ودرء المفاسد والموازنة بينها عند وجود تعارض بينها.

 

ثم ينقل عن الشوكاني في هذا الصدد قوله -رحمه الله- في تفسيره: "وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة أو دفع مفسدة عامة أو خاصة مع كراهة ما هم عليه من الظلم وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم، وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا، فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد. والأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، ولا تخفى على الله خافية. وبالجملة فمن ابتلي بمخالطة من فيه ظلم فعليه أن يزن أقواله وأفعاله وما يأتي وما يذر بميزان الشرع، فإن زاغ عن ذلك (فعلى نفسها براقش تجني). ومن قدر على الفرار منهم قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته فهو الأولى له والأليق به، إلى أن قال: "وقال النيسابوري في تفسيره: قال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم لرفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة، فغير داخلة في الركون". فتح القدير للشوكاني.

 

وعقب على ذلك بقوله: "وهكذا يتضح كيف طبق المفسرون قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد في فهم هذه الآية. ونتيجة الغفلة أو الجهل بهذه الأصول حمل لفظ الركون هنا، كما حملت الآية ما لا يحتملان.

 

 فاعتبر مجرد المطالبة بحق من الحقوق القانونية المشروعة ركوناً إلى الظالمين، واعتبر مجرد إرسال رسالة توضيح أو القيام بزيارة لدفع ضرر أو جلب منفعة ركونا إلى الظالمين، وفصلت كل هذه الأمور عن ملابستها وظروفها وعن الأهداف والمقاصد المرتبطة بها، مع أن المنهي عنه في الآية هو الميل القلبي إلى الظالمين ومحبتهم ومساعدتهم في ظلمهم، أما غير ذلك فهو إما مباح وإما مستحب أو واجب إن رجحت منفعته ومصلحته للمسلمين ولدعوة الإسلام".

 

خامساً: خطاب تفاؤلي يبعث الأمل:

وهذا الملمح شرعي يجب أن يتسم به المؤمنون خاصة وقت المحن والشدائد وقد كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحب الفأل الحسن ويكره الطيرة، وفي رواية يعجبه الفأل الحسن ويكره الطيرة.

 

 وعن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يحلب لنا فقام رجل من بني سليم فقال:  أنا يا رسول الله فقال: من هذا المتكلم ؟ فقال: أنا المساور قال اجلس ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يحلب لنا فقام رجل آخر من بني سليم فقال: أنا يا رسول الله فقال من المتكلم؟ فقال أنا خداش فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال  اجلس فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله أتكلم أم أصمت فقال : بل  اصمت وأخبرك بما أردت فقال فأخبرني يا رسول الله قال ظننت يا عمر أنها طيرة قال: لا طير إلا طيره ولا خير إلا خيره ولكني أحب الفأل الحسن". 

 

وقد تفاءل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبشر في أحلك الظروف وأشد الأوقات  من هذا، قال البراء -رضي الله عنه-: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاءه وأخذ المعول فقال : "بسم الله"، ثم ضرب ضربة، وقال : "الله أكبر" أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة"، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: "الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن"، ثم ضرب الثالثة، فقال: "بسم الله"، فقطع بقية الحجر، فقال : "الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني".

 

واليوم هناك مخاوف في القلوب حول مصير الثورة ومكتسباتها وهناك حرب نفسية خفية وعلنية تسرب فيها أخبار من هنا أو هناك لإحباط الجانب المعنوي لدى الناس ليشعروا أن الإسلام لا مكان له في الدولة الجديدة، وأن النخب لا تقبل المشروع الإسلامي وهكذا، فلابد من بث روح التفاؤل وربط القضية بالإيمان وبموعود الله تعالى وسوق المبشرات دائما بنصرة الحق وأهله مع إبراز دور المؤمنين في الحركة والتغيير.

 

سادساً: خطاب مربي ويعيد بناء الشخصية المسلمة:

وهذه النقطة من أهم النقاط التي أود طرحها والتأكيد عليها، وأود أن تأخذ عناية خاصة من الجميع، والمقصود بها: أن النظام البائد قد عمل بكل الوسائل على مسخ الشخصية المسلمة وتخريبها وتفريغها من القيم، وشغلها بسفاسف الأمور، فأعلى شأن الفنون الهابطة، وألهى الجماهير بالمباريات الرياضية،  وفتح جميع أبواب الشهوات الحرام، وتوازى مع ذلك كله التضييق السافر على الدعاة وجميع أبواب الخير في المجتمع،  صحب هذا كله التجهيل بالإسلام والتخويف منه ومن دعاته فانتشرت الجريمة وتساقطت الأخلاق وفرغت الشخصية المسلمة من دينها حتى لا تنشغل بتلك المظالم والمفاسد التي تحيط بها من كل مكان.

 

وهذه جملة من الإحصاءات تدل على المستوى الذي وصلت إليه الشخصية المسلمة والمجتمع المسلم:

•مثلا في تونس أن 70% من الشباب التونسي قد مارس الزنا.

 

•وفي مصر يوجد 2مليون لقيط.

 

•567حالة تعذيب مات منها 167في السنوات الخمس الأخيرة، ولا شك أن هذه التصرفات تدمير للإنسان.

 

•الفشل الاجتماعي المتمثل في 3,5مليون دعوي قضائية بين الجيران، 35مليون قضية أمام القضاء.

 

•أكثر من 40 مليون تحرق يومياً في التدخين.

•2355حالة انتحار 19%حالات القتل الأسري من الإجمالي العام لحالات القتل عن عام 2006م.

 

•حالات بلغت 33% العنوسة 9ملايين فتيات وفتيان.

 

•هروب 5ملايين مصري إلى الخارج منهم 82ألف عامل.

 

• وحالات الزواج العرفي تقدر بالملايين.

 

• وانتشار المخدرات لدرجة أن بعض القرى يوجد سوق علني يفرش الباعة فيه بضاعتهم من البانجو وغيره من العصر.

 

•كما انتشر زنى المحارم وغيره، مما يشير إلى تدهور كبير في طبقات وشرائح ليست بالقليلة في المجتمع،  فلابد من إعادة بناء الشخصية المسلمة من جديد بناء روحياً بإحياء العقيدة وبث معانيها من جديد؛ ليتوجه الناس نحو خالقهم فيعبدونه خوفاً ورجاءً، وبالعبادة الصحيحة الحية التي تنعكس آثارها في الحياة، وبالفكر الصحيح الناضج النابع من الإسلام وهديه، وبالأخلاق الفاضلة التي تنضبط بها حركة الحياة العملية، وبنشر القيم العليا كالعلم والإتقان والانضباط والإيجابية والإيثار وإيثار المصلحة العامة على المصالح الشخصية، ولا شك أن هذا مشوار طويل يحتاج إلى جيوش من الدعاة والمربين وعلماء النفس والمصلحين، كم يحتاج إلى وسائل متعددة إعلامية وتعليمية وتربوية , يصحب ذلك كله صبر وطول نفس.

 

إن التربية وإعادة صياغة الشخصية المسلمة من جديد لهي الضمان بإذن الله -تعالى- في إيجاد مجتمع صالح وكما قال الإمام البنا -رحمه الله-:  "إذا وجد المؤمن الصحيح وجدت معه أسباب النجاح جميعا".

 

إننا نحاول اليوم هدم آثار الجاهلية في الأنفس والقلوب والأفكار والقوانين والنظم وكافة مرافق الحياة ليخلص بعد ذلك إلى الإسلام وإلى الحياة الإسلامية بطهارة ونقاء وحب.

 

سابعاً: خطاب يركز على الأولويات:

من المعلوم أن الإسلام جاء بفقه اشتهر بفقه الأولويات ومراتب الأمور والأحكام، ولسنا بصدد التأصيل الشرعي لهذه القضية فليس هذا موضع الحديث في هذا الموضوع، والعقلاء في كل عصر ومصر يرتبون أمورهم وفق الأهم فالأهم، ومن فقه الأولويات معرفة طبيعة كل مرحلة وما يلزم فيها، ومرحلتنا الجديدة تستحق دراسة واعية متأنية في هذا الموضوع.

 

ومن أولويات المرحلة القادمة فيما أتصور:

-إعادة بناء الشخصية المسلمة على ضوء ما ذكرنا آنفاً.

 

-رد الشبهات حول العمل الإسلامي والإسلاميين.

 

-تفهيم الناس فلسفة الحكم الإسلامي وموقف الإسلام من القضايا الشائكة التي طرحت فقط من قبل النظام كقضية الأقباط والمواطنة وتطبيق الشريعة والتعددية وغير ذلك مما يعتبر الفهم الخاطئ له عقبة في الطريق نحو الإسلام.

 

-التركيز على ثقافة حقوق الإنسان وضرورة السعي لتحصيلها.

 

-العمل العام بكل أشكاله.

 

-العناية بمن حولنا من الدعاة والوعاظ والأئمة التي لا يولون مثل هذه القضايا اهتماما حيث لا يزالون على قديمهم.

 

-التركيز على الوصول لكل شرائح المجتمع التي ليس من عادة الدعاة التفكير فيها والوصول إليها، فهناك طبقات الفنانين والعمال والشباب الذي لا يعرفون المساجد وكثير من السياسيين وغيرهم.

 

ثامناً: خطاب يتبنى هموم الأمة:

إن النظام السابق أهمل عموم الناس وفي نفس الوقت خدرهم بشعارات حماية الفقراء والعناية بمحدودي الدخل، ولم يفعل من ذلك شيئا اللهم إلا مزيدا من الظلم والسحق، وقد أجمع المؤرخون وعلماء الاجتماع أن من محركات الحياة الأساسية التي يستغلها الساسة ويلعبون بها وعليها هذه الطبقات التي أشرت إليها، فعلينا نحن الدعاة أن نحسن خدمة هؤلاء الناس ونتبنى همومهم وعندنا طريقان أو مساران في هذا الجانب:

-الطريق النظري الذي يرفع من معنوياتهم ويصبرهم ويقترح عليهم حلولا إسلامية، ويربيهم إيمانياً حتى لا تتحول مشاعرهم إلى تخريب أو تنصرف في طريق السلبية.

 

-الطريق العملي وهو تقديم خدمات من أفرادنا أطباء وأغنياء وأصحاب أعمال.

 

-تفعيل أهل الخير ليسهموا معنا في مشروعات تخدم هؤلاء الناس لينحازوا للمشروع الإسلامي.

 

وهذا الأمر لابد من عقد حلقات وورش عمل للتفكير في وسائل تنفيذه وتفعيله.

 

تاسعاً: خطاب يفجر طاقات الناس ويستثمرها:

 

إن الخطاب الدعوي اليوم لابد أن يوجه الناس نحو استثمار طاقاتهم, في البناء الجديد، فكل صاحب موهبة أو مهارة أو مال لابد أن يعمل لعصر جديد يحتاج  إلى كل الطاقات والقدرات والإمكانات  لقد وُلد الانتماء للوطن من جديد بعد أن فقده الناس، فأهملوا في كل شيء لأنهم لم يروا يومئذ مستقبلاً لأي جهد يبذلونه ولا نتيجة لأي عمل يقدمونه، إن على الدعاة تفعيل أصحاب المواهب والقدرات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات