حرية الفكر في الإسلام مقارنة بالمذاهب الوضعية (2)

عبدالحميد عيد عوض

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وللمرء بعد هذا كله أن يُقارِن بين موقف الإسلام من حرية الفكر وبين موقف المسيحية المحرفة؛ "ففي المسيحية سرعان ما استولَتِ الكنيسة على مقاليد السلطة، واستغلَّت الشعب المسيحي أسوأَ استغلال؛ مما أدَّى إلى وجود طوائفَ خارجة على الكنيسة، وعندما شعرت الكنيسة بوجود المفكِّرين الذين خرجوا على ما رسمَتْه من قواعد وأصول، ورَأَتْ في ذلك ما يُهدِّد سلطانَها، ويُضعف مركزَها - انطلقت تقاوم وتجاهد تلك الأفكار، وحاولت تكميم الأفواه البريئة، وتعطيلَ الأفكار الحرة التي تناقض نظريتها...

 

 

 

 

حريةُ الفكر تعني: "أن يكون للإنسان الحق في أن يفكر تفكيرًا مستقلًّا في جميع ما يكتنفه من شؤون، وما يقع تحت إدراكه من ظواهر، وأن يأخذ بما يهديه إليه فهمه، ويعبِّر عنه بمختلف وسائل التعبير"[1].

 

ومن هنا جاء الإسلام معلنًا حريةَ التفكير، فدعا الإنسان إلى التأمل والتفكر، وحثَّه على استجلاء الحقائق، والنظر إلى ما وراء الأشياء وإلى غايتها.

 

والقارئ لكتاب الله تعالى يجد حشدًا من الآيات التي تحثُّ الإنسان على التفكير العميق الذي به يبصر الإنسان كلَّ ما يحيط به من مخلوقات؛ حتى يصل في النهاية إلى معرفة الله ووحدانيَّته، ومن ذلك قوله تعالى: ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ) [يونس: 101]، وقوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ) [الروم: 8]، وقوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) [الأعراف: 185].

 

فهذه الآيات - وغيرها كثير - دعوة إلى التفكير في خلق السموات والأرض، وفي خلق الأنفُس، وفيما تقع عليه الأبصار أو تسمعه الآذان؛ ليصل الإنسان من وراء ذلك كله إلى معرفة الخالق سبحانه وتعالى.

 

وحتى لا تتعطَّل حرية التفكير، فقد تتبَّع الإسلام كافَّة العقبات التي تعمل على عَرقلة الفكر الصحيح، فحطَّم القواعد التي كانت تسير عليها كثيرٌ من الأمم قبل الإسلام، وهي قواعد التقليد والاتباع، وإهمال النظر والتفكير الحرِّ.

 

قال تعالى معلنًا التحذيرَ من التقليد الأعمى؛ الذي يحجر على التفكير، ويصبح الإنسان في ظله إنسانًا آليًّا يوجهه فكرُ الأسلاف والأجداد: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ) [البقرة: 170].

 

وفي موضع آخرَ ينعى القرآن الكريم على هؤلاء الذين تابعوا مَن كان قبلهم في الكفر والضلالة دون بحث أو تفكُّر، قال تعالى: ( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) [الزخرف: 21، 22].

 

وقد جاءت السنة النبوية أيضًا مُحذِّرة من هذه التبعيَّة المفرطة، ومن ذلك ما قاله النبي: "لا تكونوا إمعة[2]؛ تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تُحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا"[3].

 

ففي هذا الحديث إشارة إلى النهي عن التقليد المجرد من الفكر والبرهان.

 

وهكذا جاء الإسلام ليُحرِّر العقل البشري من إساره، ويضع عنه القيودَ والأغلال التي عطَّلته زمنًا طويلًا؛ الأمر الذي بسببه جاد العقل الإسلامي بأروع حضارة عرفها التاريخ، وخرجت نوابغ في كل الميادين، كانوا غررًا في وجه الزمان.

 

ولعل أكبر شاهد على حرية الفكر في الإسلام هو "تعدد المذاهب السياسية والفرق الدينية، ومدارس الاجتهاد، ومبدأ الشورى؛ هذا المبدأ الـذي أمر به القـرآن الكـريم: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) [الشورى: 38]، وكان ركيزة من ركائز الدولة الإسلامية؛ إذ كان للرأي الأصلح دائمًا القِدْح المعلَّى، والكلمة النافذة"[4].

 

وقد كان من نتائج هذه الحرية التي أعطاها الإسلام لمجتمعه: "أن سلك العلماء والمفكرون السبلَ التي يريدونها، وطرقوا الدراسات التي يرغبونها، لا يقف أمامَهم الإسلام أو الدولة المنبثقة عنه من شتَّى العلوم والفنون في الفلسفة، والمنطق، والتوحيد، والأصول، والفقه، والتصوف، والطب، والكيمياء، والطبيعة، والهندسة، والرياضة، وغير ذلك؛ مما دفع بالإنسان خطوات كبيرة إلى الأمام، وكان أساسًا في إقامة النهضة الأوربية الحديثة"[5].

 

إن الإسلام ليس فيه تعارض قطُّ بين حرية الفكر والاستقصاء وبين نصوصه "بل تلازم وتواؤم، ولم يكن في تاريخ الإسلام كله أن عُذِّب عالم أو حُرِّق؛ لأنه اكتشف حقيقة علمية، أو توصل إلى نظرية في الطب أو الهندسة أو الكيمياء وغيرها"[6].

 

ومما يجدر ذكرُه هنا: أن الإسلام عندما أطلق حرية الفكر قيَّدها "بالحفاظ على أركان الدين؛ وهو أساس الدولة، فليس من حق شخص يدعي أنه يفكِّر ثم يصل من تفكيره هذا إلى نفي الألوهية أو الرسالات السماوية، أو الطعن فيما هو مُسلَّم من الدين، ويُعلِنُ ذلك على الناس، فالإسلام لا يَسمَحُ بذلك تحت أي اسمٍ، أو في أية حال.

 

إن المعتقدات الأصليَّة في الإسلام، والأصول المقررة في الشريعة - ينبغي أن تكون في الدولة الإسلامية فوق حرية الفكر، وليس هذا قيد على الحرية؛ وإنما هو ضمانٌ أكيد للحرية فيما وراء ذلك"[7].

 

كما قُيِّدت حرية الفكر بعدم التفكُّر في ذات الله؛ لأن الله تعالى أخبر عن نفسه أنه: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) [الشورى: 11].

 

وللمرء بعد هذا كله أن يُقارِن بين موقف الإسلام من حرية الفكر وبين موقف المسيحية المحرفة؛ "ففي المسيحية سرعان ما استولَتِ الكنيسة على مقاليد السلطة، واستغلَّت الشعب المسيحي أسوأَ استغلال؛ مما أدَّى إلى وجود طوائفَ خارجة على الكنيسة، وعندما شعرت الكنيسة بوجود المفكِّرين الذين خرجوا على ما رسمَتْه من قواعد وأصول، ورَأَتْ في ذلك ما يُهدِّد سلطانَها، ويُضعف مركزَها - انطلقت تقاوم وتجاهد تلك الأفكار، وحاولت تكميم الأفواه البريئة، وتعطيلَ الأفكار الحرة التي تناقض نظريتها، ومن هنا كان العداءُ الشنيع بين الكنيسة وحرية الفكر منذ ذلك الحين، وأصدرت قرارات بتحريم قراءة خمسة آلاف كتاب، وعندما ظهر القول بكروية الأرض - ذلك الأمر الذي عرفه المسلمون منذ أول خلافة بني العبَّاس - أحدث اضطرابًا شديدًا في عالم النصرانية، وهدَّدت الكنيسة من يقول به"[8]، كما حرَمت المدنية الحديثة الإنسانَ من التفكير، وحجَرت على حريته؛ "فلا يُسمَح للمواطن - مثلًا - أن يفكر في الرأسمالية وهو تحت ظلِّ نظامِ حكمٍ يقوم على الشيوعية، حتى ولو كان أعلم الناس بالاقتصاد؛ فلا تسمح له أن يُثبِت فساد الشيوعيَّة، ولا تسمح بعض الدول ذات النظام الجمهوري لأحد مهما كان من علماء النظم السياسية ونظم الحكم أن يفضل النظامَ الملكي، وكذلك العكس بالنسبة للدول ذات النظام الملكي؛ فتعتبر الدعوة لنظام جمهوري جريمة من الجرائم تعاقب عليه، ولا يُقبل في ذلك علم ولا فكر"[9].

 

______

[1] حقوق الإنسان في الإسلام؛ د/ علي عبدالواحد وافي، ص: 229.

[2] الإمعة: بكسر الهمزة وتشديد الميم؛ الذي لا رأي له ولا عزم؛ فهو يتابع كلَّ أحد على رأيه، ولا يثبت على شيء؛ (لسان العرب)؛ لابن منظور، جـ1، ص: 131.

[3] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في الإحسان والعفو، جـ4 ص: 246، ح (2075)، وقال: حديث غريب، لا نعرفُه إلا من هذا الوجه.

[4] الإسلام انطلاق لا جمود؛ الدكتور مصطفى الرافعيص: 42.

[5] معالم الثقافة؛ د/ عبدالكريم زيدان ص: 65.

[6] المجتمع المتكافل في الإسلام؛ عبدالعزيز الخياط ص: 74.

[7] أصول المجتمع الإسلامي؛ المستشار د/ جمال الدين محمود ص: 102.

[8] الإسلام؛ د/ أحمد شلبي ص: 183، وانظر: التعصب والتسامح بين المسيحيَّة والإسلام؛ الشيخ / محمد الغزالي ص: 99، ط دار التوزيع والنشر الإسلامية - القاهرة - الأولى 1409هـ - 1989م.

[9] أصول المجتمع الإسلامي؛ جمال الدين محمود ص: 97.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات