دور العبودية الحقة في استقرار الحياة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

هذه الروابط القوية المتينة التي شملت العالم الإسلامي كله، وفاضت منه إلى غير المسلمين حتى وهم يكيدون للدين. وحتى وهم يحاربونه أبشع حرب وأدنسها في أيام الصليبيين. هذه الروابط المتينة التي صنعت معجزة لم تتكرر في غير الإسلام. وحتى بعد ذهاب الحكم الراشد، وظهور الحكم الوراثي على أيدي الأمويين والعباسيين ولكن المجتمع ظل إسلامياً، متماسكاً، متكافلاً، مستقرا تربطه روح الأخوة والمودة ما يقرب من ألف من السنين. ذلك كله كان أثر العبادة الحقة، التي تعبد الله كأنها تراه..

 

 

 

 

القاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام دعوته كلها: هي تحقيق العبودية الكاملة، فهي رسالة كل نبي، ودعوة كل رسول، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36] العبودية التي تشمل كل محبات الله ومرضاته، واجتناب كل مساخطه ومنهياته. وحتى يستطيع العبد أن يحقق العبودية الكاملة، ويقيم العبادة الحقة، لابد له من معرفة مفتاح هذه العبودية ومعرفة القاعدة الكلية التي يقام عليها بناء هذه العبودية، وألا هي: " أن تعبد الله كأنك تراه "

 

هذه القاعدة المستقاة من حديث جبريل الشهير عن أصول الإسلام والإيمان والإحسان الذي رواه الإمام مسلم عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، والذي عرف الإحسان فيه بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك. فهذا التعبير العجيب على بساطته وقلة كلماته إلا إنه يحمل في طياته أعظم حقائق الإسلام. فالإسلام يقيم جميع نظمه وتشريعاته وتوجيهاته وعلاقاته وفق هذه القاعدة الكلية. فالنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والعلاقات الفردية والجماعية والداخلية والخارجية، وكل شيء في حياة المسلمين والتي قد يعتقد كثير من المسلمين أنها ليست من العبادة في شيء، تسير وفق هذه القاعدة الكلية.

 

فأتباع الرسالات قبل الإسلام كانوا يعتقدون أن أعلى درجات العبودية هي الانقطاع عن الحياة بكل زخارفها وزينتها، والخلوة مع ربه -عز وجل- في صومعة أو بيعة أو دير، يناجيه ويناديه ويخلو له بقلبه ووجدانه عن شواغل البشر، ولكن الإسلام وحده هو الذي استطاع أن يقيم العبودية الحقة والكاملة، الإسلام وحده هو من جعل العبادة عملاً، والعمل عبادة، الإسلام وحده من ربط النفس بالجسد باعتدال واتزان من غير إفراط ولا تفريط، الإسلام وحده من ربط بين الأرض والسماء، والدنيا والآخرة، الجميع في نظام واحد، وحسبة واحدة.

الإنسان في الإسلام في مواجهة مولاه وخالقه بنفسه جميعاً. بكل جوارحها وكل خلجاتها. بظاهرها وباطنها، بدقائقها ولطائفها، بأسرارها وما هو أخفى من الأسرار، وكلها مكشوفة لله "فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". عين الله البصيرة النافذة إلى كل شيء في هذا الوجود، إلى كل واردة وكل خاطرة وكل فكرة وكل شعور إنها تراك وترقبك. سواء كنت متيقظاً لهذه المراقبة أم غافلاً عنها. وسواء أعددت نفسك لها أم كنت من المعرضين. لذلك فالخير لك أن ترى الله كما يراك، فعندها يتولد الشعور بالرهبة والأمل إن كنت طائعا، والرهبة والذعر إن كنت عاصيا. وحين يتوجه العبد إليه بنفسه جميعاً، ظاهرها وباطنها، وسرها ونجواها، عندها يتولد شعور التقوى الخاشعة والرهبة العميقة في القلب والنفس، فلا شك أن العبد وقتها سيعمل على تنظيف نفسه وطهارة قلبه.

 

فالعبد يعبد الله كأنه يراه؛ لأن الله لا تخفى عليه خافية (وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16]، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19]، (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه: 7]، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18]   يا الله! حتى خائنة الأعين! الخائنة التي يظن الإنسان أنه وحده الذي يحسها ويعرفها، وألا أحد في الوجود كله يراها أو يفهمها؟ حتى الوسوسة التي لا يطلع عليها أحد، وصاحبها نفسه قد ينساق معها دون أن يتيقظ لها؟ حتى السر. بل ما هو أخفى من السر. الخطرات التائهة في مسارب النفس، لا تصل إلى ظاهر الفكر، ولا يتحرك بها اللسان للتعبير! كل نفس ابن آدم مكشوفة وهو مقبل عليه. أفلا ينظف العبد نفسه إذن قبل الاتجاه. ألا يزكيها؟ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس:7-10]. وأما إن كان العبد معرضا عنه غير متوجه إليه، وكان لا ينظف له نفسه ولا يزكيها. فلن يغير ذلك شيئا من الأمر! فإن مولاه يراه! يراه بكل ما يصنع بنفسه من " تدسية " ومن سوء. يراه بخبائثه وأوضاره. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. فما الفائدة في التستر والاختفاء؟ بل ما الفائدة من الإعراض والانصراف؟

 

 وإذا استقر هذا المفهوم في قلوب الناس، حينئذ يستقيم الأمر كله في هذه الحياة. يستقر أمر الحاكم والمحكوم. والفرد والمجتمع. والمرأة والرجل. والوالد والولد. والأمة والأمم على أوسع نطاق.

 

إذ كيف يظلم الحاكم حين يرقب الله كأنه يراه؟ كيف تتجه نفسه إلى الشر والبطش والله يقول: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8]، (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء: 58]، وكيف يضع في مكان العدل الذي يطلبه الله نزواته وهواه؟ والعدل بالنسبة للحاكم ميدان واسع فسيح، يشمل كل سياسة الحكم، وسياسة المال، وكل معاملاته " الرسمية " ومعاملاته " الشخصية ". وهو مأمور في كل منها أن يرقب الله، ويعبده كأنه يراه. لا يمكن حينئذ أن يتعدى حدود الله أو يعتدي على حرمات الله. فلا يمكن مثلاً أن يعلن الحرب أو يبرم السلم إلا في سبيل الله وفي حدود ما بيَّن الله. والله يقول: (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190] ويقول: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139]، ويقول: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال: 60]. ولا يركن إلى أعداء الله ولا يتخذ بطانة منهم فالله يقول:(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) [آل عمران:28]،ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 118]. وهكذا حتى يشمل ذلك سلوكه كله، وتصرفاته كلها، منذ يتسلم الأمانة حتى يسلمها إلى الله أو إلى الناس. لا يفلت عمل واحد ولا فكرة ولا رغبة من رقابة الله ورقابة الضمير. والعامل كذلك حين يعبد الله كأنه يراه. فعليه عمله يؤديه بالأمانة اللازمة والاجتهاد الواجب. لا يخدع ولا يغش ولا يتكاسل ولا يتشاغل. ولا "يسدد الخانات" دون إنتاج حقيقي. ولا يعمل على الضرر وهو عالم به. ولا يبغي الفتنة ولا الفساد في الأرض. ولا يستغل مال الدولة. ولا يطمع فيما ليس له. ولا يقبل الظلم كذلك! فهو مكلف أن يذود الظلم عن نفسه وعن غيره، وإلا فما هو بمؤمن بالله، ولا هو يعبده كأنه يراه! (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النساء: 97]. والزوج الذي يرعى الله في زوجته، والزوجة التي ترعى الله في زوجها، والوالد والولد، والجار والصديق، والجندي والقائد، والصغير والكبير. الخ.

 

إن المجتمع كله لا شيء فيه البتة يخرج من هذه الكلمة الصغيرة التي تشمل كل شيء: تعبد الله كأنك تراه.

 

ولقد كان القدوة الكبرى في ذلك دون شك هو الرسول الأعظم، منشئ هذه الأمة ومربي قادتها وجنودها على هدي الله وهدي الإسلام.كان -صلى الله عليه وسلم- يرى الله كل لحظة من لحظات حياته الطويلة العريضة الشاملة الفسيحة.كان يراه وهو يتلقى الوحي عنه سبحانه فتطيقه نفسه وتستوعبه إلى الأعماق. وكان يراه وهو ينطلق في مناكب الأرض يدعو الناس إلى هذا الوحي لكي يهتدوا به إلى الله، وكان يراه وهو في بيته زوجاً وأبا ورب أسرة، ويراه وهو مع الناس وقريباً ومعلماً وهادياً إلى سواء السبيل، ويراه وهو يقاتل في سبيل الله، وهو يعقد السلم ويرجع من جهاد إلى جهاد، ويعيش معه كل لحظات حياته، وكل مشاعر نفسه، وكل خلجاتها وكل سرها ونجواها.ولا تضعف نفسه عن التلقي، ولا يضعف قلبه عن استيعاب النور الذي يغمره كلما رآه. هكذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخاتم النبيين وسيد المرسلين، ثم كان أصحابه الذين صنعهم على عينيه، ورباهم تربية خبير عليم. كانوا يرون الله بقدر ما تطيق نفوسهم وبقدر ما تصطبر على الأفق الأعلى المشرق المضيء الذي لا تحتمله النفوس الطاهرة النقية. ثم كانت نفوس على مدار الزمن تتفرق أحياناً، وتجتمع أحياناً، تعيش على حب الله والعمل في سبيله، وعبادته كأنها تراه.

وحين كان المسلمون الأوائل يعبدون الله كأنهم يرونه كانت تلك الأمة العجيبة الفريدة في التاريخ! (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...)[آل عمران:110].كان أبو بكر الصديق -رضي الله- عنه الخليفة الراشد يقول: " اسمعوا وأطيعوا ما أطعت الله فيكم. فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". وكان الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: " إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني "وكان -وهو يحارب كسرى وقيصر، ويواجه أكبر إمبراطوريتين في التاريخ- لا يضيق بالتقويم الذي طلبه من الناس بنفسه. فيقبل من رجل من المسلمين أن يقول له: لا سمع لك علينا اليوم ولا طاعة حتى تبين لنا كذا وكذا. فلا يغضب، بل يجيبه في الحال إلى طلبه ويبين له. وكان يقول: "لو أن بغلة بصنعاء عثرت لرأيتني مسئولاً عنها"! وكان الحكام والولاة من بعده يعملون على توطيد العدالة الاجتماعية في المجتمع حتى أمكنه بعضهم - لأول مرة في التاريخ - أن يلغي الفقر من المجتمع، كما حدث أيام عمر بن عبد العزيز!.

 

وكان الجندي عمير بن الحمام -رضي الله عنه- يقول: "أليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل هذا الرجل أو يقتلني؟ ثم يقتحم المعركة ليصيب إحدى الحسنيين. وكان القائد خالد بن الوليد يُعزل في زهوة النصر فلا يضطغن ولا يتمرد ولا يترك ميدان القتال. وإنما يستمر يجاهد في سبيل الله جندياً لا إمارة له ولا سلطان. وكان البائع يستحي من الله أن يكسب ما ليس له بحق، فيرد نقوداً أخذها صبيه دون علم منه من أحد المشترين، ويصر على ردها إليه حتى والمشتري يحلف بالله أنه دفعها راضياً وأن البضاعة في نظره تستحق، وكان الزوج يعاشر زوجته بالمعروف، والزوجة تصون عرض زوجها في غيبته، فيذهب إلى ميدان القتال ويغيب بالشهور وهو مطمئن إلى بيته وعرضه وماله، لا يقربها السوء! بالجملة كان المجتمع نظيفاً مستقيماً مستقراً.

 

 وفي ظلال هذه العبودية الحقة انطلقت هذه الأمة تنشئ تاريخاً لم يسبق في التاريخ. وليس الفتح وحده هو الذي يلفت النظر، وإن كان حقيقاً بالتسجيل في سرعته الخاطفة التي لا مثيل لها من قبل ولا من بعد في التاريخ. ففي خمسين عاماً كان العالم الإسلامي الذي بدأ من لا شيء قد امتد من المحيط للمحيط. وكان كله - أو معظمه - قد اعتنق العقيدة الجديدة، وانقلب محارباً في سبيلها لا يهدأ حتى يراها قد بلغت إلى أفق جديد، وإنما الذي يلفت النظر هي تلك القمم العالية التي بلغها في كل اتجاه. قمم العدالة الشامخة والعظمات النفسية والروحية التي تتكاثر وتتواكب في هذه الحقبة الصغيرة من التاريخ.

 

فاتساع الجوانب وتعدد الآفاق. في الحرب والسلم. في السياسة والاجتماع. في الحضارات المختلفة التي استوعبها الإسلام، ومثلها تمثيلاً رائعاً، فامتص ما فيها من خير، وألقى بالزبد إلى الفناء. هذه الروابط القوية المتينة التي شملت العالم الإسلامي كله، وفاضت منه إلى غير المسلمين حتى وهم يكيدون للدين. وحتى وهم يحاربونه أبشع حرب وأدنسها في أيام الصليبيين. هذه الروابط المتينة التي صنعت معجزة لم تتكرر في غير الإسلام. وحتى بعد ذهاب الحكم الراشد، وظهور الحكم الوراثي على أيدي الأمويين والعباسيين ولكن المجتمع ظل إسلامياً، متماسكاً، متكافلاً، مستقرا تربطه روح الأخوة والمودة ما يقرب من ألف من السنين. ذلك كله كان أثر العبادة الحقة، التي تعبد الله كأنها تراه.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات