العزة المنشودة في تربية الأبناء

يحيى البوليني

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

مهمة تربية الأبناء مهمة شاقة وخطرة، لكنها ذات أجر كبير من الله، فمن أحسن أداءها كان له من الأجر الكثير، ومن أهمل فيها فقد عرَّض نفسه لسؤال الله له -وما أشق وأصعب الوقوف بين يدي الله للسؤال!!- وبميدان تربية الأبناء دروب كثيرة وأساسيات مهمة ربما يمارس بعضها الآباء بالسليقة، وربما يغفل عنها -كلها أو بعضها- الكثير منهم.. وهناك تربية قد يغفل عنها الكثير منهم وهي التربية على العزة والكرامة..

 

 

 

 

مهمة تربية الأبناء مهمة شاقة وخطرة، لكنها ذات أجر كبير من الله، فمن أحسن أداءها كان له من الأجر الكثير، ومن أهمل فيها فقد عرَّض نفسه لسؤال الله له -وما أشق وأصعب الوقوف بين يدي الله للسؤال- وبميدان تربية الأبناء دروب كثيرة وأساسيات مهمة ربما يمارس بعضها الآباء بالسليقة، وربما يغفل عنها -كلها أو بعضها- الكثير منهم، والتربية للأبناء من أهم عوامل غرس الصفات الأساسية في المجتمع الذي يريد أن ينال رضا ربه –سبحانه-، وكذلك أيضًا لمن يريد أن تكون له مكانته السامقة بين المجتمعات.

 

وقد يهتم الأبوان بعناصر كثيرة في التربية، فيهتم بعضهم بالتربية الجسدية لأبنائهم بأن يعلموهم كيفية الحفاظ على صحتهم، وعدم تعريض أجسادهم للخطر، ويهتمون بالتربية المالية فيعلمونهم كيفية الحصول على المال واقتنائه وادخاره وتكوين الثروات، ويهتم كثير منهم بالتربية العلمية فيساعدونهم على التحصيل الدراسي لنيل التفوق فيه والحصول على أعلى الدرجات العلمية، ويهتم بعضهم بالتربية الدينية السلوكية فيعلمونهم أركان الدين ويحفظونهم قدرًا من القرآن الكريم.

 

 وغير ذلك من عناصر التربية التي يهتم بها الأبوان في أدائهم لهذه المهمة الجليلة التي يقومان بها، وكل هذه الأقسام من الاهتمامات محمودة ولا شك، بل هو واجب على الآباء والأمهات الاهتمام بها، ولكن هناك تربية قد يغفل عنها الكثير منهم وهي التربية على العزة والكرامة وهي الصفات التي تعتبر ذات أهمية بالغة التأثير في شخصية الأبناء وتستمر معهم طول حياتهم.

 

فالعزة بمفهومها الشامل شعور نفسي بالاستعلاء على الدنايا والسفاسف؛ فيستغني بها المرء عما في أيدي الناس، يحفظ كرامته من أن تهدر في تصرف خاطئ تلبية لرغبة أو شهوة نفسه، وتدفعه للمطالبة بحقه فلا يتنازل عنه عن ضعف وخور، تمكنه من أن يعفو عمن ظلمه عن قدرةً واستطاعة لا عن خوف وجبن، توفر له القدرة والاستقلالية في اتخاذ قرارات في حياته لا يتأثر فيها برضا الناس أو سخطهم ما دامت هذا القرارات لا تغضب ربه.

 

ولا يشغله مراقبة الناس في أفعاله بقدر ما يشغله مراقبة ربه العليم البصير عليه؛ فيفعل الخير منفردًا أو في جمع من الناس، ويبتعد ويلفظ فعل الشر أو المعيب أيضًا دون نظر إلى الناس، يحترم ذاته فلا يتدخل فيما لا يعنيه حتى لا يسمع ما لا يرضيه، يكون رجل مبادئ ومواقف لا رجل مصالح وأعطيات، لا يرتبط تقييمه للناس أو الأحداث بمقدار استفادته بل تربط تقييمه بمعيار قوي وواضح وثابت وهو ما يرضي ربه سبحانه فلا يكون ممن قال الله فيهم: (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) [التوبة :58].

 

يقول الحق ويلتزم العدل حتى لو كان على نفسه أو أقرب الأقربين منه، ولا تمنعه العداوة من الإنصاف، ولا تصرفه المحبة للإجحاف (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..) [المائدة:8].

 

 لا يقتصر نفعه على نفسه فقط بل يتعدى لغيره، فينتصر للمظلوم حتى لو كان مخالفًا له في رأيه وفكره أو ديانته، ويقف للظالم حتى لو كان حبيبًا مقربًا، يطلب الأشياء بعزة نفس لعلمه أن كل الأمور مقدَّرة سلفًا فلا يستذل نفسه لمخلوق، ولا يطلب إلا من ربه بداية ويحمد ربه على كل حال بعدها.

 

هذه التربية المفتقدة لمعظم أجيالنا التي تربت على الخوف والقهر والسكوت عن الظلم والرضا بالواقع مهما كان مُرًّا وتقييم المواقف والأشخاص على قدر المنافع والمصالح التي يجنيها الإنسان من ورائهم، تلك التربية التي لا بد أن نُحييها حتى لو كانوا مفتقدينها -جزئيًّا أو كليًّا- في أنفسنا كجيل آباء وأمهات.

 

ولا بد أن نتعاون على استخراجها كمربين من بطون المواقف والأحداث، ويساند بعضنا بعضا فيها حتى تكون شعورًا عامًّا يسري في مجتمعاتنا، فقوة المجتمع تنبع من هنا، وقوة المجتمع تظهر في قوة أفراده القادرين على حمل لواء نهضته بفكر راقٍ ومنظم وبنفسيات لا تعرف الذلة والخنوع والاستكانة، ولكنها -رغم كل هذه القوة المندفعة- تقف ثابتة أمام سياج لا تتعداه وهو حدود الشرع بالمحافظة على ثوابت الدين وحماية الأوطان وجمع شمل الأمة لا تفريقها.

 

إن الأم التي تظن أنها حينما تريد أن تفرض النوم على طفلها بأن تحكي له قصصًا مرعبة من وحي الخيال لا تدرك أنها تزرع أول بذرة سيئة في نفسية طفلها بأن يعتاد الخوف وأن يقبل به كمحرك لسلوكياته، فلم يذكر عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- شيء من ذلك أنه سمع به وأقره، فلا يحدث مثل هذا إلا في المجتمعات الضعيفة الجاهلة التي لا تريد أن تستفيق من كبوتها، والتي تريد أبناء لا ينجزون وظائفهم الدراسية إلا خوفًا من عقاب المدرسين، ولا ينجزون أبحاثهم العلمية إلا خوفًا من الرسوب الدراسي، ولا ينجزون أعمالهم بعد تخرجهم إلا خوفًا من الفقر أو الطرد من الوظائف أو من معاقبة مديريهم.

 

 ولا يفعلون السلوكيات الصحيحة إلا خوفًا من نظرة الناس لهم - فإذا غادروا بلدانهم وأمنوا نظر الناس ارتكبوا كل أو معظم المنكرات، ولا يحسنون عبادتهم لله إلا بعد تخويف أو وعيد من العلماء والوعاظ، أو بعد حدوث حادث كبير مخيف في دائرة معارفهم، ولهذا فالتربية على الخوف وحده لا تصنع رجالاً ولا أبطالاً، بل تصنع عبيدًا عاجزين لا يستطيعون إنجاز شيء إلا بضغط وإهانة وإذلال وإهدار كرامة.

 

وفي أسمى علاقات المؤمن وهي علاقته بربه –سبحانه- لا تبنى على الخوف وحده، بل يكاد الخوف وحده أن يوقع بالمسلم في كبيرة اليأس من رحمة الله، وأكاد أجزم أنه ما من آية أو مجموعة آيات في القرآن الكريم نجد فيها تخويفًا وعذابًا إلا وتأتي معها آيات ترغيب ورجاء؛ لتستقيم النفس البشرية بين الخوف والرجاء، ويتكرر ذلك في القرآن كله فهما جناحا طائر لا يمكن للمؤمن أن يطير بأحدهما دون الآخر (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة:16]، (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90]، وأمثلته كثيرة في القرآن.

 

ولم يذكر ربنا سبحانه كلمة الذل على سبيل الأمر به والمدح لفاعله في كتابه الكريم إلا في موضع واحد، وهو في علاقة المسلم بوالديه (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء:24]، ولكن الله سبحانه أتبعها بأن هذه الذلة الواجبة للوالدين مشروطة بعدم طاعتهما في معصية الله سبحانه (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً...) [لقمان:15]، فالذلة المحمودة ههنا ذلة تعامل وخفض صوت وإجلال وإكبار للوالدين، لكنها أبدًا لن تكون وصاية عقائدية ولا فكرية، وخاصة عندما يراه المؤمن بيقين أن والديه يأمرانه أمراً ظاهراً وبيّناً بمعصية ربه، وأقصى المعاصي الشرك بالله.

 

وتكون عزة المؤمن بكل ما أعطاه الله، وأعظم العطايا الإيمان والتقوى، فتكون عزته حينها على المنكرين للإيمان المتهكمين على الشرع الإسلامي الذين يوالون أعداءه، ولا تكون أبدًا تلك العزة على المؤمنين حتى لو كانوا قليلي العلم، أو حتى المقصرين في الطاعات جهلاً لا عنادًا واستكبارًا، فيستعلي المؤمن بإيمانه على العصاة المجاهرين ويريهم استصغارًا لهم ولما يمتلكون، فيحرص على ألا يعظم في نفسه الذين يتشدقون بالكلمات والأفكار المسيئة للدين والمناهضة له حتى لو حملوا أعلى الشهادات العلمية أو حازوا أرقى المناصب الدنيوية أو امتلكوا أعلى الثروات، فيكبر في عينيه الطائع حتى لو كان قليل العلم والجاه والمال، ويستعلى بإيمانه على المعادين المناوئين مهما بلغوا.

 

ولتكن نظرة التقويم للناس -كل الناس- هي الطاعة والمعصية، فالعز كل العز في طاعة الله، والذل كل الذل في معصيته، فكما قال ربنا سبحانه (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء: 139].

 

 ولتكن نظرة المؤمن للناس كنظرة الحسن البصري -رحمه الله- حين قال: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه"، ولهذا استمر دعاء الصالحين باستعلائهم الإيماني "اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك".

 

والعزة حسنة بين سيئتين، فهي تتوسط بين الذل والخنوع وبين التكبر والخيلاء، فالله عز وجل لا يحب عبده الخانع الذليل الذي يذل نفسه لغير خالقه، بل وسماهم في كتابه الكريم بظالمي أنفسهم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النساء :97]، فلماذا لم يقاوموا الظالم ابتداء؟، ولِمَ استكانوا فلم يحاولوا الخروج من تلك البلدة الظالمة، ولماذا قبلوا على أنفسهم أن يستذلوا ويستعبدوا، وذلك بعد استثناء أصحاب العجز الحقيقي المعذورين، فيقول صاحب الظلال -رحمه الله-: "إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم على قبول الذل والهوان والاستضعاف، والفتنة عن الإيمان، إنما كان هناك شيء آخر حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر، وهناك دار الإسلام، ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة، والهجرة إليها مستطاعة؛ مع احتمال الآلام والتضحيات".

 

والسيئة الأخرى هي التكبر والخيلاء الذي نهى الله –سبحانه- المؤمنين عنه، (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:72]، وفي الحديث الذي صححه الألباني من مسند الإمام أحمد يقول أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار ».

 

والمتكبر يتكبر على خلق الله بما وُهب له من ربه، ولم يكن له في وصوله إليه حيلة، ولا يملك دفع الضر عن نفسه ولا عما وُهب من النعم، ويتكبر على الجميع مؤمنهم وكافرهم لسوء في خُلقه وضَعَة في نفسه. والمؤمن العزيز غير الصنفين تمامًا فلا يكون بالخانع الذليل ولا بالمتكبر المتغطرس.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات