دور النظر المقاصدي في قضايا الأمة

عارف محمد المرادي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وهذا الواقع المعقّد المرير يستوجب تعاملاً عادلاً من خلال مشروع حضاري مؤسّس على التّحاكم إلى شرع الله وهدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وتقديم المصالح الرّاجحة، لا نصادم فيه ثوابتاً ولا ننجرف مع عواطف هوجاء تجرّ إلينا الفشل والهلاك وتحول دون بلوغ مستوى المَنَعة والتّحدّي والتّأثير، سواءً تعلّق الأمر بطريق تجديد الخلافة في الأرض والتّعامل مع الواقع السياسي السّائد في بلدان المسلمين والتّعامل مع الهيئات والأنظمة العالميّة وغيرها من العلاقات الدّوليّة، أو تعلّق بوحدة كلمة الأمّة ونبذ أسباب الفرقة عنها، أو تعلّق بمعالجة تخلّف الأمّة العسكريّ وحماية البيضة وتحرير الأراضي المغصوبة وتحدّي العولمة الغربية الكاسحة بأنواعها المختلفة والتّصدّي -أيضاً- للمدّ الصّفوي الرّافضي المارق الذي أضحى يشكِّل خطراً بالغاً متزايداً، أو تعلّق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والتّصدّي للمدّ العلماني المتوغِّل في كيان الأمّة وإصلاح فساد المجتمعات..

 

 

 

إنّ عناية المجتهد بملاحظة المقاصد الشرعية من أعظم ما يؤهّله لخلافة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حقّاً ويعينه على استقامة الرّأي وتفادي الزلل.

 

قال الشاطبيّ: "إذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشّارع فيه قصده في كلّ مسألة من مسائل الشريعة، وفي كلّ باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزّله منزلة الخليفة للنّبي -صلى الله عليه وسلم- في التّعليم والفتيا والحكم بما أراه الله"(1).

 

وإنّ أبلغ ما يحصِّل به هذه المنزلة العليّة إجادة نظره في القضايا المتعلّقة بالأمّة أو بجمهور واسع منها على ضوء هذه المصالح المرعيّة، قال ابن عاشور: "طريق المصالح هو أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمّة عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك، وإن لم يتبع هذا المسلك الواضح والحجة البيضاء فقد عطّل الإسلام عن أن يكون ديناً عامّا وباقيّا"(2)، وأكّد على هذا المسلك في ضوء تضلّع النّاظر من علم الشّريعة ومعرفته بالواقع وعدم غفلته عن هذين الرّكنين الأساسين، فقال: "الأمّة الإسلاميّة بحاجة إلى علماء أهل نظر سديد في فقه الشّريعة، وتمكّن من معرفة مقاصدها، وخبرة بمواضع الحاجة في الأمّة، ومقدرة على إمدادها بالمعالجة الشّرعية؛ لاستبقاء عظمتها"(3).

 

وقد نبّهت نصوص الشّريعة وآثار أسلافنا إلى ضرورة الملاحظة الدّقيقة لمصلحة الأمّة وحسن مآل شؤونها.

 

ومن ذلك ما وقع يوم الحديبية من تصالح النبي -عليه الصلاة والسلام- مع كفّار قريش على بعض الشّروط الغريبة التي كان ظاهرها إجحاف ومذلّة لأهل الإسلام، ومن ورائها العزّ والنّصر والرّحمة.

 

فقد رضي بمحو وصفه بالرّسالة وأمر عليّاً بمحوه، ولكنّ عليّاً -وهو من هو في توقّد الذّهن- هاله الأمر وامتنع منه حتّى محاه بيده الشّريفة.

 

كما رضي بعدم ردّ من جاء من المسلمين إلى الكفّار على خلاف من جاء من الكفّار إلى المسلمين فإنّه يرُدّ إليهم،

قال العلماء: "المصلحة المترتّبة على إتمام هذا الصّلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكّة وإسلام أهلها ودخول النّاس في دين الله أفواجاً، وذلك أنّهم قبل الصّلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر عندهم أمور النبيّ كما هي، ولا يحلّون بمن يعلّمهم بها مفصّلة. فلمّا حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكّة وحلّوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممّن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبي مفصّلةً بجزئياتها ومعجزاته الظّاهرة حتّى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكّة، وازداد الآخرون ميلاً إلى الإسلام، فلمّا كان يوم الفتح أسلموا كلّهم. وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون إسلام قريش فلمّا أسلمت قريش أسلموا"([4]).

 

ويتجلّى هذا المقام بصورة أعمق حينما نقف مع المواقف والفتاوى السّلفية الهادية الممتدّة عبر تاريخ أمّتنا، وفيما يلي جملة منها:

 

1-ما سبق نقله عن عثمان -رضي الله عنه- من جمعه للأمّة على مصحف واحد وحرق ما سواه، قال ابن القيّم: "هذا كما لو كان للنّاس عدّة طرق إلى البيت، وكان سلوكهم في تلك الطّرق يوقعهم في التفرّق والتشتّت، ويطمع فيهم العدوّ، فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد، وترك بقيّة الطرق جاز ذلك، ولم يكن فيه إبطال؛ لكون تلك الطّرق موصلةً إلى المقصود، وإن كان فيه نهي عن سلوكها لمصلحة الأمّة"(5).

 

2-روى البخاري عن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر والحسن بن عليّ إلى جنبه وهو يقبل على النّاس مرّة وعليه أخرى ويقول: "إنّ ابني هذا سيِّد، ولعلّ اللهَ أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"(6).

 

وتحقّقت هذه المنقبة العظيمة للحسن بن علي حينما تنازل بالخلافة لمعاوية بن أبي سفيان؛ إخماداً للحرب التي نشبت بين المسلمين، وحقناً لدمائهم وجمعاً لكلمتهم، واشتهرت تسمية ذلك العام بعام الجماعة.

3-ما جاء عن عمر بن عبد العزيز أنّ ابنه عبد الملك(7) قال له: "ما لك لا تَنْفُذ في الأمور؟ فوالله لا أبالي في الحقّ لو غلت بي وبك القدور". قال له عمر: "لا تعجل يا بنيّ، فإنّ الله –تعالى- ذمّ الخمر في القرآن مرّتين، وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل النّاس على الحقّ جملة؛ فيدفعوه وتكون من ذا فتنة"(8).

 

4-ما ورد أنّ هارون الرّشيد ذكر لمالك بن أنس أنّه يريد هدم ما بنى الحجّاج من الكعبة وأن يردّه إلى بنيان ابن الزّبير، لما جاء في ذلك عن النبيّ -صلى علية وسلم- وامتثله ابن الزّبير؛ فقال له مالك: "ناشدتك الله يا أمير المؤمنين ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء أحد منهم إلاّ نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور النّاس"(9).

 

5-أنّ أحمد بن حنبل سئل عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيّهما يغزى؟ فقال: "أمّا الفاجر القويّ فقوّته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأمّا الصالح الضّعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القويّ الفاجر"(10).

 

6-قال الجويني: "إنّ الحرام إذا طبق الزّمان وأهله، ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلاً، فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة، ولا يشترط الضّرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد النّاس، بل الحاجة في حقّ النّاس كافّة تُنَزّل منزلة الضّرورة في حقّ الواحد المضطّر؛ فإنّ الواحد المضطّر لو صابر ضرورته ولم يتعاط الميتة لهلك، ولو صابر النّاس حاجاتهم وتعدّوها إلى الضّرورة؛ لهلك النّاس قاطبة، ففي تعدّي الكافّة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدّي الضّرورة في حقّ الآحاد "(11).

 

7-قول العزّ بن عبد السّلام: "لو استولى الكفّار على إقليم عظيم، فولّوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامّة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كلِّه، جلباً للمصالح العامّة، ودرئاً للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامّة وتحمّل المفاسد الشاملة لفوات كمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد"(12).

 

8-قول ابن تيمية: "إذا تعذّر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلاّ بمن فيه بدعة مضرّتها دون مضرّة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس"(13).

 

وله أيضاً كلام هو غاية في النّفاسة يجلّي بصورة أدقّ أهميّة النّظر المقاصدي العميق في معالجة قضايا البدع حينما تختلط ببعض مصالح الأمّة، حيث قال: "لمّا تغيّر النّاس وصاروا يفعلون بدعة ويتركون شِرعة، وفي البدعة مصلحة مّا إن تركوها ذهبت المصلحة ولم يأتوا بالمشروع، صار الواجب أمرهم بالمشروع المصلح لتلك المصلحة مع النّهي عن البدعة، وإن لم يمكن ذلك فُعِل ما يمكن وقدِّم الرّاجح؛ فإذا كانت مصلحة الفعل أهمّ لم ينه عنه لما فيه من المفسدة إلاّ مع تحصيل المصلحة، وإن كانت مفسدته أهمّ نُهِي عنه.

وهذه الوقوف التي على التُّرب(14) فيها من المصلحة بقاء حفظ القرآن وتلاوته، وكون هذه الأموال معونة على ذلك وخاصّة عليه، إذ قد يدرس حفظ القرآن في بعض البلاد بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسد أخر: من حصول القراءة لغير الله، والتّآكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع، واشتغال النّفوس بذلك عن القراءة المشروعة. فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون ذلك، فالواجب النّهي عن ذلك والمنع منه وإبطاله، وإن ظنّ حصول مفسدة أكثر من ذلك لم يدفع أدنى الفسادين باحتمال أعلاهما"(15).

 

9-ما قرّره ابن تيمية أيضاً من ضرورة تدبّر العالم في جملة من أنواع المسائل، ومنها "أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركاً لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النّهي خوفاً أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله ممّا هو أعظم عنده أعظم من مجرّد ترك ذلك المنكر.

 

فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النّهي أو الإباحة"(16). وقد صدّق هذا النّظر في حياته، فحكى عن نفسه قائلاً: "كنت آمر أصحابنا أن لا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التّتار والكرج ونحوهم، وأقول: إذا شربوا لم يصدّهم ذلك عن ذكر الله وعن الصّلاة، بل عن الكفر والفساد في الأرض، ثمّ إنّه يوقع بينهم العداوة والبغضاء، وذلك مصلحة للمسلمين، فصحوهم شرّ من سكرهم، فلا خير في إعانتهم على الصّحو، بل يستحبّ أو يجب دفع شرّ هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره"(17).

 

10-قال ابن القيِّم تبعاً لشيخه: "إذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلاّ إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحبّ إلى الله ورسوله كرمي النُشّاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك، وإذا رأيت الفسّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلاّ كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً عن ذلك"(18).

 

واليوم تواجهنا جملة من القضايا الكبرى التّي أفرزها -غالباً- ضعف أمّتنا وتفريطها في الاستخلاف مع التقدّم الهائل الذي أحرزه الأعداء حتّى مكّنهم من التّسلّط علينا وبسط نفوذهم على بلادنا.

 

وهذا الواقع المعقّد المرير يستوجب تعاملاً عادلاً من خلال مشروع حضاري مؤسّس على التّحاكم إلى شرع الله وهدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وتقديم المصالح الرّاجحة، لا نصادم فيه ثوابتاً ولا ننجرف مع عواطف هوجاء تجرّ إلينا الفشل والهلاك وتحول دون بلوغ مستوى المَنَعة والتّحدّي والتّأثير، سواءً تعلّق الأمر بطريق تجديد الخلافة في الأرض والتّعامل مع الواقع السياسي السّائد في بلدان المسلمين والتّعامل مع الهيئات والأنظمة العالميّة وغيرها من العلاقات الدّوليّة، أو تعلّق بوحدة كلمة الأمّة ونبذ أسباب الفرقة عنها، أو تعلّق بمعالجة تخلّف الأمّة العسكريّ وحماية البيضة وتحرير الأراضي المغصوبة وتحدّي العولمة الغربية الكاسحة بأنواعها المختلفة والتّصدّي -أيضاً- للمدّ الصّفوي الرّافضي المارق الذي أضحى يشكِّل خطراً بالغاً متزايداً، أو تعلّق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والتّصدّي للمدّ العلماني المتوغِّل في كيان الأمّة وإصلاح فساد المجتمعات، أو تعلّق بالعناية بأحوال الأقليّات الإسلامية في بلدان الكفر ودعوة أهل الملل الأخرى، أو تعلّق بإصلاح التّعليم والنّهوض باقتصاد الأمّة المتهالك واستغلال العولمة في جوانبها النّافعة. إلى غير ذلك من فروض الكفاية التي شرعت عامّةً لمصالح عامّة إذا فرض عدمها أو ترك النّاس لها انخرم النّظام(19).

 

-------

(1) الموافقات 5/43.

(2) مقاصد الشّريعة (بتصرّف) ص230.

(3) المصدر السابق ص301.

(4) نقله النّووي في شرحه على مسلم (مع اختصار وتصرّف يسير) 12/140.

(5) الطرق الحكمية 1/48، وانظر: الموافقات 3/41.

(6) قطعة من حديث فيه قصّة الصلح بين الطّرفين. صحيح البخاري، رقم: 2704، ص542.

(7) كان رجلاً صالحاً يعين أباه على ردّ المظالم، توفي شابّاً في حياة أبيه. تاريخ دمشق 37/38.

(8) العقد الفريد 1/39. وانظر بنحو منه: تاريخ دمشق 37/45.

(9) الاستذكار 12/17، وبعضهم ينسب القصّة إلى أبيه المهدي وبعضهم إلى أبي جعفر المنصور، وبعضهم تردّد، انظر مثلاً: ترتيب المدارك 2/105، تفسير ابن كثير 1/241، الموافقات 4/113.

(10) انظر: الفتاوى 28/255.

(11) غياث الأمم في التياث الظُّلم ص344.

(12) القواعد الكبرى 1/121.

(13) مجموع الفتاوى 28/212.

(14)أي القبور.

(15) مسألة في قصد المشاهد المبينة على القبور...( ضمن جامع المسائل) 3/134.

(16) الفتاوى 20/58.

(17) الاستقامة 2/165. وانظر: المصدر نفسه 2/216.

(18) إعلام الموقعين 3/7.

(19) الموافقات 2/305.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات