العشر الأخير والأسواق

عامر الهوشان

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

لا بد أن نعلم بداية أن الغنم بالغرم، وأن المسلم لا بد أن يضحي بشيء من الدنيا: للحصول على رضا الله في الآخرة، وأن الجنة: حفت بالمكاره، وأن النار: حفت بالشهوات، فطبيعي أن يضحي المسلم ببعض المكاسب الدنيوية من أجل المكاسب الأخروية، وإن كنت أجزم بأن من قدم طاعة الله تعالى على مكاسب الدنيا المادية، عوضه الله تعالى خيرا في الدنيا والآخرة.

 

 

 

 

إذا كان شهر رمضان: الكريم هو موسم العبادة والطاعة وفعل الخير، فإنه في نفس الوقت: موسم التجارة والربح، موسم البيع والشراء عند أصحاب المصالح والبضائع، وإذا كان البيع والشراء وحركة التجارة بشكل عام تزداد من أول رمضان، فإنها في العشر الأخير منه تصل إلى ذروتها وقمة نشاطها، نظرا لقرب انتهاء رمضان ودنو أيام عيد الفطر السعيد.

 

والناظر للأسواق في مثل هذه الأيام، يكاد يجزم بخلو البيوت من سكانها، نظرا لشدة الزحام الذي يراه، بحيث لا يكاد السوق يتسع لمزيد من الوافدين أو الزائرين، الأمر الذي يبدو متعارضاً مع ما هو مطلوب في هذه الأيام المباركة، من الاعتكاف والتفرغ للعبادة والطاعة المستحب في العشر الأخير من رمضان، كما هو معروف ومشهور من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله.

 

فقد ورد عن السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ اَلْعَشْرُ -أَيْ: اَلْعَشْرُ اَلْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ- شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ" (متفق عليه).

 

وورد أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يترك الاعتكاف في العشر الأخير من رمضان، وقد كان يفعل الأمر -من النافلة والسنة- ويتركه، فقد ورد عن السيدة عائشة: رضي الله عنها: "أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ اَلْعَشْرَ اَلْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اَللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ" (متفق عليه).

 

فما هو الحل بالنسبة للبائع والمشتري في مثل هذه الحالة؟!

 

بداية لا بد من التأكيد بأن الاعتكاف سنة وليس فرضًا، إلا أنه سنة مؤكدة لم يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، بينما فعل بعض السنن الأخرى وتركها، مما يدل على أهميتها في حياة المسلم، خاصة إذا كان تاجراً أو صاحب أعمال، فأمثال هؤلاء قد ينشغلون طوال العام بأعمالهم وتجارتهم، ولن تكون هناك فرصة أثمن من هذه الأيام العشر للاعتكاف والتفرغ لبعض الطاعة والعبادة، فإن ضيعوها فقد لا يتمتعون بحياة متوازنة بقية العام، وأقصد بالتوازن هنا التوازن الروحي العاطفي، النصف المكمل للمادي والجسدي، فكما أن للتجارة الدنيوية موسم لا يمكن تدارك خسارته إذا ضيعه التاجر، فكذلك للقلوب والأرواح مواسم، إذا ضيعها تجار الآخرة، فالخسارة والندامة أكبر وأشد.

 

والآن يمكن أن نضع بعض النقاط التي قد تساعد الجميع على التفرغ ولو جزئيا للاعتكاف والتفرغ للطاعة والعبادة في هذا العشر الأخير من الشهر الفضيل:

 

1- لا بد أن نعلم بداية أن الغنم بالغرم، وأن المسلم لا بد أن يضحي بشيء من الدنيا: للحصول على رضا الله في الآخرة، وأن الجنة: حفت بالمكاره، وأن النار: حفت بالشهوات، فطبيعي أن يضحي المسلم ببعض المكاسب الدنيوية من أجل المكاسب الأخروية، وإن كنت أجزم بأن من قدم طاعة الله تعالى على مكاسب الدنيا المادية، عوضه الله تعالى خيرا في الدنيا والآخرة.

 

2- لا بد أن نعترف بأننا وحدنا نتحمل مسؤلية تلك العادات السيئة التي لازمت حياتنا طوال الفترة السابقة، وأنه يمكن ببعض الوعي تبديل تلك العادات والتقاليد، فمن قال أن أمتعة العيد وحاجياته من ثياب وحلوى وما شابه، لا يمكن إحضارها إلا في أيام العشر الأخير من رمضان.

 

ألا يمكن شراء تلك الحاجيات قبل أن يدخل رمضان أصلاً، ليكون استقبالنا لرمضان بأكمله خالياً من أي مشاغل أو مسؤوليات، ناهيك عن العشر الأخير منه، ألا يمكن أن ينشء المسلمون أمثال هذه الظاهرة الصحية، التي تجعل من رمضان موسماً للطاعة والعبادة والرجوع إلى الله، والبعد عن الأسواق إلا للحاجيات اليومية الضرورية.

 

3- من المعلوم أن السوق تتفاعل إيجاباً وسلباً مع قانون العرض والطلب، فما دام الطلب على الملابس والحلوى والحاجيات وغيرها من لوازم العيد يزداد قبل العيد بأيام، أي في العشر الأخير من رمضان، فإن الأسعار لا بد أن تزداد، كما أن التاجر سينشغل أكثر فأكثر في سوقه ومتجره، مما يدخل الجميع في دوامة السوق والدنيا، والانشغال عن الاعتكاف والعبادة.

 

ولا بد لحل هذه المشكلة من التفاعل العكسي مع قانون العرض والطلب، أي بتقليل الشراء في هذه الأيام، مما ينقص من الطلب، الأمر الذي يعني نقصانا في الأسعار، وتفرغ التجار وأصحاب المحلات والعاملين فيها للاعتكاف ولو جزئيا للطاعة والعبادة.

 

4- بما أن عادات الأمم والشعوب لا تتغير بين ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى سنوات وربما عقود -حسب درجة إدراكها ووعيها وتفاعلها- فلا بد من إيجاد حلول مبدئية لأولئك الذين يريدون أن يعتكفوا ويتفرغوا للطاعة والعبادة في العشر الأخير من رمضان، ولكنهم لا يستطيعون بفعل ارتباطهم بأعمالهم وتجارتهم، التي تزداد في تلك الأيام، فماذا يفعلون؟!

 

يمكن لأمثال هؤلاء أن يتبعوا واحدا من أمرين اثنين:

- إما أن يضحوا بمكاسب الدنيا مقابل مكاسب الآخرة كما أوضحنا في النقطة الأولى، متبعين ما ورد في الأثر: «ما ترك عبد الله أمرا لا يتركه إلا لله إلا عوضه الله ما هو خير له منه في دينه ودنياه» (رواه ابن عساكر من حديث ابن عمر مرفوعاً، الدرر المنثورة للسيوطي [1/19])·

 

- وإما أن يتبعوا أضعف الإيمان: في الاعتكاف، وهو ما يُسمّى بالاعتكاف الجزئي، أي أن يقتطعوا وقتاً من أعمالهم، والأفضل أن يكون ليلاً في مثل هذه الأيام، للتفرغ لصلاة التراويح والليل، وللدعاء وتلاوة القرآن والذكر، بينما يكون النهار للعمل.

 

إن الفرص الذهبية التي تمر بالمسلم للتوبة والإنابة والاصطلاح مع الله قد لا تتكرر، فمن يدري لعل الواحد منا لا يدرك رمضان القادم، بل ربما لا يدرك بقية هذه الأيام المباركة العظيمة التي نعيشها الآن، فالدنيا لا تستأهل منا كل هذا العناء والوقت والجهد، بينما تستأهل الآخرة منا التضحية والإيثار والاغتنام، فهلّا اغتنمنا هذه الأيام المباركة! وهلّا شمرنا إلى الجنة؟!

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات