المنهج الأمثل لخطبة الجمعة

صالح بن عبد الله بن حميد

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

الدعوة إلى التجديد والتحديث والبعد عن المكرور، لا يغير من الحقيقة الثابتة شيئًا، وهي أن حياة الناس وأحوالهم في كل زمان ومكان صورة واحدة؛ من تصارع الغرائز، واضطراب النفوس، وغليان الأحقاد، وفي مقابل ذلك تلقي أحوالاً من البرود والانصراف والغفلة وعدم المبالاة. والخطيب عليه أن يُهَدِّئ الثائر، ويبعث الفاتر، يطفئ ثورة الغريزة ويخفض حدة الأحقاد، ويشيع روح المودة، ويبث الإخلاص والتعاون..

 

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، وبعد:

 

فإن الخطيب والواعظ له دور كبير وأثر بالغ في بيئته ومجتمعه وسامعيه وقومه، فهو قرين المربي والمعلم، ورجل الحسبة والموجّه، وبقدر إحسانه وإخلاصه يتبوأ من قلوب الناس مكانًا، ويضع اللَّه له قبولاً قد لا يزاحمه فيه أصحاب الوجاهات ولا يدانيه فيه ذوو المقامات، ومردُّ ذلك إلى حسن الإجادة، وجودة الإفادة والقدرة على التأثير المكسو بلباس التقوى والمُدَثَّر بدثار الإخلاص والورع.

وهذه كلمات في النموذج الأمثل في إعداد الخطبة وصفات الخطيب، وقد حرصت أن تكون شاملة لخصائص الخطيب والخطبة ووجوه التأثير في الخطبة وإحسان إعدادها مقدمًا لذلك بمقدمة في مهمة الخطيب الشاقة وتعريف الخطبة وأنواعها وبيان أثرها.

 

الاستعداد الكافي للخطيب:

مهمة الخطيب مهمة شاقة ولا ريب، مشقة تحتم عليه أن يستعد الاستعداد الكافي في صواب الفكر وحسن التعبير وطلاقة اللسان وجودة الإلقاء.

 

مطلوب من الخطيب أن يُحَدِّثَ الناس بما يمسُّ حياتهم ولا ينقطع عن ماضيهم، ويردهم إلى قواعد الدين ومبادئه، يبصرهم بحكمه وأحكامه برفق ويُعرفهم آثار التقوى والصلاح في الآخرة والأولى، مهمته البعد عن المعاني المكرورة وجالبات الملل.

 

الدعوة إلى التجديد والتحديث والبعد عن المكرور، لا يغير من الحقيقة الثابتة شيئًا، وهي أن حياة الناس وأحوالهم في كل زمان ومكان صورة واحدة؛ من تصارع الغرائز، واضطراب النفوس، وغليان الأحقاد، وفي مقابل ذلك تلقي أحوالاً من البرود والانصراف والغفلة وعدم المبالاة.

 

والخطيب عليه أن يُهَدِّئ الثائر، ويبعث الفاتر، يطفئ ثورة الغريزة ويخفض حدة الأحقاد، ويشيع روح المودة، ويبث الإخلاص والتعاون.

 

نعم إن حياة الناس صورة معادة وتغيرات متناوبة، فأحداث اليوم هي أحداث الأمس، والبواعث والمثيرات في الماضي هي ذاتها في الحاضر.

 

فإنسان الغابة هو إنسان المدنيَّة، غير أن الأول يحارب بحجر والثاني يرمي بقنبلة، والأول قد يقتل واحدًا أو اثنين، والثاني يقتل عشرات ومئات، القوي في الغابة يستولي على مرعى أو بئر، أما قوي المدنية فيستولي على قطر بأكمله، ويأكل قوت شعب بجملته، وشعوب برمتها ويستبدّ بمصادر طاقة، وموارد حياة مصيرية.

 

إذا كان ذلك كذلك فكيف يكون الحال لو نجح الدعاة المصلحون في تهذيب الغرائز والتسامي بها.

 

إنَّ خطيب المسجد وواعظ الجماعة أشد فاعلية في نفوس الجماهير من أي جهاز من أجهزة التوجيه والحكم في المجتمع سواء أكان واليًا أو رجل عسكر أو حارس أمن، إن الجمهور قد يهابون أمثال هؤلاء لكنهم قد لا يحبونهم، أما الخطيب بلسانه ورقة جنانه وتجرده، يقتلع جذور الشر في نفس المجرم ويبعث في نفسه خشية اللَّه، وحب الحق، وقبول العدل، ومعاونة الناس، إن عمله إصلاح الضمائر، وإيقاظ العواطف النبيلة في نفوس الأمة، وبناء الضمائر الحية، وتربية النفوس العالية في عمل خالص وجهد متجرد، يرجو ثواب اللَّه ويروم نفع الناس.

 

ومن هذا فإنك ترى أن أداء الخطيب عمله على وجهه يكسوه بهاءً وبِشْرًا، ويرفعه إلى مكان عليّ عند الناس.

 

ولتعلم أن هذا ليس إطراءً ولا مديحًا، ولكنه تنبيه إلى شرف العمل ومشقته وعظم مسئوليته وثقل رسالته، وما تتطلبه من حسن استعداد وشعور صادق بالمسئولية.

وكيف لا يكون ذلك وهذه هي رسالة الأنبياء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ولا غرابة أن يصادف إيذاءً وعداءً، وحسبه أن يكون مقبولاً عند اللَّه والصفوة من عباد اللَّه.

 

مدخل:

لا يقصد من الكتابة عن الخطابة وأسسها ومبادئها وآدابها، أن تكون مادة ليدرسها الدارس لتجعل منه خطيبًا مفوَّها ومتحدثًا مصقعًا، إن الكتابة والأبحاث والمناهج لا تجعل من العييّ فصيحًا ولا اللسان المعقود طليقًا، ولكن هذه الكتابات والدراسات والبحوث نبراس ومنار يضيء لصاحب المواهب والاستعداد مشعلاً ينمي الموهبة ومصباحًا ينير السبيل فلا يكون حاطب ليل.

 

هذه الكتابات والبحوث يتكون منها علم ينير الطريق ولا يحمل على السلوك، يرشد إلى الدرب ولا يقسر على السير.

وأنت خبير بأن السراج المنير لا يستفيد منه غير البصير، أما ذو الرمد فغير منتفع، ويكفيك إشارة بأن الكاتب في علم الاقتصاد والعالم في أسسه وقواعده قد يكون أقل الناس مالاً وأضعفهم موردًا.

 

تعريف الخطبة:

الخطبة: بضم الخاء كلام منثور مسجوع ومرسل، أو مزدوج بينهما غايته التأثير والإقناع.

ويقصد بها هنا الخُطب التي تلقى على المنابر يوم الجمعة، بقصد حمل الناس على الخير، وترغيبهم فيه، وصرفهم عن الشر ودواعيه، وتبصيرهم بأحوالهم وواقع أمرهم حسب ما يقتضيه أمر الشرع.

والخطبة من جانب الخطيب مقدرة على التصرف في فنون الكلم، مرماها التأثير في نفس السامع ومخاطبة وجدانه.

 

أغراضها:

الدعوة إلى الصلاح والإصلاح، والاستمساك بأمور الشريعة، وإقامة الحق والعدل، ونشر الفضائل، وتسكين الفتن، وفضّ المشكلات، وتهدئة النفوس الثائرة، وإثارة النفوس الفاترة، ترفع الحق، وتخفض الباطل، هي صوت المظلومين، وواعظ الظالمين، ولسان الهداية، ولقد نادى موسى -عليه السلام- ربه: (قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي [طه: 25- 28]، فجاء الجواب الرباني: قد أوتيت سؤلك يا موسى) [طه: 36].

 

والغرض هنا الإشارات إلى مجمل الأغراض، وسوف يُزاد الأمر بيانًا من خلال الحديث عن أنواع الخطب وخصائص الخطب المنبرية، والفقرة التالية في أثر الخطبة تعطي مزيد بسط في المقصود.

 

أثرها:

لا يكاد ينجح صاحب فكرة، أو ينتصر ذو حق، أو يفوز داعية إصلاح إلا بالكلمة البليغة، والحجة الظاهرة، والخطبة الباهرة.

الخطيب المفوّه يلحق بحجته، ويسبق إلى غايته، فيعلو سلطانه، ويتسع ميدانه.

 

ولهذا فإنّ القائد المحنّك في الجيش يتميز فيما يتميز بذرابة لسانه وحسن خطابه، فيكون خطيبًا مصقعًا ولسنًا مفهوهًا، ولا يُذكر حين يُذكر إلا منذر الجيش نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن بعده خطباء أصحابه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم من بعدهم من صالح سلف الأمة وأئمتها ممن عَلَوْا المنابر فأصغت لهم الآذان ودانت لهم الرقاب.

 

ولئن كانت الخطبة في بعض مساراتها طريقًا للمجد الشخصي في نيل غايتها وعظيم أثرها فإنها طريق للنفع العام والإصلاح الشامل.

 

والخطابة مظهر حضاري للمجتمع الراقي المستنير، يعلو قدرها، ويروج سوقها برقي المجتمع، وانتشار الثقافة فيه، كما أنها تخبو حين ضعفه وذلته.

 

وثمت جانب في التأثير آخر ينبغي مراعاته، وهو أن تأثير الخطيب في سامعيه ليس بالإلزام أو الإفحام، بل مردّه إلى إثارة العاطفة، وحمل السامع على الإذعان والتسليم، ولا يكون ذلك بالدلائل المنطقية تُساق جافة، ولا بالبراهين العقلية تقدم عارية، ولكنه بإثارة العاطفة ومخاطبة الوجدان.

 

ومن هنا فإنَّ الخطيب قد يستغني عن الدلائل العقلية ولكنه لا يمكن أن يستغني عن المثيرات العاطفية، ولعلك تدرك أن أكثر ما يعتمد عليه الخطيب في حمل السامعين على المراد مخاطبة وجدانهم والتأثير في عواطفهم.

 

إنّ الخطيب المرموق -كما هو معلوم- يأخذ سامعيه باستدراجه اللبق وكلماته الساحرة وصوته العذب المتردد انخفاضًا وارتفاعًا وإثارة وهدوءًا يُنشئ جوًا عاطفيًا مشحونًا، وهذا معين في التأثير لا ينضب ولا يُملّ.

أما البراهين العقلية فجافة تجلب السآمة.

وحينما يذكر خطاب العاطفة وأثرها فلا يخطر بالبال أن ذلك يعني دغدغة العواطف بالكذب والتزييف، ومخالفة الأقوال للأفعال، فهذا حبله قصير بل ضعيف واهٍ، وهذا ما سيبدو موضحًا في صفات الخطيب إن شاء اللَّه تعالى.

 

أنواع الخطبة:

الناظر في أغراض الخطبة ومقاصدها ومتطلبات المجتمع من ذلك يستطيع إدراك أنواعها، وهذا سردٌ لأهم أنواعها:

1- الخطب النيابية، وهي الخطب التي تكون في دور النيابة والشورى عاكسة ما يجري داخل هذه القاعات من مناقشات ومداولات وأسئلة واستجوابات مؤيدة ومعارضة.

 

2- الخطب الانتخابية، وهي خطب تعد وتلقى من أجل الترشيح والتزكية لشخص أو حزب أو مبادئ، مع ما يشتمل عليه ذلك من رد على المعارضين.

 

3- الخطب الثقافية: وهي ما يلقى في النوادي الثقافية والأنشطة العلمية والجامعية وهي في العادة تتخذ مسارًا ثقافيًا وأدبيًا وعلميًا واجتماعيًا وتوجيهيًا بما يبتعد عن الأغراض السياسية والقضائية والوعظ، وتعلو النبرة فيها بما يعرف بالمعارك الأدبية بين المنتدبين حسب اتجاهاتهم الأدبية، شعرًا ونثرًا وتليدًا وجديدًا وهي في العادة خطب لطبقة مثقفة متأدبة ذات تميز ثقافي خاص.

 

4- الخطب القضائية، ويظهر هذا النوع في دور القضاء وقاعات المحاكم، حين ينبري المدعون بإلقاء حججهم والسعي في إثبات دعواهم، فيقابلهم المحامون بالدفاع عن موكليهم بأسلوب خطابي بليغ مؤثر ذي ألفاظ منتقاة وإلقاء متميز وحركات مدروسة.

 

5- الخطب العسكرية: وهي ما يلقيه قائد العسكر على جنده وزملائه بغرض بث الروح المعنوية والقتالية فيهم وبيان شرف موقعهم وكرم موقفهم وشرح خططه العسكرية والميدانية بأسلوب انفعالي مؤثر.

 

6- خطب المنبر والمواعظ: وهذا هو محل البحث والنظر والتفصيل هنا، وهذا النوع يتجلى في أبهى صوره وكامل هيئته وانتظام شكله في خطب الجمعة المنبرية، وهي خطب أسبوعية دورية تتخذ أغراضًا عدة وترمي إلى مقاصد متنوعة، نشير في هذا التعريف إلى نماذج منها، إذ من المعلوم أن هذه المقاصد والأغراض تتجدد وتتنوع حسب حاجات الناس وتغير الأحوال وتقلب الظروف ودواعي التذكير.

 

أغراض الخطب المنبرية:

من هذه الأغراض:

أ- تثبيت العقيدة وتقوية الإيمان.

 

ب- الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وبيان مزاياه.

 

جـ- خطب الإصلاح ومحاربة المنكرات.

 

د- خطب ذات موضوع خاص أو مسألة مفردة من مسائل الإسلام كالصلاة والصوم وحقوق الوالدين والجوار وحرمة الزنا والخمر والسرقة ونحو ذلك، مما مقصده التذكير والوعظ والتعليم، ونحو ذلك.

 

هـ- معالجة القضايا المستجدة بنظرة شرعية.

 

7- أنواع أخرى من الخطب: الأنواع السابقة ليست أنواعًا حاصرة ولكنها تشير إلى الأنواع البارزة السائدة المتميزة في موضوعاتها ومقاصدها، وثمت أنواع أخرى للخطبة غير شهيرة ذات موضوعات ومقاصد أخرى، كخطب النكاح والصلح والمدائح والمراثي والمناسبات الاجتماعية والمحافل الشعبية.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات