الدعاة وإشكالية الحوار المعاصرة (2-2)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وإنّ من التحسس الدقيق والنصح الصادق للنفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف انتصارِ ذاتٍ وهوى. ويدخل في باب الإخلاص والتجرد توطين النفس على الرضا والارتياح إذا ظهر الحق على لسان الآخر ورأيه، ويعينه على ذلك أن يستيقن أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكاً لواحد أو طائفة، والصواب ليس حكراً على واحد بعينه. فهمُّ المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان، ومن أيّ مكان، ومن أيّ وعاء، وعلى أيّ فم. .

 

 

 

أخانا القارئ الكريم: كنا قد توقفنا عند النقطة الرابعة في المقال "الدعاة وإشكالية الحوار المعاصرة (1-2)، وفي هذا المقال نذكر ما تبقى من النقاط.

 

خامساً: كيف يكون الحوار مثمراً؟

 

كثيرٌ من الحوارات المعاصرة توصف بأنها حوارات الطرشان، فكل طرف لا يريد الاستماع للطرف الآخر أو إعطاء نفسه وعقله مهلة ليستوعب ما يقوله الطرف الآخر، فالكثيرون يدخلون الحوارات بقناعات مسبقة، وآراء مقلوبة لا تحتمل التغيير أو المناقشة. كذلك الطرف الآخر من الحوار يريد فرض آرائه بصورة العرض، ولا يحتمل صدره مناقشة أو مراجعة لهذه الآراء، فهو يلقيها كأنه وحي يريد من الجميع الإذعان لها، ومن ثم كان الحوار في كثيرٍ من الأحيان مضيعةً للوقت والجهد ومجلبًة للعداء والخلاف. لذلك كان يجب على كل من دخل طرفاً في حوار أن يستحضر مجموعة من الآداب والصفات التي يتحلى بها من أجل الوصول إلى حوار بناء مثمر، ومن أبرز هذه الصفات:

 

حسن العرض وجودة الإلقاء وسلاسة الموضوع، والإعداد الجيد له، مع الإخلاص والرغبة في الوصول إلى الحق، والانقياد والإذعان للمصيب ولو كان خصماً، والتواضع وحسن الخلق ولكن هذه الخصال الحميدة وأخلاق الحوار الجيدة لا تكفي وحدها إلا إذا خلا الحوار من العديد من الآفات الخطيرة التي تتهدد جدوى هذا الحوار من أبرزها:

 

-رفع الصوت، فيرى البعض أن انتصاره في الحوار لن يكون إلا عن طريق مبالغته في رفع الصوت على خصمه، والله -تعالى –يقول: (إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)، [لقمان:19]. وأيضاً أخذ زمام الحديث بالقوة، بحيث لا تدع للخصم فرصةً يتحدث فيها. ومنها تهويل قول الطرف الآخر، فالبعض يهوِّلون أقوال الآخرين، ويحمِّلون كلامهم من الضخامة ما لا يخطر إلا في نفوس مرضى القلوب، فيقول مثلاً: هذا القول كفر، وهذا فسق، وهذا بدعة، وهذا خرق للإجماع، وهذا مصادمة للنصوص الشرعية، وهذا اتهام للعلماء، وهذا قول حادث باطل لم يسبق إليه، ويظل يهوِّل ويطول ويضخم العبارات، بحيث يشعر السامع أنه قول خطير، يجب البعد عنه، وعدم التورط في قبوله، أو الاقتناع بحجة من تكلم به.

 

سادساً: آداب الحوار:

 

أولاً: الإخلاص، فليس المقصود من الحوار العلو في الأرض، ولا الفساد، ولا الانتصار للنفس، ولكن المقصود الوصول إلى الحق، والله –تعالى وحده -يعلم من قلب المحاور ما إن كان يهدف إلى ذلك أم يهدف إلى الانتصار، والتحدث في المجالس أنه أفحم خصمه بالحجة، فضع في اعتبارك أنه يحتمل أن يكون الخطأ عندك والصواب عند غيرك، فالله -تعالى-لم يحابك، ويختصك دون بقية خلقه بالعلم والفهم والإدراك والعقل، فإذا كان عندك حق، فعند غيرك حق، وقد يكون عندك حق كثير، وعنده حق قليل، وقد يكون العكس. فعلى المسلم أن يطلب الحق بحسن نية، وألا يكون هدفه وهو يسمع كلام خصمه أن يرد عليه متى سكت؛ بل هدفه الوصول إلى الحقيقة، ولهذا كان الإمام الشافعي -رحمه الله -يقول: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويُسدَّد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه".

 

وإنّ من التحسس الدقيق والنصح الصادق للنفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف انتصارِ ذاتٍ وهوى. ويدخل في باب الإخلاص والتجرد توطين النفس على الرضا والارتياح إذا ظهر الحق على لسان الآخر ورأيه، ويعينه على ذلك أن يستيقن أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكاً لواحد أو طائفة، والصواب ليس حكراً على واحد بعينه. فهمُّ المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان، ومن أيّ مكان، ومن أيّ وعاء، وعلى أيّ فم. وإن من الخطأ البيِّن في هذا الباب أن تظن أنّ الحق لا يغار عليه إلا أنت، ولا يحبه إلا أنت، ولا يدافع عنه إلا أنت، ولا يتبناه إلا أنت، ولا يخلص له إلا أنت. ومن الجميل، وغاية النبل، والصدق الصادق مع النفس، وقوة الإرادة، وعمق الإخلاص، أن تُوقِفَ الحوار إذا وجدْت نفسك قد تغير مسارها ودخلتْ في مسارب اللجج والخصام، ومدخولات النوايا.

 

ثانياً: الإصغاء الجيد، الإصغاء إلى الآخرين فن قَلَّ من يجيده، فأكثرنا يجيد الحديث أكثر من الاستماع، والله -سبحانه وتعالى- جعل لك لسانًا واحدًا، وجعل لك أذنين حتى تسمع أكثر مما تتكلم، فلابد أن تستمع جيدًا، وأن تستوعب جيدًا ما يقوله الآخرون، وحسن الاستماع والاهتمام بما يقول الطرف الآخر ربما كان دليلاً على قوتك، وقدرتك على الحوار، وفهمك لمرامي الكلام، وهكذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فربما تحدَّث معه بعض المشركين بكلام لا يستحق أن يُسمع، فيصغي النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى إذا انتهى هذا الرجل وفرغ من كلامه، قال له -صلى الله عليه وسلم-: "أوقد فرغت يا أبا الوليد؟". قال: نعم. فتكلَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء من القرآن، فاستمع له المشرك رغم رفضه وإنكاره لما يقوله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكن أدب الاستماع عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألزمه أن يقابله بأدب مثله. قال الحسن بن علي لابنه، -رضي الله عنهم- أجمعين: "يا بنيّ إذا جالست العلماء، فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلًم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع على أحد حديثاً –وإن طال– حتى يُمسك". وقال ابن المقفع الأديب: "تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع: "إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول".

 

ثالثاً: تجنب التحدي والبعد عن الجدال العقيم، فإن من أهم ما يتوجه إليه المُحاور في حوار، التزام الحُسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن)[الإسراء:53]، وقوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن)[النحل:125]، فحق العاقل اللبيب طالب الحق، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز، ويلحق بهذا الأمر تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث، وتعمد إيقاع الخصم في الإحراج، ولو كانت الحجة بينه والدليل دامغاً، فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف. وقد تُفْحِم الخصم ولكنك لا تقنعه، وقد تُسْكِته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه، وأسلوب التحدي يمنع التسليم، ولو وُجِدَت القناعة العقلية. والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء واستكفاء الإناء. على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام، وإسكات الطرف الآخر، وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد، وطغى وظلم وعادى الحق، وكابر مكابرة بيِّنة، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)[العنكبوت:46]، وقوله: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم)[النساء:148]، ففي حالات الظلم والبغي والتجاوز، قد يُسمح بالهجوم الحادّ المركز على الخصم وإحراجه، وتسفيه رأيه؛ لأنه يمثل الباطل، وحَسَنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً.

 

رابعاً: احترام الخصم، ينبغي في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف، وإعطاء كل ذي حق حقه، والاعتراف بمنزلته ومقامه، فيخاطب بالعبارات اللائقة، والألقاب المستحقة، والأساليب المهذبة، فإن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق، والبعد عن الهوى، والانتصار للنفس. أما انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر مَعيب مُحرّم. وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام، لا ينافي النصح، وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة وطرقه الوقورة. فالتقدير والاحترام غير المَلَقِ الرخيص، والنفاق المرذول، والمدح الكاذب، والإقرار على الباطل، ومما يتعلق بهذه الخصلة الأدبية أن يتوجه النظر وينصرف الفكر إلى القضية المطروحة؛ ليتم تناولها بالبحث والتحليل والنقد والإثبات والنَّقص بعيداً عن صاحبها أو قائلها، كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية، طابعها الطعن والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشات التصرفات، والأشخاص، والشهادات، والمؤهلات والسير الذاتية. كما لا بد من الإشارة إلى ما ينبغي من العبد من استخدام ضمير المتكلم أفراداً أو جمعاً، فلا يقول: فعلتُ وقلتُ، وفي رأيي، ودَرَسْنا، وفي تجربتنا، فهذا ثقيل في نفوس المتابعين، وهو عنوان على الإعجاب بالنفس، وقد يؤثر على الإخلاص وحسن القصد، والناس تشمئز من المتعالم المتعالي، ومن اللائق أن يبدلها بضمير الغيبة فيقول: يبدو للدارس، وتدل تجارب العاملين، ويقول المختصون، وفي رأي أهل الشأن، ونحو ذلك. وإن من غاية الأدب واللباقة في القول وإدارة الحوار ألا يفترض في صاحبه الذكاء المفرط، فيكلمه بعبارات مختزلة، وإشارات بعيدة، ومن ثم فلا يفهم. كما لا يفترض فيه الغباء والسذاجة، أو الجهل المطبق، فيبالغ في شرح مالا يحتاج إلى شرح وتبسيط مالا يحتاج إلى بسط، ولا شك أن الناس بين ذلك درجات في عقولهم وأفهامهم، فهذا عقله متسع بنفس رَحْبة، وهذا ضيق العَطَنْ، وآخر يميل إلى الأحوط في جانب التضييق، وآخر يميل إلى التوسيع، وهذه العقليات والمدارك تؤثر في فهم ما يقال.  فنحن مأمورون أن نُنزل الناس منازلهم، وألا نبخس الناس أشياءهم.

 

فيا أخي المسلم الداعية، ليس النجاح في الحوار والمناظرة مرهونًا بإسقاطك لشخصية الطرف الآخر الذي تناظره، ولا إسقاطك لشخصيته يعني أنك نجحت في المناظرة؛ بل ربما يرتد الأمر عليك، ويكون هذا دليلاً على إفلاسك وعجزك، وأنك لا تملك الحجة، فاشتغلت بالمتكلِّم عن الكلام. ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم:"ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء "، فالمؤمن ليس باللعان، ولا بالطعان في الناس وأعراضهم، ونياتهم ومقاصدهم وأحوالهم، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء. وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه - أنه قال: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا "، فهذا حال النبي -صلى الله عليه وسلم- وصفته، وهذا كلامه في وصف المؤمن، أنه لا يحب الفحش ولا التفحش.

 

ومن بديع احترام رأي الآخرين، ما ينقل عن الإمام مالك: أنه لمـَّا ألَّف الموطأ، ومكث أربعين سنة يؤلفه، وقرئ عليه آلاف المرات، وعرضه على سبعين من العلماء فأقروه عليه، وتعب فيه أيما تعب، ومع ذلك لمـَّا بلغ الخليفة المنصور كتاب مالك وأعجبه، وقال: إنا نريد أن نعممه على الأمصار، ونأمرهم باتباعه، قال له الإمام مالك: "لا تفعل -رحمك الله- فإن الناس سبقت منهم أقاويل، وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وما أتوا به، وعملوا بذلك ودانوا به وكل ذلك من اختلاف أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ثم من بعدهم من التابعين، ورد الناس عما اعتقدوه ودانوا به أمر صعب شديد، فدع الناس وما هم عليه، ودع أهل كل بلد وما اختاروا لأنفسهم".

 

خامساً: البدء بالمسلمات، فمن المصلحة ألا تبدأ الحوار بقضية مختلف فيها؛ بل ابدأ بموضوع متفق عليه، أوبقاعدة كلية مسلَّمة أو بدهية، وتدرج منها إلى ما يشبهها أو يقاربها، ثم إلى مواضع الخلاف. فإنّ بِدْءَ الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة وفُشُوِّ روح التفاهم. ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً، والحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال، مما يقلّل الجفوة ويردم الهُوَّة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد. والحال ينعكس لو استفتح المُتحاورون بنقاط الخلاف وموارد النزاع، فلذلك يجعل ميدان الحوار ضيقاً وأمده قصيراً، ومن ثم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر، ويحمل كل طرف على التحفُّز في الرد على صاحبه مُتتبِّعاً لثغراته وزَلاته، ومن ثم ينبري لإبرازها وتضخيمها، ومن ثم يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في تحقيق الهدف. ويُعين على هذا المسلك ويقود إليه، إشعارك مُحدثَّك بمشاركتك له في بعض قناعاته، والتصريح بالإعجاب بأفكاره الصحيحة وأدلته الجيدة ومعلوماته المفيدة، وإعلان الرضا والتسليم بها. وهذا كما سبق يفتح القلوب ويُقارب الآراء، وتسود معه روح الموضوعية والتجرد.

 

سادساً: ترك التعصب، فالتعصب هو آفة العصر، وسبب كثير من الإحن المشتعلة داخل الصف المسلم، وكثيرٌ من الصراعات الدائرة على الساحة الدعوية اليوم ترجع لأصل التعصب والانتصار للنفس وليس للحق، وما أعز وأصعب وأندر أن يتخلص الإنسان من التعصب بكل صوره، فإن الحزبيات قد أثَّرت في المسلمين تأثيرًا كبيرًا جدًّا. فقد يتعصب الإنسان لمذهب أو لوطن، أو قبيلة، أو لدعوة، أو لجماعة، فهذا ما يُسمى بالحزبية، بحيث يحيط هذا الشيء بعقله ويتحكم في تصرفاته وقراراته وحتى اختياراته العلمية والفقهية والسياسية. يقول الغزالي:" إن التعصّب من آفات علماء السوء، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه. ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة، لا في معرض التعصب والتحقير؛ لأنجحوا فيه، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم".

 

سابعاً: الموضوعية، والموضوعية بصفة عامة هي رعاية الموضوع، وعدم الخروج عنه، غير أن الموضوعية لها معان كثيرة حري بكل داعية ومحاور أن يعرفها، من أبرزها:

 

1-عدم الهروب من الموضوع الأساسي إلى غيره. إن بعض الناس إذا أحرجته في موضوع هرب منه إلى موضوع آخر، فهو ينتقل من موضوع إلى موضوع، وكلما أُحرج في نقطة انسحب منها إلى غيرها، ونقل الحديث نقلة بعيدة أو قريبة. ولعل أشهر رسالة ألفت للرد على المعتزلة هي رسالة (الحيدة) للإمام عبد العزيز الكناني الشافعي الذي أفحم بها رأس المعتزلة بشر المريسي، وألزمه الهروب من الحوار، فسميت المناظرة بينهما بالحيدة؛ لأن بشر المريسي المعتزلي حاد عن موضوع المناظرة وهرب منها.

 

2-عدم إدخال موضوع في آخر، فقد تتكلم مع إنسان في قضية حجاب المرأة المسلمة، وضرورة التزامها بالستر، وبُعدها عن السفور، وعن الاختلاط بالرجال الأجانب، أو الذهاب إلى أماكن اللهو والفساد وغير ذلك، فتجد أنه بدلاً من أن يناقشك في هذا الموضوع يقول: يا أخي، الناس قد وصلوا إلى القمر، وأنت لازلت تجادل في هذا الموضوع! فما علاقة وصول الناس إلى القمر أو عدم وصولهم بقضية مطالبتنا بحجاب المرأة المسلمة؟! أليس هذا إدخالاً لموضوع في قضية أخرى لا يتعلق بها.

 

 وقد تُكلِّم إنسانًا في قضية الغناء الفاحش البذيء، الذي أصبح يصك الأسماع، ويهيِّج الغرائز، ويدعو إلى الرذيلة، فيقول لك: يا أخي، المسلمون يُقتلون في مشارق البلاد ومغاربها، وتسفك دماؤهم، وتنتهك أعراضهم، وأنت لازلت تتكلم في هذه الجزئيات؟!

 

فما دمنا قد اتفقنا أن موضوع الغناء هو مادة الحوار الذي سيناقَش، فما دخل قضية قتل المسلمين بذلك؟ وهل إذا تركنا الحديث عن الغناء أو الحديث عن حجاب المرأة المسلمة، ستُحل مشاكل المسلمين، ويُرفع الظلم عن المظلومين؟! وهكذا.

3-عدم النيل من المتحدث باتهامه في نيته أو الكلام على شخصه، فبعض الناس يقول: من هذا الإنسان؟ ما هدفه؟ ما تاريخه؟ من وراءه؟ ما درجته من العلم؟ ما قدره؟ وهكذا.

 

4-الاشتغال بالأيمان المغلظة، والله -سبحانه وتعالى- ذمَّ الذين يكثرون من اليمين قال –تعالى-: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [القلم:10-13]، فهذا دعيٌّ ملصق في أهل العلم وليس منهم، وملصق في قومه وليس منهم، ومع ذلك يكثر من الأيمان الكاذبة، أو قد لا تكون كاذبة لكن اليمين ليس حجة، فكونك تحلف بالله –العظيم الذي لا إله إلا هو- أن هذا هو الحق، فهذا لا يقدِّم ولا يؤخِّر. وفرق بين أن تكون مقتنعًا قناعة مطلقة بأنه هو الحق، فتحلف على ذلك، فإذا حلفـتَ أنت عرفتُ أنك تعتقد أنه هو الحق، ولكن لا يلزم أن يكون هو الحق، فقد تراه حقًّا وتحلف عليه، والواقع أن الحق بخلافه.

 

5-إذا لم تعرف مسألة ما أن تقول: لا أدري، وإذا ترك العالم لا أدري، أصيبت مقاتله، كما كان السلف يقولون:"ويجب على العالم أن يعلم تلاميذه وطلابه قول: "لا أدري"، حتى يلجؤوا إليها فيما لا يعلمون".

 

6-التوثيق العلمي، يعني إذا استدللت فلا تستدل بشائعات أو ظنون أو أوهام استقرت في عقلك أو في عقل من أمامك من الناس؛ بل استدل بالنصوص، والأدلة الواضحة؛ والبراهين الثابتة، والإحصاءات الدقيقة، قال رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبراهين العلماء، تستدل بحقائق علمية، وتوثِّق ما تقول، أما مجرد الظنون والأوهام والشائعات، فإنها لا تصلح أدلة.

7-لا يكون الدليل هو عين الدعوى؛ لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً، ولكنه اعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى. وعند بعض المُحاورين من البراعة في تزويق الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً. وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مُغاير، وهذا تحايل في أصول لإطالة النقاش من غير فائدة.

 

8-قطعية النتائج ونسبيَّتها، فمن المهم إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء -عليهم السلام- فيما يبلغون عن ربهم -سبحانه وتعالى-، وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب". وبناء عليه، فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر، فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود، وهو منتهى الغاية. وإن لم يكن فالحوار ناجح. إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما، يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ. وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً، وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية -رحمه الله-:" وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهاد، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه". ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة.

 

9-الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون، والالتزام الجادّ بها، وبما يترتب عليها وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء. يقول ابن عقيل: "وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة، فإنه أنبل لقدره، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق". قال الشافعي -رحمه الله -:"ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني، ولا ردَّها إلا سقط في عيني ".

 

1-الحوار بين الحضارات للدكتور / أحمد السايح

2-الحوار للدكتور / سلمان العودة

3-أصول الحوار وآدابه للشيخ /صالح بن حميد

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات