خلاصة الوسيلة في معالم حديث الفسيلة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

لقد كان المسلمون يقتدون برسولهم وهو يحثهم على العمل لتعمير الأرض، وغرس ما في أيديهم من فسائل تثمر حين يشاء لها الله، وإنما عليهم فقط أن يغرسوها، ويمضوا إلى غيرها يغرسون في مكان جديد، وبذلك تميزوا وسادوا، وكانوا النور المشرق في ظلمات الأرض، والقدوة في كل سوك وكل عمل وكل علم وكل نظام. وأوروبا في ظلمة الجاهلية تأكلها الفرقة والحروب والتأخر والانحطاط، حتى قبست قبسات من الإسلام في الحروب الصليبية، فأفاقت من غفوتها وبدأت تنهض ولكن على غير طريق الله وطريق الآخرة.

 

 

 

 

"إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر" رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.

 

قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الحديث النبوي الرشيق في عبارته، والبليغ في صياغته، يحض على العمل والعطاء فحسب، أو أنه يمثل قيمة دنيوية محضة، ولكن في الحقيقة أن هذا الحديث يمثل واحداً من منارات العمل الدعوي، وركيزة من ركائز فهم الدين الإسلامي ونظرته تجاه الحياة وموقع المسلم في هذا الكون.

 

ولعل آخر ما كان يدور في ذهن كثير من السامعين الذين قصر فهمهم للدين وحيويته، أن يسمعوا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك الحديث، فمن المتوقع لدى شريحة كبرى من المسلمين، أن يقول لهم الرسول المواعظ والإرشادات التي تذكرهم بالآخرة، وأن يحثهم على العمل لها، والاستعداد للقاء الله -عز وجل-، بالعمل على تنظيف ضمائرهم وسلوكهم من أجل اليوم الأكبر: يوم الحساب الذي تدان فيه النفوس. فمن المتوقع أن يأمرهم بالمسارعة بالتوبة والاستغفار وسؤال المولى حسن الخاتمة، والزهد في الدنيا وترك المنافسة عليها وهجرها وأهلها، والتوجه بالقلوب الخالصة للدار الآخرة التي أصبحت قريبة جداً، وقطع كل علائق الأرض المعوقة لسير العبد إلى ربه. ولو قال لهم ذلك فهل من عجب فيه؟!.

 

أليس الطبيعي -وقد تيقن الناس من القيامة- أن ينصرفوا للحظة المرهوبة؟

 

أليس الطبيعي -والهول المهول على الأبواب- أن ينسلخ الناس من كل وشيجة تربطهم بالأرض، ويتطلعوا في رهبة الخائف وذهول المرتجف إلى قيام اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد؟!

 

ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقل شيئاً من ذلك كله الذي توقعه السامعون.

 

بل قال لهم أغرب ما يمكن أن يخطر على قلب بشر! قال لهم: "إن كان بيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها فله بذلك أجر"!، فسيلة النخل التي لا تثمر إلا بعد سنين؟ والقيامة في طريقها إلى أن تقوم؟ وعن يقين؟!

 

وطبعاً لن يقول هذا الكلام إلا نبي الإسلام خاتم النبيين الذي لا ينطق عن الهوى، ولن يكون هذا الحديث مفهوماً إلا في دين الإسلام، فالإسلام وحده هو الذي يمكن أن يوجه القلوب هذا التوجيه، ونبي الإسلام وحده هو الذي يمكن أن يهتدي هذا الهدي، ويهدي به الآخرين! وهذا تاريخ الأرض كلها في ظلال الفهم الصحيح للإسلام. الفهم الذي تلقفه الصحابة -رضوان الله عليهم- من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وساروا به في الأرض فعمروها وساسوها بالدين، وأقاموا مناراته ومبادئه ومناهجه في ربوع الأرض. ومن أهم معالم هذا الفهم الصحيح:

 

أولاً: اتفاق الطريقين:

 

فطريق الدنيا، وطريق الآخرة كلاهما واحد لا افتراق بينهما. إنهما ليسا طريقين منفصلين: أحدهما للدنيا والآخر للآخرة، وإنما هو طريق واحد يشمل هذه وتلك، ويربط ما بين هذه وتلك، ليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة، وطريق للدنيا اسمه العمل! وإنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة. وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل، كلاهما شيء واحد في نظر الإسلام، وكلاهما يسير جنباً إلى جنب في هذا الطريق الواحد الذي لا طريق سواه. العمل إلى آخر لحظة من لحظات العمر. إلى آخر خطوة من خطوات الحياة. يغرسها والقيامة تقوم هذه اللحظة، وتوكيد قيمة العمل، وإبرازه والحض عليه، فكرة واضحة شديدة الوضوح في مفهوم الإسلام، ولكن الذي يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب، وإنما هو إبرازه على أنه الطريق إلى الآخرة الذي لا طريق سواه.

 

وقد مرت على البشرية فترات طويلة في الماضي والحاضر، وهي لا تفهم سر هذه المعادلة الفريدة التي قدمها الإسلام بكل براعة ويسر، كانت خلالها تشعر، ومازالت تعاني نفس الشعور بالفرقة بين الطريقين. كانت تعتقد أن العمل للآخرة يقتضي الانقطاع عن الدنيا، والعمل للدنيا يزحم وقت الآخرة. وكانت هذه الفرقة بين الدنيا والآخرة عميقة الجذور في نفس البشرية، لا تقف عند هذا المظهر وحده، وإنما تتعداه إلى مفاهيم أخرى تتصل بالكيان البشري في مجموعه. فالدنيا والآخرة مفترقتان والجسم والروح مفترقان. والمادي يفترق عن " اللامادي". والحياة العملية تفترق عن الحياة المثالية أوعن مفاهيم الأخلاق. إلى آخر هذه التفرقات التي تنبع كلها من نقطة واحدة، هي التفرقة بين الدنيا والآخرة، أو بين الأرض والسماء. وحين تعيش البشرية على هذه الفكرة المفرقة الموزعة، تعيش ولا جرم في صراع دائم محير مضلل. تعيش موزعة النفس منهوبة المشاعر. لا تحس بوحدة تجمع كيانها، أو رابط يربط أشتاتها. فلا تعرف الراحة ولا تعرف السلام. والفرقة بين الأهداف المتعارضة شقوة قديمة وقعت فيها البشرية وما تزال واقعة.

 

وقد كانت تؤدي في القديم إلى الرهبانية والتنسك واعتزال البشرية لمن أراد الآخرة، أو إلى التكالب على دروب الحياة، والتهالك في شهواتها ومعاناة فنون اللذة فيها، ينتهبون ما فيها من متعة قبل وقت الفوات، فتملكهم شهواتهم ولا يملكون نفسهم منها، وتقتلهم في نهاية الأمر، ويستوي أن توردهم موارد الحتف، أو تشقيهم بالتعلق الدائم الذي لا يهنأ ولا يستقر، وما تزال هذه الفرقة تؤدي إلى نتائجها تلك في العالم الحديث. ولكنها تزيد في الحضارة الحديثة والمدنية الجديدة حتى تبلغ مبلغ الجنون! وحالات الهستيريا، وضغط الدم واضطراب الأعصاب، والجنون الكامل، والانتحار تتزايد في ظل الحضارة الحديثة إلى درجة خطرة تؤذن بتدمير الطاقة البشرية وتفتيتها.

 

أما الإسلام فقد نظر بشمولية وواقعية لطبيعة هذا الكون ومفرداته وعلى رأسها الإنسان أكرم وأشرف المخلوقات، فهو وحدة تشمل الجسم والعقل والروح. تشمل " المادة " و " اللامادة " تشمل شهوات الجسد، ورغبات النفس، وتأملات العقل، وسبحات الروح. تشمل نزوات الحس الغليظة، وتأملات الفكر الطليقة، ورفرفات الروح الطائرة. ولا شك أن جزئيات هذا الكيان متعارضة، وأن كلاً منها جانح في اتجاه. ولكن العجيبة في هذا الكيان البشري، عجيبة الفطرة التي فطره الله عليها، أن هذا الشتات النافر المنتثر، يمكن أن يجتمع، يمكن أن يتوحد، يمكن أن يترابط، ثم يصبح في وحدته تلك وترابطه، أكبر قوة على الأرض.

 

والطريق الأكبر لتوحيد هذا الشتات النافر المنتثر، وربطه كله في كيان، قدمه الإسلام بأيسر سبيل، وهو توحيد الدنيا والآخرة في طريق واحد، عندئذ لا تتوزع الحياة عملاً وعبادة منفصلين. ولا تتوزع النفس جسماً وروحاً منفصلين. ولا تتوزع الأهداف عملة ونظرية أو واقعية ومثالية لا تلتقيان.

 

حين يلتقي طريق الدنيا بطريق الآخرة، وينطبقان فهما شيء واحد، يحدث مثل هذا في داخل النفس، فتقترب الأهداف المتعارضة. ويلتقي الشتات المتناثر، ثم ينطبق الجميع فهو شيء واحد. وتلتقي النفس المفردة - بكيانها الموحد - تلتقي بكيان الحياة الأكبر، وقد توحدت أهدافه وارتبط شتاته، فتتلاقى معه، وتستريح إليه، وتنسجم في إطاره، والإسلام يصنع هذه العجيبة، ويصنعها في سهولة ويسر، يصنعها بتوحيد الدنيا والآخرة في نظام. وشعارها (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77].

وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- الترجمة الكاملة الصادقة للحقيقة الإسلامية. ومن ثم كانت الدنيا والآخرة في نفسه طريقاً واحداً ونهجاً واحداً و"حسبة "واحدة حلقة واحدة لا تنقطع: العمل والعبادة، والدنيا والآخرة، والأرض والسماء، والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو القدوة والأسوة الحسنة، وهو واضع المنهاج العملي لتحقيق الإسلام في عالم الواقع، والرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يعتزل الناس ليتطهر لربه في معزل. فعباداته يقضيها أمامهم ومعهم وهم في صحبة منه. فإذا كان يخلو إلى ربه في جنح الليل يتعبد، فكل نفس بشرية تهفو إلى الخلوة حيناً من الوقت، وكل نفس تملك أن تصفو في هذه الخلوة فوق ما تصفو في حضرة الآخرين. ولكن المهم أنه في أعمق خلواته وأصفاها لا ينسى أنه رسول الله، المكلف بأداء رسالة الله، فالرسول يحارب في سبيل الله، ويسالم في سبيل الله، ويدعو الناس إلى سبيل الله، ويأكل باسم الله، ويتزوج على سنة الله، ويهدم ويبني، ويهدم وينشئ، ويهاجر ويقيم كل ذلك في سبيل الله، واستعداداً لليوم الآخر، يوم يلقى الله. فكل عمله -إذن- عبادة يتوجه بها إلى الله. والطريق أمامه طريق واحد؛ هو الطريق إلى الله. وحين نزلت الآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) [ المائدة: 3]، وأحس الرسول -صلى الله عليه وسلم- باقتراب الموت، وفي هذا الموقف العصيب وحتى في اللحظة الأخيرة لم يزايله انشغاله بأمور الدنيا بأمور الناس بإصلاح الأرض بهداية البشرية برسم المنهج الذي يسيرون عليه بتوطيد أركان الدين وتوثيق عراه. كان يقول والوجع يشتد عليه -صلى الله عليه وسلم- : " إيتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً".كانت في يده الفسيلة وكان يغرسها.

 

وحين يترسخ هذا المفهوم في قلوب المسلمين فإنهم لا ينظرون إلى مجالات الحياة المتنوعة على أنها رجس من عمل الشيطان أو شأن دنيوي محض، لا علاقة للدين والشريعة به، حين يتعلمون ذلك ويفهمونه، فإنهم إذا درسوا الطاقة الذرية واستخدامها في السلم والحرب يمكن أن يكونوا متصلين بالله وفي سبيل الله. حين يتعلمون أنهم وهم يدرسون النظم السياسية والاقتصادية والإصلاح الاجتماعي، أو يطبقونها على الناس وهم يسوسون أمورهم، يمكن أن يكونوا متصلين بالله وفي سبيل الله. حين يتعلمون أنهم وهم في خلوتهم مع أزواجهم يحققون هدف الحياة الأكبر، يمكن أن يذكروا اسم الله ويكونوا في سبيل الله. حين يتعلمون أن عملاً واحداً من أعمال الأرض الكثيرة المتفرقة لا يمكن أن يخرج عن الطريق إلى الآخرة إذا أقدم عليه الإنسان وهو مسلم مؤمن بالله متوجه إلى الله. بل حين يتعلمون أنه لا يمكنهم أن يخدموا الآخرة إلا بإصلاح الدنيا، ولا يصلوا للآخرة إلا عن طريق الأرض، وأن عليهم أن يظلوا إلى آخر لحظة من حياتهم يعمرون الأرض ويغرسون فسائلها، وإلا فلن يصلوا إلى رضوان الله.

 

ثانياً: لا يأس مع الحياة:

 

فالحديث يرشد المسلمين عموما والدعاة خصوصا، أنه لا يأس مع الحياة، والعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة، فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة، حين تنقطع الحياة الدنيا كلها، حين لا تكون هناك ثمرة من العمل، حتى عندئذ لا يكف الناس عن العمل وعن التطلع للمستقبل، ومن كان في يده فسيلة فليغرسها. إنها دفعة عجيبة للعمل والاستمرار فيه والإصرار عليه يعطيها هذا الحديث العظيم، فلا شيء على الإطلاق يمكن أن يمنع من العمل، كل المعوقات، كل الميئسات، كل المستحيلات، كلها لا وزن لها ولا حساب، ولا تمنع عن العمل.

وبمثل هذه الروح الجبارة تعمر الأرض حقاً وتشيد فيها المدنيات والحضارات. لابد أن نعلم أن العمل لا ينقطع أبداً حتى تقوم الساعة، بل لابد من الاستمرار والمواصلة، (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[لتوبة:105]، (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر:99]، ويقول تعالى وهو يذم من ترك العمل بعد أن كان مثابراً وعاملاً: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) [ النحل: 92] وقال الحبيب -صلى الله عليه وسلم- :"اعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ"، وقد تعوَّذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من العجز فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: كان نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:"اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات".

 

 والدعاة هم أشد الناس تعرضاً لنوبات اليأس، وأشدهم حاجة إلى الثبات، فقد قد ييأس التاجر من الكسب، ولكن دفعة المال لا تلبث أن تدفعه مرة أخرى إلى السير في الطريق. وقد ييأس السياسي من النصر، ولكن تقلبات السياسة لا تلبث أن تفتح له منفذاً فيستغله لصالحه. وقد ييأس العالم التجريبي من الوصول إلى النتيجة ولكن المثابرة على البحث والتدقيق كفيلة أن توصله إلى النهاية. كل ألوان البشر المحترفين حرفة معرضون لليأس، وهم في حاجة إلى التشجيع الدائم والحث الطويل، ولكنهم مع ذلك ليسوا كالدعاة في هذا الشأن، فأهدافهم غالباً ما تكون قريبة، وعوائقهم غالباً ما تكون قابلة للتذليل، وليس كذلك المصلحون.

 

فالدعاة لا يتعاملون مع المادة ولكن مع النفوس، والنفوس أعصى من المادة، وأقدر على المقاومة وعلى الزيغ والانحراف. والسم الذي يأكل قلوب الدعاة هو انصراف الناس عن دعوتهم، وعدم الإيمان بما فيها من الحق، بل مقاومتها في كثير من الأحيان بقدر ما فيها من الحق، وعصيانها بقدر ما فيها من الصلاح. عندئذ ييأس الدعاة، ويتهاونوا في الطريق.  إلا من أطاقت روحه أن يغرس الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة عن يقين.

 

الدعاة أحوج الناس إلى هذا المعلم والدرس، أحوج الناس أن يتعلموا عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا التوجيه العجيب الذي تتضمنه تلك الكلمات القليلة البسيطة الخالية من الزخرف والتنسيق. هم أحوج الناس أن يقبسوا من قبسات الرسول هذه اللمحة المضيئة الكاشفة الدافعة الموحية، فتنير في قلوبهم ظلمة اليأس، وتغرس في نفوسهم نبتة الأمل، كما تغرس الفسيلة في الأرض لتثمر بعد حين، إنه يقول لهم: ليس عليكم ثمرة الجهد، ولكن عليكم الجهد وحده، ابذلوه ولا تتطلعوا إلى نتائجه. وحين يسأل الداعية نفسه: متى تثمر الفسيلة وكيف تثمر، وحولها الرياح والأعاصير والشر من كل جانب؟ وحين يصل به التفكير إلى أن يطرح الفسيلة جانباً وينفض منها يديه، حينئذ كيف تثمر؟ وأنَّى لها أن تعيش؟ فقد قتلها حين أفلتها من يديه؟ ولكن حين يغرسها في الأرض ويرفع يده لله بالدعاء، حينئذ يكون قد أودعها مكانها الحق، وعهد بها إلى الحق الذي يرعاها ويرعاه.

 

ثالثاً: حضارة العمران الأخلاقي:

 

الإسلام وهو يدعو لتعمير الأرض، والعمل في سبيلها، لا ينحرف بالأفكار والمشاعر عن طريق الله وطريق الآخرة؛ لأنه لا يفصل بين الدنيا والآخرة، ولا بين الحياة العملية والأخلاق. إنه لا يقول كما يقول الغرب العلماني: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، أو يقول: فلأعمر الأرض، ولا يعنيني أن ترتفع أخلاق الناس أو تهبط، فللعمل مقاييس، وللأخلاق مقاييس، لا تهمني أخلاق الرجل ما دام " إنتاجه " يعجبني، فهذه النظرة المبتسرة الهابطة لا تلبث أن تدمر في لحظة ما بنته في أجيال. وأن تحيل العمار كله إلى خراب بل إن هذه النظرة المبتسرة الهابطة لتوزع النفوس والأفكار بين الخير والشر، وبين الواقع والمثال، فتكون النتيجة القريبة هي الأمراض العصبية والجنون والانتحار والاحصائيات الصادرة من الغرب في هذا المجال خير شاهد على مدى التدهور الأخلاقي والخواء الروحي عند أبناء الحضارة الزائفة. وذلك وحده تدمير للنفوس وتبديد للطاقة، ولو لم يحدث الدمار الشامل والخراب الرهيب.

 

وقد كان المسلمون وهم يؤمنون بدينهم ويعملون به يبنون أروع حضارات الأرض وينشئون أرفع مفاهيمها ولا ينحرفون عن طريق الله. كانت طاقة العمل تدفعهم للإنشاء والتعمير، والفتح والانسياح في الأرض، فبلغوا في لمحة خاطفة من الزمن ما لم يبلغه غيرهم في قرون، وأقاموا في كل مكان مثلاً للعدالة الإنسانية كانت -وما تزال- غريبة على البشرية، ينظرون إليها كما ينظرون للأحلام والأساطير.

 

حين أعاد أبو عبيدة الجزية لأهل الشام يوم علم باحتشاد جيش الروم وخشي ألا يقدر على حمايتهم، وقال لهم:

" إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع. وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم". حين صنع ذلك كان يقوم بإحدى المعجزات التي تهد في عمله إلى أقصى الغاية، ويضرب في مناكب الأرض. ويحارب ويغزو. ولا ينسى الله لحظة واحدة في ذلك كله ولا يفترق طريقه في الدنيا عن طريقه إلى الآخرة، لأنه يعمل ذلك كله في سبيل الله.

 

وحين تم النصر لصلاح الدين في الحروب الصليبية وأمكنه الله من أعداء دينه الذين غدروا من قبل بعهد الله، وذبحوا المسلمين داخل البيت المقدس، واعتدوا -بغلظة ووحشية- على كل حرمات البشرية لم يثأر لنفسه، ولم يمثل بهم، ولم يعمل في رقابهم السيف بل صفح وعفا، وارتفع على نفسه وعلى النفس البشرية. وبذلك كان الإسلام فذاً في التاريخ. وكان البناء الذي بناه الإسلام فريداً بالرغم مما أصابه من ضربات من الداخل ومن الخارج على السواء.

 

 لقد كان المسلمون يقتدون برسولهم وهو يحثهم على العمل لتعمير الأرض، وغرس ما في أيديهم من فسائل تثمر حين يشاء لها الله، وإنما عليهم فقط أن يغرسوها، ويمضوا إلى غيرها يغرسون في مكان جديد، وبذلك تميزوا وسادوا، وكانوا النور المشرق في ظلمات الأرض، والقدوة في كل سوك وكل عمل وكل علم وكل نظام. وأوروبا في ظلمة الجاهلية تأكلها الفرقة والحروب والتأخر والانحطاط، حتى قبست قبسات من الإسلام في الحروب الصليبية، فأفاقت من غفوتها وبدأت تنهض ولكن على غير طريق الله وطريق الآخرة.

 

وإن أمام المسلمين الكسالى اليوم قدوة في رسول الله تنفعهم إذا فتحوا لها بصائرهم وتدبروا معانيها. إن عليهم أن يعملوا دائماً ولا يكلّوا. يعملوا جهد طاقتهم، وفوق الطاقة ليعوضوا القعود الطويل. يعملوا في كل ميدان من ميادين العمل: في ميدان العلم، وميدان الصناعة، وميدان التجارة، وميدان الاقتصاد، وميدان السياسة، وميدان الفن، وميدان الفكر. يعملوا ولا يقولوا: ما قيمة العمل؟ وماذا يمكن أن نصل إليه؟ يغرسوا الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة، فإنما عليهم أن يعملوا، وعلى الله تمام النجاح.

 

قبسات من الرسول: محمد قطب.

صناعة الحياة: محمد أحمد الراشد.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات