ومآسينا ألا تَستحق أن تُعزف الأوتار عليها؟!

أ زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

بين الفينة والأخرى تستجد نوازل، وتطفو على السطح أحداث ومشاهد يُخَاض فيها كثيرًا، ويكثر فيها اللغط، وتتباين فيها الأقوال وردود الأفعال، وتتغاير فيها الرؤى والأحكام، وتختلف التصورات، وتداركًا للغط الحاصل وتخفيفا من حدة ردود الأفعال المتباينة حول المستجدات على الساحة العربية والإسلامية، وموقف أعداء الإسلام منها والمسارعين فيهم، دعونا نرتشف من الوحي الإلهي، ونقتبس من النور الرباني ما تنقشع به الظلمة، وتزول به الغربة، فإن في العيش في القرآن الكريم هدايةً للضالين، ومخرجًا للحائرين، نستقي منه الجواب الفصل والقول الجزل، نروي به الغليل ونداوي منه العليل...

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الآمين وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

 

لا ننكر أن المسلمين بشكل عام، ومنهم الجماعات الإسلامية بكل أطيافها، يرد منهم أخطاء، وربما فادحة، ويصدر منهم تجاوزات قد تكون كبيرة، وهذا مقروء في غابر التاريخ وحاضره، ومقرر شرعا، إلا أن استغلال هذه التجاوزات والحوم حولها، والعزف على أوتارها هي طريقة شيطانية قديمة بقدم العداء للإسلام، واستغلال عواطف العامة في توظيف تلك التجاوزات ونشرها للتشهير بالإسلام، ووصفه بدين الإرهاب، ونعت أهله بأنهم مجرمون عدائيون هي وسيلة عدائية قديمة بقدم الحق.

 

والعجيب والأشد منه عجبًا؛ كيف يتناسى ويتغافل  الكثير عما يعانيه كثير من المسلمين في بلادهم الإسلامية؟! وما تقاسيه الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية من عداء سافر، وتهكم صارخ، وجرائم بشعة، وتنكيل واضح، وتضييق ملموس؟! وسواء كان ذلك البغي والتعدي من قِبل حكوماتهم المتسلطة عليهم، أو كانوا أقليات في بعض البلاد الكافرة، والتي لا يحظون فيها حتى بأدنى حقوق الحيوان فضلاً عن الإنسان، أو كان ذلك البغي غزوًا خارجيًّا داهَم بلادهم، وعاث فيها فسادًا أو كان مقتصرًا على انتهاك السيادة الوطنية بالتضييق عليهم أو بضربهم في عقرهم.

 

والمتتبع لتلك الأحوال والمستقرئ لتلك المشاهد سيجد الجريمة بأبشع صورها، ويلمح التنكيل بأقذر مظاهره، قتل وتعذيب، تهجير وتشريد، هدم وإبادة، إحراق وإغراق، سجن واعتقال، تجويع وترويع، ضرب وتفجير، إبادة جماعية، وتطهير عرقي، واستئصال طائفي، وهم مع ذلك لم يفرقوا بين مقاتل وأعزل، ولا بين كبير وصغير، ولا بين رجل وامرأة،  ولا بين شاب وطفل، جرائم لا تنتهي يندى لها الجبين، ويتقطع لها الفؤاد، كلها مناظر منكرة قبيحة بأبشع الصور وأشد التنكيل.

 

وهم بهذه الممارسات الهمجية وهذه التصرفات القذارة قد فقدوا كل معاني الرحمة، وتنصلوا من كل الأخلاق الإنسانية؛ إذ لم يحترم الظالمون فيها دينًا سماويًّا، ولم يراعِ المباشرون عليها قانونًا بشريًّا، ولا عظّموا فيها عرفًا، ولا كرموا إنسانية، كل هذا يجري على مرأى ومسمع في ظل تواطؤ عالمي وتشريع غربي وحماية أممية وصمت عربي وإسلامي وما كان ربك نسيا.

 

وما ذكرنا سلفًا ليس ضربًا من الخيال، ولا قصصًا منامية، بل كل ذلك محفوظ بالصوت والصورة، فوسائل الإعلام اليوم بتقنياتها الدقيقة لا تنطلي عليها تلك الجرائم المقززة، ولا تخفى عليها تلك القبائح البشعة، وبالتالي يستطيع الكل مشاهدة ما يدور في العالم المسلم والسني تحديدا من مآس ومظالم، وآهات ونكبات مفصلة ولو بعد حين، دون أن تندثر تلك الحقائق أو تغيب تلك الوقائع بتقادم زمانها.

 

وبين الفينة والأخرى تستجد نوازل، وتطفو على السطح أحداث ومشاهد يُخَاض فيها كثيرًا، ويكثر فيها اللغط، وتتباين فيها الأقوال وردود الأفعال، وتتغاير فيها الرؤى والأحكام، وتختلف التصورات، وتداركًا للغط الحاصل وتخفيفا من حدة ردود الأفعال المتباينة حول المستجدات على الساحة العربية والإسلامية، وموقف أعداء الإسلام منها والمسارعين فيهم، دعونا نرتشف من الوحي الإلهي، ونقتبس من النور الرباني ما تنقشع به الظلمة، وتزول به الغربة، فإن في العيش في القرآن الكريم هدايةً للضالين، ومخرجًا للحائرين، نستقي منه الجواب الفصل والقول الجزل، نروي به الغليل ونداوي منه العليل...

 

تعالوا بنا في سورة البقرة تحديدًا؛ حيث يحكي لنا القرآن الكريم مشهدًا من المشاهد التي ود المشركون أن يكون لهم فيها على المؤمنين سبيل، حيث وجدوا لهم فيها مناخًا مناسبًا يتنفسون فيه ومنبرًا عاليًا يذيعون منه، إلا أن الأهم وهو الشاهد من سوق الآية الكريمة هو كيف عالج القرآن هذا العزف؟! وكيف سد هذه الثغرة؟! وكيف رد على هذا النغم؟! قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ...) الآية. [البقرة: 217].

 

والخلاصة في سبب نزول هذه الآية أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أرسل عبدالله بن جحش ليتحسس خبر قافلة للمشركين كان عليها تجارتهم وأموالهم، فلما وصلت السرية وقائدها المكان اعترضوا القافلة وقاتلوها فقتلوا منهم عمر بن الحضرمي، وأسروا اثنين، واستاقوا العير محملة، وساقوها إلى رسول الله –عليه الصلاة والسلام-، وكانت هذه الواقعة في الأشهر الحرم؛ شهر رجب تحديدًا، فلما قدموا على رسول الله -عليه الصلاة والسلام- عاب عليهم صنيعهم ذلك، قائلاً: "لم آمركم بقتال، وإنما أمرتكم أن تتحسسوا أخبارها"، وهو بذلك يراعي حرمة الأشهر الحرم، مدركا ما ستئول إليه الأمور، فكان هذا التصرف السلبي بالنسبة للرسول وأصحابه وكذا السرية المباشرة للواقعة موقفًا محرجًا للغاية؛ وذلك خوفًا من أن يؤتى المسلمون من هذه الثغرة فيستغلها كفار قريش للتشويش على الإسلام وصد أهله والناس عنه.

 

وفعلاً لقد اتخذ المشركون من هذا الحدث فرصة للطعن في نبي الإسلام وتشويه أصحابه، واتهامهم بأنهم لا يعظّمون الأشهر الحرم، وحاولوا الاصطياد في الماء العكر، وذهبوا يعيرون المسلمين، رغم أن فيهم من القبائح أضعاف أضعاف ما وقع من المسلمين ولا مقارنة، وبدءوا يعزفون على هذا الوتر بنغم شيطاني، ويذيعون ذلك في بقية العرب حتى يصدوا عن سبيل الله، ويثنوا من أراد الدخول في دين الإسلام، وهذه غايتهم وتلك أمنيتهم، فثقل ذلك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فأنزل الله قولاً فصلاً وبيانًا شافيًا ومنهجًا يسير عليه عباده ترتسم فيه معالم العدل والإنصاف والتأصيل في الحكم، من خلال الآتي:

 

تخطئة الله –سبحانه- للمسلمين الذين باشروا القتال في الأشهر الحرم، ولم يبرر لهم صنيعهم ولا سكت عنه، وهذا من العدل بل سماه (كبير).

 

جوابه –سبحانه- على المشركين، وتذكيره إياهم بأكبر جرائمهم والوقوف على أقبحها، وهي: الصد عن سبيل الله، والكفر به سبحانه، وإخراج النبي الكريم وأصحابه البررة من ديارهم الآمنة وأهليهم بغير وجه حق، وفتنتهم المسلمين وإرغامهم على تركهم الإسلام وعودتهم للكفر.

 

الإشارة إلى أن جريمة من هذه الجرائم كافية في الشر والقبح، فكيف إذا اجتمعت كلها فيهم، وكيف إذا كان مزاولتها في البلد الحرام واقترافهم لها في المسجد الحرام.

 

مقارنته –سبحانه- بين ما بدر من المسلمين من خطأ، وبين ما يزاوله الكفار ويقترفونه باستمرار ويشرعون له، وأنه أكبر جرمًا وأشد فظاعة كما في قوله: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)، وقوله: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: 191].

 

أسلوب القرآن الكريم في دحر هذه الشبهة، ودحض هذه الثغرة، وكتم أصوات المتكلمين بالحق إرادة الباطل بأسلوب راقٍ وحجة قوية وتعبير بديع.

 

ومن خلال هذا الدرس الكبير تبين لنا كيف أن الله –سبحانه- لم يقتصر جوابه -سبحانه- على تساؤلات المشركين وترويجهم لما وقع من خطأ من أصحاب سرية عبد الله بن جحش -رضي الله عنهم-، ولم يفتح المجال للخوض في ذلك، أو أنه ساير هواهم، بل كشف الغطاء ليتحدث عن جرائم مستمرة ممنهجة، وقبائح دائمة مشرعنة، وكأن الله –تعالى- يقول: إن كنتم تتحدثون من منطلق التعظيم للأشهر الحرم، فهذه جرائمكم لا تُعدّ، وتاريخكم المظلم شاهد منه قائم وحصيد، وإن كنتم تستنكرون قتل النفس، فكم قتلتم من نفس وعذبتموها بغير حق! وإن كنتم تقصدون اعتراض القافلة واستحلالها فقد طردتم الرسول وأصحابه واستحللتم ديارهم وأموالهم وأملاكهم والشيء بالشيء يُذْكَر!!

 

وعلى هذا النموذج الرباني والمنهج الإلهي ينبغي أن يسير عليه المسلمون والعالم أجمع في تقييمهم الأخطاء، ونقدهم للآخرين بعدل وإنصاف، بحيث يتم نقد الخطأ حيث كان، وتُذم الجريمة أيًّا كان فاعلها ومصدرها، ولا ينبغي -كما قيل- أن يُصطاد في الماء العكر، أو الكيل بمكيالين، وذلك إن كانت الخطيئة من أفراد المسلمين قامت الدنيا ولم تقعد، وأزبدت أفواه، وتطاولت ألسن، ورأيت الرد الحازم الذي لا هوادة فيه، وكان الله لأفعالهم شديد العقاب، وإن جاءت الجريمة من قبل الكفار أو أعوانهم، ولا تسمع غير المبررات، والدعوة إلى ضبط النفس، والتحذير من الاستعمال المفرط للقوة، وأن على الجهة الفلانية تحمل مسئولية ما يجري، والإعراب عن القلق، ولمست الصمت المطبق، وكان الله لأفعالهم غفور رحيم.

 

ومن هنا حذارِ أن يصبح المسلمون أداة غربية تعمل حيث يحب، وإعلامًا له يروّج له ما يريد، وينشر ما يتبناه ويستحسنه، فمتى استنكر الغرب واقعةً استنكرها المسلمون!! ومتى صمت وغض الطرف عن وقائع لا حصر لها صمتنا كذلك!! وكما قيل:

 

قتل امرئ في ريبة جريمة لا تُغتفر *** وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر

 

كما أنه يجب على المنصف العادل ألا يحكم في قضية معاصرة لها علاقة عميقة وصلة كبيرة بالواقع العام دون ربطها به، ولا يصح البت فيها منفصلة أو مجردة عن سياقها الزمني والمكاني والعالمي، فمن الفقه الشرعي بل والعدل النظر في واقع الفتوى وبيئتها، وحصر كل المؤثرات فيها وكل ما له علاقة بها.

 

وأخيرًا، أسأل الله –جل وعلا- أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل الكفر والطغيان، كما نسأله -سبحانه- أن ينتصر للمظلومين من المسلمين، وينتقم لهم ممن ظلمهم وبغى عليهم، وأن يعجّل بنصرهم، وأن يأذن لكتابه أن يحكم في الأرض وأن يسود!!

 

وسلامٌ على المرسلين والحمدلله رب العالمين.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات