الأُخُوة بين برود العاطفة والإفراط في المحبة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

فإن الأخوة بلا عاطفة وبلا شوق وحنين في القلب إلى الصديق والأخ الصاحب، أخوة قاصرة يوشك أن تختل أو يعتريها الفتور، والفتور يقود حتما إلى الاستثقال المتبادل، فتثقل الحقوق، وتستصعب الواجبات والطلبات، فالعاطفة الجياشة هي وقود القلوب الذي يديم المحبة ويرفعها لمراقي العلا والسمو، ويخفف على النفس القيام بحقوق الإخوة، بل يجعلها لذة يستلذ بها صاحبها، بحيث تكون سعادته في قضاء مصالح وحاجات إخوانه.

 

 

 

 

 

من أعظم نعم الله -عز وجل- التي امتن بها على عباده المؤمنين؛ نعمة الأُخُوة في الله، قال تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) [آل عمران: 103 ]، وهي نعمة أكبر من كنوز الدنيا وما فيها، قال تعالى: ( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألف بينهم) [الأنفال: 63].

 

فالمحبة بين المؤمنين والتآخي بينهم شأن عظيم وخطر جليل، وهو سمة المؤمنين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) [ الحجرات: 10 ]، وقال أيضا: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) [ الحجر: 47].

 

هذه الأُخُوة الحاصلة بين المؤمنين بفضل الله ومنته سببها الإيمان والعقيدة، وقائمة على الحب في الله عز وجل الذي هو أوثق عرى الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: " أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله عز وجل " ومن ثم فأخوة المؤمنين تزري بأخوة الرحم، ورابطة العقيدة أقوى من رابطة النسب، ولما قال نوح عليه السلام:  (رب إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) قال له ربه -جل وعلا-: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) [ هود: 45 ـ 46 ]، ونظرا للأهمية الكبرى لهذه الرابطة الإيمانية فقد رتب الله -عز وجل- لها عظيم الفضل وجزيل الأجر والثواب، وقرّب أهلها وأحبهم ورفع قدرهم وأعلى منازلهم، حتى أظلهم فيظله يوم لا ظل إلا ظله سبحانه وتعالى، ولو ذهبنا نستقصي الآيات والأحاديث والآثار التي وردت في فضل الأخوة في الله وعظيم ثوابها لما وسعنا هذا المقام.

 

هذه الرابطة الراقية قد يعتريها بعض العوارض المفسدة التي تأخذ من أصلها وتضعف بناءها، فالشيطان يعلم جيدا مكامن قوة الإنسان، وأن أخا صالحا يؤازر أخاه المؤمن وقت الشدائد، ويواسيه وقت المحن خير من كنوز الدنيا وإخوة المصالح وروابط الدنيا جميعا، لذلك فهو يجلب على هذه الرابطة بخيله ورجله يبغيها السوء والضرر، ومن أهم هذه العوارض المفسدة؛ الخلل الذي قد يقع في ترجمة المحبة، بين مفرّط ومُفرط، أي بعبارة أخرى بين برود العاطفة والإفراط فيها.

 

أولا: برود العاطفة

 

فإن الأخوة بلا عاطفة وبلا شوق وحنين في القلب إلى الصديق والأخ الصاحب، أخوة قاصرة يوشك أن تختل أو يعتريها الفتور، والفتور يقود حتما إلى الاستثقال المتبادل، فتثقل الحقوق، وتستصعب الواجبات والطلبات، فالعاطفة الجياشة هي وقود القلوب الذي يديم المحبة ويرفعها لمراقي العلا والسمو، ويخفف على النفس القيام بحقوق الإخوة، بل يجعلها لذة يستلذ بها صاحبها، بحيث تكون سعادته في قضاء مصالح وحاجات إخوانه.

 

وبعض الناس يميل إلى إلغاء هذه الجوانب العاطفية من معاني الأخوة بحجة أن المحبة هي الطاعة والقيام بالحقوق والواجبات وفقط، وهو قول صحيح بلا ريب، ولكن من قال أن العاطفة ليست جزء من المحبة الشرعية المأمور بها ؟! ألم يقرأ هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم للصحابة الذين لعنوا مدمن الخمر الذي كان يؤتى به للجلد مرة بعد مرة: " لا تعلنوه فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ".

 

وابن تيمية -رحمه الله- يبين بإنصاف أهل العلم المعتبرين أن المتلبسين ببعض البدع مثل بدعة المولد النبوي قد يحصل لهم من الثواب والأجر بسبب ما في قلوبهم من محبة وتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل من الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلىّ من نفسي، وأحب إلي ّمن أهلي، وأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك " فلو كان ما يربط هذا الصحابي بالرسول -صلى الله عليه وسلم- من معاني المحبة طاعته فذلك ينتهي بانتهاء الدنيا ،إذ لا تكليف في الجنة، ولكن في قلب هذا الرجل عاطفة وشوق لرسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لا ينقطع ولا يزول بانتهاء التكليف.

 

ولاشك أن صدق العاطفة يورث الفرحة بلقاء الإخوان، كما أن إظهار الفرح باللقاء ينمي العاطفة، لذلك قال صلى الله عليه وسلم لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلق أخاك بوجه طلق " وقال " تبسمك في وجه أخيك صدقة " والعاطفة الصادقة هي التي تجعل المحب يؤثر أحبابه على نفسه ولو بما به قوام الحياة، ويخاف عليهم كما يخاف على نفسه أو أشد، ويضحي براحته ليريح أخاه، ويضحي بماله ليمنح أخاه، بل ويعرض حياته للخطر حماية لحياة أخيه. ولعل أوضح مثال على ذلك اللقاء التاريخي بين المهاجرين والأنصار وكان بلا نسب ولا سبب من أسباب الأرض، ونوادر التفاني في المحبة والخدمة والإيثار بلغت حدا أُنزل فيه قرآنا من السماء يتلى إلى قيام الساعة.

 

هذه العاطفة إذا خفتت يوما أو أصابها عارض الفتور فإنها حتما ستؤثر على رابطة الأخوة الراقية، وسيظهر أثر هذا الفتور في إهمال الحقوق والتراخي عن الواجبات وزيادة الجفوة والفجوة بين المتآخيين، ومع الوقت يفقد صاحب العاطفة الباردة الشعور بقيمة إخوانه، وبالتالي لا يشعر بمصاب فقد أحدهم، بل يفرّط في هذه الأخوة بمنتهى السهولة، قال خالد بن صفوان: " إن أعجز الناس من قصّر فيطلب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم " وقال بعض الحكماء: " من لم يرغب في الإخوان بلي بالعداوة والخذلان "

 

ثانيا: الإفراط في المحبة

 

الخصال الكريمة والأخلاق الفاضلة وسط بين طرفين، وما من محمودة إلا وهي بين مذمومتين، وكما أن برود العاطفة من  قوادح الأُخُوة ومفسداتها، فإن الإفراط في المحبة من قوادحها ومفسداتها أيضا، والمراد بها توقي التكلف بالصاحب وشدة التعلق والولع به حتى تخرج المحبة عن الأطر الشرعية والطريقة المحمدية، ويتحول لنوع من العشق والمحبة المرضية التي عادة ما تكون للصور والعلائق أكثر منها بالقلوب والحقائق.

 

وهذه المحبة المرضية تجعل صاحبها يحمل نفسه فوق طاقتها، وقصر النفس على خدمة صديقه والانقطاع لمصالحه، بصورة تؤدي لفساد أحواله وتعطل مصالحه وتفريطه في واجباته المنوط به أداؤها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغضيك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما" يعني أن العواطف لابد أن تكون رشيدة ومنضبطة، بلا إفراط ولا تفريط، سواء كانت بالسلب أو الإيجاب. قال عمر -رضي الله عنه-: "لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا"

 

فلا شك أن التعلق بالأشخاص أمر مذموم، وهو من مصائد الشيطان التي يصيد بها قلوب بني آدم، فيلهيها عما خلقت له من محبة الله ومعرفته والأنس به والشوق إلى لقائه، فلا يبقى مع هذا الداء الخطير في قلب العبد حظ لربه جل وتعالى، بل حتى العبادات المحضة التي يتقرب بها العبد لمولاه يكون فيها قلب الشخص المتعلق هائماً مع من يحب. ومن مضار هذا التعلق أنه قد يوقع المرء في الشرك دون أن يدري، ونقصد بالشرك هنا شرك المحبة، فيشرك هذا الشخص حبيبه في عبادة من أهم عبادات القلب التي تصرف لله تعالى وحده!! ولذلك يحرص الشيطان على تزيينها في قلب العبد، ويلبسها لباس الأخوة في الدين والمحبة في الله، وشتان بين هذا وذاك.

 

وهذه قصة من مصارع بعض من أفرط في محبته حتى خرج إلى أكبر الكبائر والعياذ بالله،  وهو "أحمد بن كليب النحوي، وهو أديب شاعر مشهور الشعر، ولا سيما شعره في "أسلم بن عبد العزيز " وكان قد أفرط في حبه حتى أدَّاه ذلك إلى موته، وخبره في ذلك مشهور رواه المؤرخون جميعا تقريبا، فقد قال "محمد بن الحسن المذحجي ": كنت أختلف في النحو إلى أبي عبد الله محمد بن خطاب النحوي في جماعة، وكان معنا عنده أبو الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد بن قاضي الجماعة؛ أسلم بن عبد العزيز، صاحب المزني والربيع، قال محمد بن الحسن: وكان من أجمل من رأته العيون، وكان يجيء معنا إلى محمد بن خطاب أحمد بن كليب، وكان من أهل الأدب البارع، والشعر الرائق، فاشتد كلفه بأسلم، وفارق صبره، وصرف فيه القول متستراً بذلك إلى أن فشت أشعاره فيه وجرت على الألسنة، وتنوشدت في المحافل،  فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته والجلوس على بابه؛ فلما يئس أحمد بن كليب من رؤيته البتة نهكته العلة، وأضجعه المرض؛ قال محمد بن الحسن: فأخبرني أبو عبد الله محمد بن خطاب شيخنا، قال: فعدته فوجدته بأسوأ حال، فقلت له: ولم لا تتداوى؟ فقال: دوائي معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم فيَّ البتة، فقلت له: وما دواؤك؟ فقال: نظرةٌ من أسلم، فلو سعيت في أن يزورني لأعظم الله أجرك بذلك، وكان هو والله أيضا يؤجر، قال: فرحمته وتقطعت نفسي له، ونهضت إلى أسلم، فاستأذنت عليه، فأذن لي وتلقاني بما يجب،  ومازال يلح عليه في زيارته حتى وافق مكرها من باب زيارة المريض، فانصرف إلى أحمد بن كليب، وأخبرته بموعده بعد تَأَبِّيهِ، فَسُرَّ بذلك، وارتاحت نفسه، قال: فلما كان الغد بكرت إلى أسلم وقلت له: الوعد، قال: فوجم وقال: والله لقد تحملنى على خطة صعبة علي، وما أدرى كيف أطيق ذلك؟ قال: فقلت له لابد من أن تفي بوعدك لي، قال: فأخذ رداءه ونهض معي راجلا، قال: فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يسكن في آخر دربٍ طويل، وتوسط الدرب، وقف واحمر وخجل، وقال لي: الساعة والله أموت، وما أستطيع أن أنقل قدمى، ولا أن أعرض هذا على نفسي، فقلت: لا تفعل، بعد أن بلغت المنزل تنصرف؟ قال: لا سبيل والله إلى ذلك البتة، فرجعت ودخلت إلى أحمد بن كليب، وقد كان غلامه دخل عليه إذ رآنا من أوَّل الدَّرب مبشراً، فلما رآني تغير وقال: وأين أبو الحسن؟ فأخبرته بالقِصَّة فاستحال من وقته واختلط، وجعل يتكلم بكلام لا يعقل منه أكثر من الترجع، فاستشنعت الحال، وجعلت أترجع وقمت، فثاب إليه ذهنه وقال لي: أبا عبد الله! قلت: نعم. قال: اسمع مني واحفظ عني، ثم أنشأ  قائلا:

 

أسلم يا راحة العليل *** رفقاً على الهائم النحيل

وصلك أشهى إلى فؤادي *** من رحمة الخالق الجليل

 

قال: فقلت له: اتق الله! ما هذه العظيمة؟!!، فقال لي: قد كان؛ قال: فخرجت عنه، فوالله ما توسطت الدرب حتى سمعت الصراخ عليه، وقد فارق الدنيا.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات