الخطباء وأسلوب الإقناع العاطفي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

الإقناع الخطابي الذي يستخدم فيه الترغيب والترهيب بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كله حق وصدق بذاته ومآلاته سواء أدركه الإنسان إدراكاً كاملاً أو جزئيّاً ومن اعتقد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمدح عملاً على سبيل الترغيب أو يذمه على سبيل الترهيب بمجاوزة في موضعه وزيادة في نعته فقد قال قولاً عظيماً بل قد كفر بالله ورسوله إن فهم مضمون كلامه و أصر عليه كما قال أهل العلم.

 

 

 

 

للنفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير فتحتاج إلى إقناع عقلي, وقوة وجدان فتحتاج إلى إقناع عاطفي , ويعد التوجه إلى العاطفة مؤازراً في أساليب الإقناع والتأثير في القرآن الكريم للتوجه إلى العقل, فإذا كان العقل لا يسهل قياده في بعض الأحيان  مهما وضحت الحجة وعلت في صحتها وثبوتها فإن العاطفة تكون حينئذ عوناً على استمالة المدعو واجتذابه فهما أسلوبان يدخل منهما نور الهداية ومعاني الخير والرشاد لكن بطريقين مختلفين شكلاً متفقين هدفاً ، ومن ثم فقد توجب على الخطيب أن يشحن بطاريته الخطابية بهذا الأسلوب الراقي من الإقناع الذي يتخلل النفوس تخلل الماء في الزرع ، ويهز القلوب هز الريح للشجر.

 

هذا الأسلوب الخطابي في الإقناع يسمى بالأسلوب العاطفي لأثره على العاطفة التي عرفها علماء النفس بأنها: " استعداد نفسي ينزع بصاحبه إلى الشعور بانفعالات معينة والقيام بسلوك خاص حيال فكرة و شيء ".

 

كما يمكن تسميته بالوجداني لأثره في الوجدان الذي هو: " ضرب من الحالات النفسية من حيث تأثرها باللذة أو الألم في مقابل حالات أخرى تمتاز بالمعرفة والإدراك ".

 

وأيّاً كان الأمر فإن المقصود هو الإقناع والتأثير العاطفي في مجال الخطابة هو محاولة الدفع إلى الخير والإبعاد عن الشر باستثارة العاطفة التي تحكم في ذلك محبة أو كرها رغبة أو رهبة  مقابل القرار العقلي أو الحكم العقلي.

وهذه المقابلة ليست حدّاً مانعاً من التقاء الجانبين  - أي العقل والعاطفة -وإنما هي مقابلة نسبية لإيضاح مدخل الإقناع والتأثير وليس مستقره أو   إدراكه.  

 

وسند هذا الأسلوب واتخاذه أسلوباً في الإقناع والتأثير في مجال الدعوة مأخوذ من قوله تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) [ النحل: 125 ] فالوعظ: " أمر ونهي بترغيب وترهيب " والموعظة الحسنة: " هي المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل ". أما الصنف الذي توجه إليه فإنها توجه إلى من عنده هوى يصده عن الحق، أو نوع غفلة وتأخر في التزامه.

 

ومن أبرز الأساليب العاطفية المستخدمة في الوعظ والإرشاد والخطابة؛ أسلوب الترغيب والترهيب ، حيث يعتبر أسلوب الترغيب والترهيب من أهم أساليب الإقناع العاطفي التي يستخدمها الخطباء في دعوة الناس وتغيير سلوكياتهم ، فأن الإنسان – أي إنسان - قد يدعوه هوى أو غفلة إلى ترك خير أو ارتكاب شر دون معاندة للحق أو جحود له, قال ابن القيم - رحمه الله - في سفره الحافل مدارج السالكين: " إنما يشتد افتقار العبد إلى العظة وهي الترغيب والترهيب إذا ضعفت إنابته وتذكره وإلا فمتى قويت إنابته وتذكره  لم تشتد حاجته إلى التذكير والترغيب والترهيب ولكن تكون الحاجة منه شديدة إلى معرفة الأمر النهي والعظة يراد بها أمران  الأمر والنهي المقرونان بالرغبة والرهبة ونفس الرغبة والرهبة فالمنيب المتذكر  شديد الحاجة إلى الأمر والنهي والمعرض الغافل شديد الحاجة إلى الترغيب والترهيب ".  

 

ومنفعة الأمر والنهي المقترن بالترغيب والترهيب تتجاوز المقصر والغافل إلى العالم والمؤمن الذي بلغ شأناً في العلم والإيمان كما أشار ابن القيم وها هو محمد عليه الصلاة والسلام يرغب أصحابه في الخير وينفرهم من الشر ولو أغنى أحد عن ذلك علمه ويقينه وعلو شأنه لكان أغنى الناس هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.   

 

 الإقناع الخطابي الذي يستخدم فيه الترغيب والترهيب بما ورد في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -  كله حق وصدق بذاته ومآلاته سواء أدركه الإنسان إدراكاً كاملاً أو جزئيّاً ومن اعتقد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمدح عملاً على سبيل  الترغيب أو يذمه على سبيل الترهيب بمجاوزة في موضعه وزيادة في نعته فقد قال قولاً عظيماً بل قد كفر بالله ورسوله إن فهم مضمون كلامه و أصر عليه  كما قال أهل العلم.

 

وقد صنف العلماء كتباً حوت كثيراً من النصوص الشرعية وخاصة من السنة النبوية المتصلة بالترغيب والترهيب أبرزها كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري - رحمه الله -.  

 

يعرف الترغيب بأنه: " كل ما يشوق المدعو إلى الاستجابة وقبول الحق والثبات عليه ". ويمكن أن يكون ذلك بالوعد بالثواب والتحبيب في الفعل.أو في ذكر الثواب والتنبيه على المنافع. أما الترهيب فإنه: " كل ما يخيف ويحذر المدعو من عدم الاستجابة أو رفض الحق أو عدم الثبات عليه بعد قبوله " ويمكن أن يكون ذلك بالوعيد بالعقاب والتنفير من الفعل ، أو  في ذكر العقاب والتنبيه على المساوئ.

 

وهناك أمثلة كثيرة من الكتاب والسنة ومن ذلك:

 

في الترغيب:

 

قوله تعالى في الحث على الدعوة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) [ التوبة 71] وقوله تعالى في الحث على العمل الصالح: ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) [ النساء 124] وقوله تعالى في الحث على التقوى والترغيب بها: ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) [ الطلاق: 2ـ3]

 

ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الحث على تآخي المؤمنين: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه, ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته،  ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة, ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ". وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه - في الحث على الاجتهاد في الدعوة: " ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن تكون لك حمر النعم " . وقوله عليه الصلاة والسلام في الترغيب في الدعاء آخر الليل: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له ". فانظر إلى أثر ذلك في النفس المؤمنة الموفقة واستجابتها لما جاء في تلك النصوص خاصة إذا أحسن الخطيب إلقائها ووظف إمكاناته الصوتية جيدا من علو وخفض حسب الوعد والوعيد.

 

وفي الترهيب مثلا:

 

قوله تعالى في التحذير من الإعراض عن الحق ) فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) [ فصلت 13 ].وقوله تعالى في التحذير من عدم الاستجابة لله تعالى: ( للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد ) [ الرعد: 18 ].  وقوله تعالى في الترهيب من التهاون في الصلاة الصدقة والخوض في الباطل والتكذيب بيوم القيامة: ( إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر* قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين ) [ المدثر: 38 ـ 47].

 

ومن السنة ما جاء في التحذير من ترك الجمعة قوله صلى الله عليه وسلم: " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين ". وقوله عليه الصلاة والسلام في التحذير من منع الماء عن ابن السبيل ونقض البيعة الشرعية والحلف كاذباً: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم   ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه ابن السبيل ورجل بايع رجلاً لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له ورجل ساوم رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا فأخذها ".

 

وقوله عليه الصلاة والسلام في التحذير من عدم النصح للرعية: "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة ".

 

ضوابط استخدام أسلوب الإقناع والتأثير العاطفي:

 

يمكن أن نجمل أبرز الضوابط الشرعية لاستخدام أسلوب الإقناع والتأثير العاطفي في مجال الدعوة بالنقاط الثلاث الآتية:

 

أولاً: صحة الدليل، فقد سبقت الإشارة إلى أن مما يميز الموعظة الحسنة الواردة في قوله تعالى  (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة  (هي كونها حقّاً وصدقاً وبما هو حق وصدق, فلا يكون الترغيب أو الترهيب بشيء ليس له أصل في الشريعة, كما في الخيالات والتصورات والأساطير حتى لو كان القصد حسناً.

 

وعلى الرغم من اهتمام علماء الإسلام بصحة الإسناد لروايات السنة النبوية وعدم التساهل فيها في بناء الأحكام الشرعية إلا أنهم تساهلوا في الأحاديث الضعيفة الواردة في باب الترغيب والترهيب لكنهم ضبطوا ذلك ووجهوه بأربعة أمور:

 

الأول: أن لا يثبت كونه الحديث موضوعاً.

 

الثاني: أن يثبت في أصل العمل الوارد في الترغيب به أنه مما يحبه الله وإذا كان في الترغيب أنه مما يكرهه الله بنص أو إجماع.

 

الثالث: أن لا يقصد به الاستحباب أو الكراهية الشرعية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ذلك: " قول أحمد بن حنبل إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد, وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد, وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؛ ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به, فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي, ومن أخبر عن الله أنه يحب عملا من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله, كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم, ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره بل هو أصل الدين المشروع.

 

 وإنما مرادهم بذلك أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله, أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع؛ كتلاوة القرآن والتسبيح والدعاء والصدقة والعتق والإحسان إلى الناس وكراهة الكذب والخيانة ونحو ذلك ، فإذا روي حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا روي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به ".

 

الرابع: أنه خير من ترك المدعو على الخطأ وخاصة الكفر فانتقاله إلى الإسلام بذلك خير من بقائه على الكفر وشبهوه بالرجل يسلم رغبة في الدنيا أو رهبة من السيف فإذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه .

 

ثانياً: الصدق في ذات الخطيب ( الوعد والوعيد )، الوعد أو الوعيد الذي يمارس ترغيباً أو ترهيباً, لا بد أن يكون صادقاً, فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقاً أو كانت فيه خصلة من أربعة كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا عاهد غدر, وإذا خاصم فجر ".

 

ثالثاً: العدل، ليس للإنسان مهما بلغ من حسن النية والرغبة في الخير أن يسيء إلى الآخرين بالترغيب أو الترهيب, وتتمثل الإساءة في ذلك بأحد أمرين:

 

الأول: الظلم ومجاوزة الحد الشرعي, وترك العدل الذي هو التوسط والاعتدال مما يحدث أثراً سيئاً في المدعو,  وبخاصة في الترهيب, الذي قد يلحظ فيه تجاوز الحد بدرجة أكبر, وضابط العدل هنا هو ما جاء في الكتاب والسنة من حيث المحتوى والمناسبة, كما أنه ليس كل ما جاء في الكتاب والسنة يتوجه به إلى كل أحد بنفس القدر, بل يراعى فيه حال المدعو، فالعاصي غير المطيع, والعالم غير الجاهل, والصغير غير الكبير, والوجيه غير العامي, والمسلم غير الكافر, والمحارب غير المستأمن أو الذمي وهكذا.

 

الثاني: ضعف أو عدم التوازن بين الترغيب والترهيب بأن يقدم أحدهما في حين ينفع الآخر بدرجة أكبر, أو أن يجعل كلامه ترهيباً وتخويفاً باستمرار فيصاب الإنسان باليأس والقنوط , أو يجعل كلامه ترغيباً وبشارة على الدوام فيتكل الناس على الرجاء ويضعفون عن العمل, قال ابن كثير - رحمه الله -  في تفسيره: "وقوله: (إن ربك لسريع العقاب ) أي لمن عصاه وخالف شرعه  وقوله: ( إنه لغفور رحيم ) [ الأعراف: 167]  أي تاب إليه وأناب وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة لئلا يحصل اليأس فيقرن تعالى بين الترغيب والترهيب كثيراً لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف  ".  

 

ولذلك نجد الترغيب والترهيب كثيراً ما يقترن ورودهما في كتاب الله تعالى, قال ابن كثير - رحمه الله -: " وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن كما قال تعالى في آخر هذه السورة الأنعام ، وفي سور الرعد والحجر وغافر والبروج وغيرهم من الآيات كثيرة جدا.  وقال رحمه الله: "وقوله   )نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم ([الحجر: 49 ـ 50]

 

إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأكلها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهما لينجع في كل بحسبه، جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر وترك ما عنه نهى وزجر وصدقه فيما أخبر إنه قريب مجيب سميع الدعاء جواد كريم وهاب "

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
محمد احمد محمد محمود
06-07-2020

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أقول لكم جزاكم الله خيرا،لقد استفدت كثيرا من مواضيعك واسلوبك جميلة لقد أشرت الأشياء مهمة جدا فيما يتعلق بأسلوب الخطباء لاستخدامهم بهذه النقاط. مرة أخرى أقول لكم جزاكم الله خيرا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.