مغاليق السماء

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

والله إنه لحق ترتجف له النفس فرقاً ويقشعر الوجدان رعباً. وماذا يبقى للناس إذن؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمة الله؟ ولمن يلجئون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب ويبقى الإنسان في مواجهة كل أعدائه. الخيط الذي يمسكه بالقدرة القاهرة القادرة قد انقطع فراح يهوي، يهوي إلى حيث لا يعلم أحد (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج:31]، ذلك هو المخلوق البائس الذي يدعو الله فلا يجيبه، ويسأله فلا يعطيه، ويستنصره فلا ينصره.

 

 

 

لقد اقتضت إرادة الله أن يكون الإنسان خليفة في الأرض، واقتضت إرادته كذلك أن يكون الإنسان الذي يستمد قوته من الله هو القوة الفعالة في هذا الوجود. فالإنسان هو الذي يعمل، والإنسان هو الذي ينتج، والإنسان هو الذي غير الواقع، والإنسان هو الذي ينشئ النظم ويقيم الأوضاع، والإنسان هو القوة الإيجابية في الأرض، ولكنه في ذات اللحظة يسلم كيانه كله لله. وهذا هو الإسلام الكامل لله، الذي يستمد الإنسان فيها طاقته الإيجابية كلها على الأرض من ربه جل وعلا (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية: 13]. ولقد اختار الله أن يكون الإنسان هو أداته العاملة في الأرض، وعلى ذلك جرت سنته منذ خلق الأرض والإنسان.

 

والله –سبحانه، وتعالى- ليس "مقيداً" بسنته على النحو الذي يتصوره العقل الغربي الجاحد الضيق المغلق البصيرة، وهو يتحدث عن " القوانين الطبيعية " وحتميتها التي لا يمكن أن تتغير ومن ثم ينكر المعجزات. فالله –سبحانه- ليس مقيداً بسنته ولا محكوماً بها، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. والدليل أنه سبحانه يصنع الخوارق والمعجزات حين يريد، وفق حكمته التي يعلمها وحده ولا يطلع عليها أحداً من خلقه. ولكن مشيئته سبحانه هي التي اقتضت أن تسير الأمور على هذه السنة، حتى يعرف الناس النتائج حين يعرفون الأسباب، فيسيروا في الأرض على بصيرة، حتى وهم لا يعلمون الغيب المحجوب عن الأبصار. وكان ذلك رحمة بالناس وهدى لبصائرهم. فعلى أساس هذه السنة الثابتة التي شاءت إرادة الله الحرة القادرة أن تكون ثابتة يستطيع الناس تفهم الكون من حولهم، والتعرف على أسراره، والتوفيق بين أنفسهم وبين الكون والحياة.

 

وكل " العلم " الذي علمه الناس منذ البدء حتى اليوم، وكل المخترعات التي اخترعوها، وكل الفوائد التي جنوها، والخدمات التي حصلوا عليها لم تكن لتوجد لولا ثبوت السنة واطرادها وعدم تخلفها. وكذلك الحياة الإنسانية في محيطها الشامل. فكل النظم القائمة على تجارب البشرية مثل النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية لم تكن لتقوم لولا ثبوت هذه السنة واطرادها. فهذا وحده هو الذي يجعل للتجربة قيمة، ويجعلها مجالاً للفائدة ومحلاً للاعتبار. وإلا فما قيمة التجارب علمية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية إذا كانت كل تجربة منقطعة عن غيرها، قائمة بذاتها، لا تتصل بشيء ولا تنتهي إلى شيء؟ وكيف يتعلم الناس أن هذا ضار وهذا نافع، فيعرضوا عن الأول ويقبلوا على الأخير؟

هي رحمة الله إذن بالناس أن يجعل لهم سنة ثابتة، ويجعلها واضحة، ويجعلها محلاً للعبرة، ويوجه إليها الضمائر، ويوقظ لها القلوب (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 137].

 

 هكذا شاء اللطيف الخبير أن يكون الإنسان عنصراً إيجابياً في الحياة، وأن يكون التغيير الذي هو سنة من سنن الله -عز وجل- مرتبطاً بإرادة الإنسان، مقضياً عن طريقه، نافذاً من خلاله، ممتزجاً بكيانه كله من عمل وفكر وشعور. ولكن لهذا التكريم تبعاته ومقتضياته. تبعاته أن يكون الإنسان قوة إيجابية حقاً، وأن يعمل بمقتضى ذلك في واقع الحياة. تبعاته أن يعمل، وأن يكافح، وأن يصارع، ولا يسلِّم، ولا ينخذل، ولا يستكين.

 

ومن أهم تبعاته أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويؤمن بالله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110] إذا رأى المنكر أن يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان. وليس المعروف أو المنكر شيئاً محدوداً في هذه الأرض، أو ميداناً دون ميدان. بل كل شأن من شئون الناس، كبر أو صغر، يمكن أن يجري بالمعروف ويمكن أن يجري بالمنكر. وتبعات الإنسان تستلزم ملاحقته لهذه الشئون كلها، والرقابة عليها، والتأكد من جريها بالمعروف وبعدها عن المنكر! وإلا فالنتيجة هي الفساد. فقد اقتضت سنته أن يراقب الناس شئون الأرض، ويدفع بعضهم بعضاً إلى الصلاح والرشد، وإلا فسدت الأرض (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251]، وذلك هو السبيل الأوحد لانتظام الأمور، فحين يؤدي كل مؤمن واجبه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجرؤ الباطل أن يعيش، ولا يجرؤ المنكر أن يستأسد. ويظل الحق هو القوة الغالبة الفعالة التي تسيطر على الأمور. أما حين ينام عن هذا الواجب المقدس فالشر يغري، والشر يهيج، والشر يسيطر على الحياة.

 

وقد جرت سنة الله بذلك في التاريخ الإنساني مطردة. أيما أمة حية متيقظة، ترقب شئونها بنفسها، وتحرص على أداء كل واجب، وتنفر من كل تقصير، فهي الأمة الناجحة، وهي التي تملك السلطان. وأيما أمة تراخت وأهملت، وتركت الباطل يسيطر على شئون الناس فلم تنصره، فهي الأمة الفاشلة، وهي الأمة التي حل بها الدمار.

 

وقوة المجتمع وضعفه رهين بهذا وذاك. فالمجتمع الذي يتناصح الناس فيه بالخير ويتناهون عن المنكر، هو المجتمع المترابط المتساند القوي، الذي يتقدم إلى الأمام حثيثاً، وينتقل من خير إلى خير، بحكم تضافر الطاقة وتوجهها إلى الإصلاح. والمجتمع الذي يأتي المنكر فيه كل إنسان على مزاجه، ويتركه الآخرون لما يفعل، هو المجتمع المفكك المنحل، الذي يمضي إلى الوراء حتماً، وينتقل من ضعف إلى ضعف، بحكم تبدد الطاقة وانصرافها إلى الشر. قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78]. وكذلك لعن الغرب في التاريخ الحديث عندما سار على درب الهالكين الأولين من بني إسرائيل وأشباههم. في حين أن المسلمين الأوائل، الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس، والذين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، كانوا أمة قوية قاهرة غلابة، أمة متينة البناء وثيقة الأساس، أمة استطاعت أن تكافح كل قوى الشر وتعيش، تكافح الحكومات الظالمة من داخلها، والغزاة البرابرة من خارجها، من التتار مرة والصليبيين مرة وتصمد لهذا الشر كله وتتغلب عليه. فلما كفوا عن الأخذ بأسباب الانتصار والنجاح، ولما تعبوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وآثروا الحياة على الدنيا عن مقارعة الباطل ومكابدة الظلم، لما عادوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، جرت عليهم السنة الأبدية الخالدة التي بينها لهم الله وحذرهم منها، فصاروا فتاتاً متهاوياً تلتقمه قوى الشر من الداخل والخارج على السواء، وفقدوا أقوي سند ومعين لهم في مواجهة كل الخصوم، مدد السماء، بعد أن وضعوا الأقفال على أبوابها.

 

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل عليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ وما كلم أحداً، فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "يا أيها الناس. إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم". فما زاد عليهن حتى نزل. رواه ابن ماجة، وابن حبان، وصححه الألباني. وهكذا تعمل السنن في الخلق والكون، عندما يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم، لا يستجاب لهم على الرغم من أن الله -جل في عليائه- قال لهم: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].

 

والله إنه لحق ترتجف له النفس فرقاً ويقشعر الوجدان رعباً. وماذا يبقى للناس إذن؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمة الله؟ ولمن يلجئون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب ويبقى الإنسان في مواجهة كل أعدائه. الخيط الذي يمسكه بالقدرة القاهرة القادرة قد انقطع فراح يهوي، يهوي إلى حيث لا يعلم أحد (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج:31]، ذلك هو المخلوق البائس الذي يدعو الله فلا يجيبه، ويسأله فلا يعطيه، ويستنصره فلا ينصره.

 

فهل كتب الله ذلك الهول البشع على عباده الذين يدعونه ويسألونه ويستنصرونه؟! نعم كتبه وأوصد في وجه دعواتهم أبواب السماء حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو بأضعف الإيمان في عن حذيفة بن اليمان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب". وعن عائشة قالت سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم ". قال المناوي: "قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم ". زاد الطبراني وأبو نعيم في روايتهما عن ابن عمر يرفعه وقبل أن تستغفروا فلا يغفر لكم إن الأمر بالمعروف لا يقرب أجلاً وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم اللّه على لسان أنبيائهم ثم عمهم البلاء". وقال عمر: "إن الزاهد من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نزعت منه الطاعة ولو أمر ولده أو عبده لاستخف به فكيف يستجاب دعاؤه من خالقه؟" وأخذ الذهبي من هذا الوعيد أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكبائر، قال ابن العربي: "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في الدين وعمدة من عمد المسلمين وخلافة رب العالمين والمقصود الأكبر من فائدة بعث النبيين وهو فرض على جميع الناس مثنى وفرادى بشرط القدرة والأمن."

 

تلك سنة الله يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أو يدعونه فلا يستجيب لهم، ويسألونه فلا يعطيهم، ويستنصرونه فلا ينصرهم؛ لأنهم هم أدوات الله في الأرض. وعن طريقهم ينفذ الله أمره. كذلك اقتضت سنته (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد:11]، لا عجزاً من الله –سبحانه- عن التغيير بغير تلك الأدوات، أو بغير أدوات على الإطلاق، ولكن تكريماً لهذا الخليفة في الأرض، ومنحَه حرية التصرف وحرية السلوك. فإذا كانت الأدوات جاهزة للعمل، متوجهة إليه، متوفرة له فإن السنة تمضي، والعمل ينفذ، والإصلاح يتم، وإذا كانت الأدوات معطلة أو فاسدة فإن السنة تمضي كذلك في طريقها. تمضي بالإبقاء على الفساد، والزيادة فيه، وعدم التغبير عليه، وعدم الإصلاح فيه. وعندما يدعو الناس وهم قاعدون عن العمل، وحين يسألون وهم كسالى، وحين يستنصرون وهم لا يعدون عدة النصر، فعند ذلك لا يستجيب الله لهم ولا يعطيهم ولا ينصرهم؛ لأنهم لا يستحقون النصر.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات