أمراض على طريق الدعوة (21) التشاؤم

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

من أكثر الأمراض شيوعاً في أوقات الأزمات والنوازل التي تحيط بالأمة؛ مرض التشاؤم، الذي يعتبر اليوم بمثابة الظاهرة العالمية التي تصيب الجميع بمن فيهم الدعاة، ساسة، واقتصاديون، وتربويون، وسائر المتخصصين، كل هؤلاء أصبح التشاؤم هو المسيطر على عقولهم ونظرتهم تجاه الأحداث والمستقبل، دوماً يتوقعون الأسوأ والأشد، كأن التفاؤل قد صار جريمة يعاقب عليها المجتمع والقانون. لذلك فقد توجب على جميع العقلاء التصدي لهذه الظاهرة المقيتة المقعدة والمحبطة لكثير من الأفكار والبرامج والطموحات.

 

 

 

 

أولاً: تعريف التشاؤم لغة واصطلاحاً:

 

يطلق التشاؤم في اللغة على معانٍ عدة، وأهمها:

 

1- التطير أو ما يقابل التيامن، يقال: تشاءم منه أي تطير، وتشاءم به أي عدّه شؤماً لا يمن فيه ولا خير، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا أرادوا أمراً من الأمور سفراً، أو زواجاً، أو سيراً نفروا الطير، وزجروه، فإن مال ناحية اليمين تفاءلوا، ومضوا لتنفيذ ما يريدون، وإن مال ناحية الشمال تشاءموا، وقعدوا عن إتمام وبلوغ ما قصدوه، وإن لم تمل لا إلى هذه، ولا إلى تلك، أعادوا تنفير الطير وزجره، وسمي هذا كله تطيراً، كما سمي القعود عن أداء الواجب نتيجة ميل الطير ناحية الشمال تطيراً أي تشاؤماً، وكانوا في أحايين أخرى يبنون أمور حياتهم على مجرد حركة الطير، أو الوحش، فإن كانوا سائرين في طريقهم لإمضاء أمر ما، ورأوا الخير أو الوحش فجأة، أو كان الطير أو الوحش واقفا، وحين رآهم ولى وأدبر، تطيروا، أي تشاءموا ورجعوا.

 

2-توهم أو توقع الشر، يقال: تشاءم من الأمر أو من فلان أي توهم، وتوقع الشر من ناحيته، ومنه قيل لأهل النار: أصحاب المشأمة، للعذاب أو الشر الذي ينزل بهم، بسبب كفرهم، وسوء أعمالهم في الحياة الدنيا، قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) [البلد: 19-20].

 

3-إساءة الظن بكل شيء في الوجود خالقا أو مخلوقا، عاقلاً أو غير عاقل. والحق أنه لا تعارض بين هذه المعاني اللغوية جميعاً، إذ التطير أو توقع الشر، والمكروه، ما هو إلا أثر من آثار سوء الظن بكل شيء في الحياة.

 

أما تعريف التشاؤم في المصطلح الشرعي والدعوي: هو التطير أو توهم حصول الشر والمكروه بصورة تؤدي إلى القعود عن أداء الواجب، أو على الأقل الكسل والتواني، والتراخي نتيجة إساءة الظن بكل شيء في هذا الوجود، أو في هذه الحياة.

 

ثانياً: صور أو مظاهر التشاؤم مع بيان وضعه في ميزان الإسلام:

 

وللتشاؤم بهذا المعنى الذي قدمنا صوراً كثيرة، ومظاهر عدة، تدل عليه وبها يعرف، ونذكر منها:

 

1-ضعف الاستجابة للدعوة الإسلامية من أجل التمكين لمنهج الله في الأرض من جديد، على أساس أن الإسلام عقيدة، وعبادة، وخلق، وتشريع، أو هو دين ودولة، يشمل الحياتين جميعاً، الدنيا والآخرة، بدعوى أن عدونا يفوقنا عدداً، وعدةً، وهو الآن المتمكن في الأرض، والموجه للحياة، وأين نحن إذن من هذا العدو؟ لا مناص لنا إلا القعود، والاستسلام حتى الموت، أو أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

 

2-الابتعاد عن الكلام في أمور الحياة العامة والأوضاع السياسية خشية الوقوع في الابتلاءات والمحن، نظرا لما يجره هذا التصور الشامل عن الدعة -وهو أن الإسلام دين ودولة -من محن، وشدائد، وابتلاءات في كثير من الأحيان بسبب رفض الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية هذه الدعوة الشمولية.

 

3-المشاركة في العمل الجماعي للإسلام، على أساس أن هذا الإسلام دين ودولة، ولكن بهمّة نازلة، وعزيمة ضعيفة، وإرادة فاترة، يأساً، وقنوطاً من أننا مهما عملنا، فلا يمكن أبداً أن نلحق بعدونا، فضلاً عن أن نسبقه أو أن نفوقه.

 

4-التثبيط من همم وعزائم العاملين لدين الله بصدق وجدية بدعوى الإشفاق والرحمة بهذا الصنف من الناس، وأنه لا داعي أن يتعب هؤلاء أنفسهم، وأن يجروا عليها من المحن والشدائد ما لا يعلمه إلا الله، ولاسيما وقد صار الأمر بأيدي أعدائهم، مستدلين بقول الحق تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105].

 

5-النظر لكل ما هو جديد وأجنبي من أشخاص، وأفكار، وإنتاج، بعين الإكبار، والإجلال، والاحترام، والتوقير، أما ما هو وطني من أشخاص، وأفكار، وإنتاج، فينظر إليه بعين الاحتقار، والسخرية، والازدراء، والاستهزاء.

 

6-اليأس من رحمة الله، وعفوه، بسبب كثرة المعاصي والسيئات وتصور أن الله شديد العقاب فقط، وأنه لن يغفر، ولن يعفو، ولن يتجاوز بحال من الأحوال، هو يعتبر من أخطر ظواهر التشاؤم.

 

7-تصديق دعايات أعداء الله وأعداء الأمة الإسلامية القائمة على الدجل، وقلب الحقائق، والنيل من الإسلام، والمسلمين والرفع من شأن الكفر، والكافرين، بحيث يسلم ذلك في نهاية المطاف إلى القطيعة للمسلمين، والموالاة للكافرين.

 

8 -الخوف من بعض الحوادث اليومية العادية، والتي هي جزء من قضاء الله وقدره، ككسر بعض الأواني، أو انطفاء المصابيح، أو صراخ وبكاء بعض الأولاد بصورة مستمرة، أو وقوع مكروه عند ولوج بعض الأماكن المباركة كالمساجد مثلاً، ثم القعود عن أداء بعض الواجبات بسبب ذلك.

 

ثالثاً: التشاؤم في ميزان الإسلام:

 

أن التشاؤم أو التطير إن كان مجرد توهم أو توقع حصول الشر نتيجة حوادث معينة، أثبتت التجارب، والممارسة صحتها، أو صدقها، مع اعتقاد أن الأمر كله لله، وليس لهذه الحوادث أدنى أثر على النفس إلا بإذن الله، بل لم تصرفه هذه الحوادث عن المضي في طريقه وتنفيذ مراده، إن كان الأمر كذلك، فلا شيء فيه؛ لأن مثل هذا التوهم أو التوقع شيء فطري في النفس الإنسانية وما من إنسان إلا ويخاف الشر، وينقبض منه، ويفرح بالخير ويهش، ويبش له، وبهذا المعنى جاءت النصوص، إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يسلم منهن أحد، الطيرة، والظن، والحسد، فإذا تطيرت فلا ترجع، و إذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق" وفي الحديث الآخر: "إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا"،  وقال أيضاً: "الطيرة شرك وما منا إلا تطير ولكن الله يذهبه بالتوكل". وقد علق الحافظ ابن حجر على الحديث الأخير بقوله: "وإنما جعل ذلك شركاً لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعاً، أو يدفع ضراً، فكأنهم أشركوه مع الله –تعالى-، وقوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل "إشارة إلى أن من وقع له ذلك، فسلم الله، ولم يعبأ بالطيرة، أنه لا يؤاخذ بما عرض له من ذلك".

 

أما إن كان توهم أو توقع الشر لحوادث معينة دافعاً لصاحبه أن يقعد عن أداء دوره، والقيام بواجبه، اعتقاداً منه أن لهذه الحوادث أثراً فيما يصيبه دون أن يرد الأمر كله لله، فذلك شرك، وهو حرام مذموم، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة، الشؤم في ثلاث، في المرأة، والدار، والدابة" وقال: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر". وقال: "لا طيرة، وخيرها الفأل"، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم"، وذكرت الطيرة عنده صلى الله عليه وسلم فقال: "خيرها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

 

فهذه النصوص وغيرها قاطعة الدلالة في حرمة الطيرة والتشاؤم؛ لأن ذلك كله شرك، يجر على صاحبه خسارة الدنيا والآخرة. غاية ما في الأمر أنه قد يقال: كيف يكون هذا شركاً، وكيف يلحقه الذم، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم نوعا منه، وهو التفاؤل، حيث قال: "وخيرها الفأل" أو "ويعجبني الفأل الصالح"؟ والجواب: أن هذا ليس إباحة للطيرة، وإنما هو من باب قول العرب: "الصيف أحر من الشتاء" يعني: الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها، وباب الفأل هو التيامن، كما أن باب الطيرة هو التشاؤم. ويقوي ذلك الأحاديث الكثيرة الدالة على حرمة التطير وقد مضت، والأحاديث الدالة على إباحة التفاؤل ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: "يا نجيح، يا راشد" ،وأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رؤي كراهة ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها ، كما ورد في الآثر .ويقول الإمام الطيبي: "معنى الترخص في الفأل، والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا، فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك، وإن رآه بغير ذلك فلا يقبله، بل يمضي لسبيله، فلو قبل وانتهى عن المضي فهو الطيرة التي اختصت بأن تستعمل في الشؤم" .

 

رابعاً: أسباب التشاؤم:

 

وللتشاؤم أسباب كثيرة تؤدي إليه، وبواعث عدة توقع فيه، وأهم تلك الأسباب، وهذه البواعث:

 

1-عدم معرفة الله حق المعرفة: ذلك أن المرء إذا لم يعرف ربه حق المعرفة من أنه سبحانه موصوف بالكمال، والجلال، فهو الخالق، المالك، المدبر، الناصر لأهله، وأوليائه، الرحيم بهم، المنتقم من أعدائه، المذل لكبريائهم، الذي يمهل ولا يهمل، إلى غير ذلك من الصفات، إذا لم يعرف المرء هذا فإنه يسيء ظنه بربه، ولا يثق به، ويتصور أنه مأخوذ بذنبه لا محالة، فلا عفو ولا صفح، وأنه لن يؤيد، ولن ينصر، بل ربما انقلب هذا الظن، وما يجره من عدم الثقة بالله إلى أن يعتقد قدره المخلوقات وارتباط الحوادث اليومية بالغيب، فيتولى هؤلاء المخلوقين من دون الله، ويكون التطير والتشاؤم. ومن أجل حماية المسلم من مثل هذا الظن السيء ألزم الله المسلم التأمل المستمر في النفس، وفي الكون، وجعل هذا التأمل طريقا لمعرفة الله حق المعرفة، وتمام الثقة واليقين، فقال – سبحانه: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 20-21]، (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: 53]، (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) [النمل: 93].

 

 

2-عدم معرفة النفس معرفة حقيقية:  وذلك أن المرء إذا لم يعرف نفسه معرفة حقيقة، وأن الله زود هذه النفس بطاقات وإمكانات هائلة تؤهلها لمهمة العبودية، والاستخلاف في الأرض، كما نطق بذلك الحديث الشريف إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال، فألقاها عليها فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد، قالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار، قالت: يا رب هل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء، قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح، قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم، يتصدق بيمينه يخفيها من شماله".

 

وأنه ما على هذا المرء إلا أن يجاهد نفسه، وأهواءه، ونزعاته، إذا لم يعرف المرء نفسه بهذه الصورة، فإنه ينهزم من داخله، ويحتقر هذه النفس، ولا سيما في هذه الآونة التي نعيشها اليوم والتي أمسك فيها العدو بخناقنا، وأكثر علينا من الدعايات والأكاذيب أنَّا ضعفاء، وأنَّا لم نعد نحسن شيئاً، وحين ينهزم المرء من داخله، ويحتقر نفسه يكون التشاؤم من أقل شيء، ومن أدنى حادث. ولعل هذا هو السر في تحذيره -صلى الله عليه وسلم- من الانهزام النفسي، والاستسلام، والضعف، والخور، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز..."  وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: "يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله -عز وجل- له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى".

 

3-عدم معرفة العدو على حقيقته: وذلك أن المرء إذا لم يعرف عدوه على حقيقته، وأن عداوته قديمة منذ أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكان من الكافرين، وأن هذا العدو لا يفتأ يكيد بكل ما أوتي من أساليب ووسائل (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16-17]. وأنه لا وزن لهذا الكيد ما دامت الصلة قوية بالله (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2- 3]، (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) [ الحجر: 42]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) [الأنفال: 29]،( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175]إذا لم يعرف المرء حقيقة عدوه على هذه الصورة المذكورة، فإنه يهابه ويخافه، ويستجيب لدعاياته، وأكاذيبه، ويكون التطير والتشاؤم من أدنى شيء، ومن أي حادث من الحوادث .

 

4-كثرة المحن والابتلاءات مع الغفلة عن أسرار هذه المحن وتلك الابتلاءات:

 

وذلك أن المسلم إذا نظر إلى واقعه، وواقع أمته اليوم، ورأى كثرة وتتابع المحن، والابتلاءات، في نفسه، وفي أهله، وولده، وذويه، وإخوانه، وماله، وغفل عن أسرار هذه المحن وتلك الابتلاءات، من أنها قد تكون لتقويم العوج (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ) [آل عمران: 152]. وقد تكون لتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:141]، (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران: 179]، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31]. وقد تكون تكفيراً للسيئات، ورفعاً للدرجات بالنسبة للمؤمنين مصداقاً لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه". إذا رأى المسلم المحن والبلايا بهذه الكثرة، وغفل عن فقه أسرارها، أصيب بالانهزام النفسي وما يتبعه من التطير والتشاؤم.

 

5-العيش في وسط متشائم: وقد يعيش الداعية في وسط مريض بالتشاؤم، ولا سيما إذا كان هذا العيش قبل النضج، وكمال التربية، وحينئذ يتأثر بهذا الوسط، ويصاب هو الآخر بمرض التشاؤم.

 

6 -الغفلة عن طبيعة الصراع بين الحق والباطل: وقد يغيب عن بال المسلم طبيعة الصراع بين الحق والباطل، ويرى اليوم نشوة الباطل، وانتفاخه، وقوة صولجانه، وضعف الحق، وقلة أنصاره، وانزواءه، فيظنها سنة عامة مضت بها كل العصور، وستبقى كذلك إلى آخر الزمان، وحينئذ يبتلى بالتشاؤم. ولعل هذا هو السر في اشتمال القرآن الكريم على قصص الماضين وما يحمله هذا القصص من عظات وعبر، بل ودعوته إلى التدبر والتفكر في هذا القصص ونتائجه.

 

خامسا: آثار التشاؤم على الدعاة:

 

1-التراخي مع النفس ربما إلى حد التطاول على حدود الله، والوقوع في حبائل الشرك والعياذ بالله، وقد رأينا أقواماً ملء السمع والبصر في العمل الإسلامي، ثم سيطر عليهم التشاؤم، فإذا هم خارج دائرة العمل الإسلامي، وإذا الشياطين قد اغتالتهم، ففرطوا وأسرفوا على أنفسهم، وتطاولوا على حدود الله، وتحول ولاؤهم للشيطان وحزبه، بعد أن كان ولاؤهم لله ولرسوله، وللمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم راكعون، بل لقد حدثني من أثق به أن أحدهم كان يبكي الناس بحديثه، وتلاوته لآيات الله، وقد خاض محنة قاسية شديدة اضطرته إلى الهجرة، والعيش في ديار الغربة، ثم ابتلي بالدنيا بعدها، وسيطر عليه التشاؤم من أن العمل الإسلامي سيظل هكذا في مكانه، ولن يصل إلى ما يريد.

 

2-القلق والاضطراب النفسي: وذلك لما قدمنا من أن التطير أو التشاؤم شرك، وقد آلى الله -عز وجل- على نفسه أن ينتزع من قلوب أولئك الأمن والأمان، والطمأنينة، كما يفهم من قوله سبحانه (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، وكما جاء صريحاً في قوله سبحانه: (نَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) [الجن: 17]، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه: 124].

 

3-تعريض النفس لغضب الله وسخطه: وذلك أن التشاؤم إذا وصل إلى حد القعود عن أداء الواجب فقد صار لوناً من ألوان الشرك، يجر إلى كثير من المعاصي والسيئات، والمعاصي والسيئات توجب غضب الله، وسخطه، وماذا يجني من حل عليه غضب الله وسخطه، سوى الضياع والعذاب، وصدق الله (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) [طه: 81].

 

سادساً: علاج التشاؤم:

 

ونستطيع بعد وقوفنا على ماهية وصور التشاؤم، وموقف الإسلام منه وكذلك بعد معرفتنا لأسبابه، وبواعثه، وآثاره المهلكة على العاملين، وعلى العمل الإسلامي، أن نرسم طريق العلاج والوقاية من هذه الآفة، وتتلخص في الخطوات التالية:

 

1-التعريف بالله تعريفاً يورث الثقة واليقين: وذلك بمعايشة الكتاب والسنة، إذ ليس في الدنيا مصدر يعدلهما ثقة، وعصمة، وفيهما الدواء، والغذاء -إن شاء الله- ثم النظر في سير أصحاب الدعوات، ومن تابعوهم على الطريق وكيف كان جهادهم، وصبرهم، وتحملهم، وتفاؤلهم حتى أعزهم الله بعزه، وأمدهم بجنده، ومكن لهم في الأرض.

 

2-التعريف بالنفس تعريفاً يدفعها إلى مقاومة التشاؤم، والانهزام النفسي، والثقة بأنها قادرة -بعون الله ومدده-على الكثير، شريطة أن تتجرد من حظوظها، وأن تتواضع لربها، وأن تستسلم له وتخضع، وتنقاد لأوامره وشريعته.

 

3-التعريف بالكون تعريفاً يبصرنا بكيفية الإفادة منه لخير البلاد والعباد، وذلك يلفت النظر إلى أن هذا الكون مسخر لنا، وقد خلق لمصلحتنا، وأن علينا أن نواظب على الطاعة والاستقامة لله -عز وجل- حتى يظل هذا الكون منسجماً معنا، غير متمرد علينا، دائم العطاء لنا بأمر الله -عز وجل-، ولا شك أن انسجام الكون معنا، وعدم تمرده علينا، وديمومة عطائه لنا بسبب استقامتنا مع ربنا، وطاعتنا له تبارك وتعالى؛ مما يفتح باب الأمل، والتفاؤل أمام المتشائمين، ويجعلهم يوقنون أن مزيداً من الطاعة[T1] .

 

4-التبصير بواقع العدو ولا سيما من الناحية النفسية، وذلك يلفت النظر إلى أن هذا العدو غير عفيف، ولا نزيه في حربه مع الحق، وأنه لا يتورع من استخدام أي أسلوب يحقق له ما يريد، وإن كان يتنافى مع القيم، والآداب والأخلاق لأن من منطلقاته الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل أبداً: أن الغاية تبرر الوسيلة، وأن الكذب والدجل وقلب الحقائق هو جوهر هذه الأساليب، وأنه وإن كان يبدو متماسكاً مترابط الجأش أمامنا، إلا أنه في حقيقة أمره، خائف، وجل من داخله، يعاني الكثير والكثير، كما قال سبحانه: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ) [النساء: 104]. وأنه حاقد من داخله لا يحب أحداً، حتى أبناء جلدته كما قال سبحانه: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الحشر: 14]. وأنه ليس له من مولى يعتمد عليه في حربه لنا سوى الشيطان، والشيطان لا حول له ولا قوة، في جنب حول وقوة خالقه، وباريه، والممسك بناصيته (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المجادلة: 19].

 

5-الانسلاخ من صحبة المتشائمين، والارتماء في أحضان المتفائلين الواثقين بربهم، وبمنهجهم، وبقدوتهم، وبأنفسهم، وبأمتهم الآخذين من ماضيهم العبرة لحاضرهم، فإن مثل هذا الانسلاخ له دور كبير في علاج التشاؤم، وتحلية النفس بالتفاؤل والتيامن.

 

6-دوام النظر في قصص الماضين مكذبين ومصدقين، وطبيعة الصراع بينهم، والنتيجة التي أسفر عنها هذا الصراع، فإن ذلك يطمئن المؤمنين، ويريحهم من داخلهم أن العاقبة لهم مصداقاً لقوله سبحانه: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83]، (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105].

 

7-التذكير المستمر بعواقب التشاؤم الدنيوية، والأخروية، الفردية والجماعية على النحو الذي شرحنا، فإن ذلك أيضاً له دور كبير في علاج التشاؤم، واستبداله بالتفاؤل والتيامن، إذ الإنسان كثيراً ما ينسى، وعلاج النسيان إنما يكون بالتذكير الدائم (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات: 55].

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات