شهر رمضان .. جهاد مسْتبْصر

صفية الودغيري

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وهذا السباق يهدي الصّائمين إلى اسْتشراف مقاصد الصّيام وغاياته النبيلة، واسْتلْهام نعمه السّابغة بعد جولةٍ إيمانية يتقلّبون فيها بين حالتيْ اليسْر بعد العسْر، والراحة بعد المشقّة تجْتلي الحقيقة من معاني الجهاد   المضْني لساعات من الصّيام، فيتعلّمون أنّ لكلّ عمل مشقّةً محدودة، وثوابًا مضاعفًا يسْتدْعي انْضباط النفس   والْتزامها بالطاعة كمنهج حياة آمنة..

 

 

 

 

إن حياة الصائمين جهاد المسْتبْصرين للحقّ وللعدل، ولسنن الله الكونيّة التي تثبت مصداقيّتها وتجدّدها، وانْبعاثها مع كلّ حركةٍ من حركات دوران السّاعات حول قطْب الزّمن.
 
إنّ حياة الصائمين حياةٌ حافلةٌ بالجهاد والنّضال الذي هو من صفات الأقوياء، من تحلّوْا بامْتلاك أسباب القوّة الماديّة والمعنويّة، في تكامل يصلهم بإدْراك معاني الانتصار الحقيقيً الذي يخلّد بصماته المشرقة على صفحات حياتهم ووجودهم الإنساني، الذي من شروطه الالتزام والوفاء لحكمه سبحانه: (يا أيّها الّذين آمنوا إن تنصروا اللّه ينصرْكمْ ويثبّتْ أقْدامكمْ) [محمد:7].

 

1ـ الصيام امْتلاك للقوة المتكاملة

 

إنّ الصّيام يمنح الصّائمين قوّةً متكاملة، وتوازنًا يهيْمن على حواسّهم ويضْعف طاقتها المفْرطة في الإقبال على الشّهوات، فيتغلّبون عليها في نضالٍ يمتدّ إلى بقيّة الفصول والشهور التي يتعرّض فيها إيمانهم إلى الزّيادة والنّقصان، ويتقلّب عملهم بين الشرة والفترة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل عمل شرة وإن لكل شرة فترة فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت شرته إلى غير ذلك فقد أهلك» ( ابن حبان).

 

وهذا النّضال يؤهّل الصّائمين لما يليق بمقامهم الرّفيع من التّشريف الإنْساني وحمْل أمانة الاسْتخلاف (إنّا عر‌ضْنا الْأمانة على السّماوات والْأرْ‌ض والْجبال فأبيْن أن يحْملْنها وأشْفقْن منْها وحملها الْإنسان ? إنّه كان ظلومًا جهولًا) [الأحزاب:72]، حتى يدْركوا أن حياتهم هي أكْرم من أن تسقط في منْحدر الطّمع، وأشْرف من أن تسْتعْبدها احْتياجاتٌ يمكن السّيطرة عليها والانْشغال عن التّفكير فيها، باسْتجْلاب ما يرتقي بقواهم الذّاتيّة لتحقيق السّلام النّفسي، والتّحرّر من قيود المادّة المبذّرة للطّاقات...

 

وحتى يدركوا بأن الصيام جهادٌ لا يفوز فيه إلا الأقوياء، الذين تشبّعوا بالحقيقة الإيمان يّة، وجنّدوا لها قواهم المادّيّة والمعْنويّة، وسعوا لتحقيق مقاصد الصيام، أما الذين اقْتصروا على قوّتهم المادية فيكون انتصارهم محدودًا، وينْتهي بطغْيان قوى الباطل على قوى الحق، وبيان ذلك أنّ الله جلّ وعلا حين ذكر طالوت قال: (إنّ اللّـه اصْطفاه عليْكمْ وزاده بسْطةً في الْعلْم والْجسْم) [البقرة:247]، فهذا الاصْطفاءً والاخْتيار قد جمع الحسْن من جانبيه، الخاص ببسطة في العلم والجسد، وهذا معناه وحدة التكامل بين الجسم المقرونٍ بالروح في جهاد النفس ونضالها المستمر بالحياة..

2ـ الصيام تدريب على العدل والإنصاف

 

إنّ الصّيام عبادةٌ وثيقة الصّلة بميزان العدل والإنصاف، الذي يذلّل للصّائمين أسباب ارْتقائهم منابر المجْد افْتخارًا، ويوثّق ارتباطهم بأهداف الصّيام وصياغته التّربوية وحرْصهم على التّحلّي بالعدل، فيشْرق القلب بنور طاعته، والعقل بنور الحكمة الباعثة للهمّة، والمرْشدة للسّعي الطيّب الحلال، والعمل الإيماني الذي يصل أوج الذّرْوة اعْتقادًا وممارسةً، وإجْلالًا لمنْ جمع أسرار الجمال والكمال، وامتثالًا لأمره الإلهي العادل: (إنّ اللّه يأْمر بالْعدْل والإحْسان وإيتاء ذي الْقرْبى وينْهى عن الْفحْشاء والْمنكر والْبغْي يعظكمْ لعلّكمْ تذكّرون) [النحل:90].

 

وتتلاشى فيهم قوّة الأصل الفاسد وتتفجّر قوّة الأصل الصّالح، النّافع لإقامة وتماسك قواعد بنيانهم الشّامخ، فيصير الحسْن فيهم خلالًا وآدابًا، ومكارم أخلاق، ومنهج حياةٍ يلْزمهم الانْضباط بالعدل في كلّ الشّهور، والفصول، والأيام..

 

فتجدهم ينْصفون في علاقتهم بخالقهم اعْتقادًا وإيمانًا، ويقينا، وإقامة لحدوده وشعائره، والْتزاما بأحكام الحلال والحرام، واسْتحْضارًا لرقابته وخشيته في السّرّ والعلن.

 

وينْصفون في علاقتهم التّكامليّة بين الرّوح والجسد، بحفظ جوارحهم واسْتعْمالها لأجْل ما خلقت له، وتسْخيرها وفْق ما اسْتخْلفها الله عليه..

 

وينْصفون في علاقتهم وتواصلهم مع من حولهم، ومع كلّ من له عليهم حقٌّ أو واجب، سواء مع الأقرباء من الأهل والأبناء، أو مع الأجانب والغرباء من الأصدقاء والجيران، والعاملين معهم، ومن تحت أيديهم..

 

حتى ينالوا شرف من أنعم الله عليهم يوم القيامة فارْتقوا منابرً من نور، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن المقسطين على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا»..

3ـ الصيام انتصارٌ في معركة الحق ضد الباطل..

 

إن أحوال الصّائمين على خلاف أحْوال السّاقطين فيمدارك التّرف والطغيان، ينْطلقون بوجْدانهم وأفكارهم الرّائدة بصورةٍ حركيّة، تفي بحاجيّات وجودهم وتكامل صياغتها التّربويّة والعمليّة في الفهم والممارسة، وتحرّرهم من عالمهم الضيّق المادّي، وتبْعث إرادتهم القويّة ورغْبتهم الذّاتية لإصْلاح ما أفْسده الضّعفاء، وتقْويم ما حرّفه السّاقطون في مستنقع الكفر الآسن، وما أضاعه الدّنْيويّون القابعون في منْفاهم السّحيق وما اسْتحلّوه من الحرام جهارًا.

 

واسْتلْهام العبر والدّروس من انْدحار الأمم الغابرًة بسبب ارتباطهم الشّديد بالقيود المادّية والجسديّة، وبمظاهر الطّغيان والاسْتبْداد، حتى كان مآلهم إلى اضْمحْلال، وتصدّع قواعد سلْطانهم المنيع مصداقًا لقول الحق سبحانه: (وإذا أردْنا أنْ نهْلك قرْيةً أمرْنا متْرفيها ففسقوا فيها فحقّ عليْها الْقوْل فدمّرْناها تدْميرًا) [الإسراء:16].

 

فتجدهم ينتصرون في معركة الحقّ ضدّ الباطل، وفي معركة الطاّعات ضدّ الشّهوات والملذّات، وقد جمعوا بين قوّة أبدانهم وأرواحهم، يحثّهم الالتزام بالحقّ والواجب، والثّبات على الطّاعة تسْمو بهم مراقي الصّفاء القلبي، الذي لا يخالطه عبثٌ يضْعفه ولا عصيانٌ يكدّره.

 

ماضين في طريق صيامهم وقيامهم على منهجٍ تربوي إيماني يزكّيهم ويلْجمهم بلجام الحق، فيتنزّهون عن الانْقياد للشهوات، مصداقًا لهدْي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش».

 

فتراهم يتزوّدون لطريقٍ شاقٍّ ووعْر بزاد الصّبر فيرْدعهم عن الملذّات المضرّة بصحّتهم، ويتزوّدون بزاد الطّاعة فتحرّرهم من أسباب المشقّة المكدّرة، فلا تسْمع لهم إلاّ صوت مناجاتهم وتكْبيرهم، خاشعين منيبين، وملبّين نداء الجنّة.

 

ويتزوّدون لجهادٍ يعلّمهم كيف يمارسون خطاب الإيمان بفهمٍ للبيان الإلهي ومقاصده كما قال تعالى: ( ير‌يد اللّـه ليبين لكمْ ويهْديكمْ سنن الّذين من قبْلكمْ ويتوب عليْكمْ ? واللّـه عليمٌ حكيمٌ . واللّـه ير‌يد أن يتوب عليْكمْ وير‌يد الّذين يتّبعون الشّهوات أن تميلوا ميْلًا عظيمًا . ير‌يد اللّـه أن يخفف عنكمْ ? وخلق الْإنسان ضعيفًا) [النساء :26-28]، فيهبّون مسرعين هبوب الرّيح المرسلة، ليلْتحموا بالصّفوف الأماميّة، ويتقدّموا مع الزّمرة الأولى الفائزة على قلبٍ واحد كما وصفهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقال: «لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد».

 

4ـ رحلة المشقة.. وسباق المطامع..

 

إن سباق الإيمان يدْعو الصائمين إلى التّخلّي عن سباق المطامع اللاّهية والإقبال على سباق السّعي إلى الجن ة، ملبّين نداء المنادي: "يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة".

 

وملْتزمين في عبوديّتهم بكلّ قيدٍ يذْعن للحقّ والواجب، فلا تتحوّل حرّيتهم إلى شعارات مزيّفة ومخلّة بالنّظام العام، أو تحرّى الإشْباع الزّائد عن الحاجة والضرورة..

 

وهذا السباق يهدي الصّائمين إلى اسْتشراف مقاصد الصّيام وغاياته النبيلة، واسْتلْهام نعمه السّابغة بعد جولةٍ إيمانية يتقلّبون فيها بين حالتيْ اليسْر بعد العسْر، والراحة بعد المشقّة تجْتلي الحقيقة من معاني الجهاد المضْني لساعات من الصّيام، فيتعلّمون أنّ لكلّ عمل مشقّةً محدودة، وثوابًا مضاعفًا يسْتدْعي انْضباط النفس والْتزامها بالطاعة كمنهج حياة آمنة..

5ـ صحوة.. وانبعاثٌ جديد

 

بتحقيق هذه الغابات والمقاصد يثبت الصائمون انْبعاثهم الجديد في حياةٍ طيّبةٍ كريمة، تمهّد لهم سبيل الهداية والاستقامة، كما قال سبحانه: (وهدوا إلى الطّيّب من الْقوْل وهدوا إلى صراط الْحميد) [الحج :24]، ليجدّدوا تمسّكهم بميثاق العبوديّة وبعهدهم الإيماني، في نزالٍ يصْرفهم عن مجاراة مطامعهم الدّنيّة ومطامحهم السّاقطة، ويشْعرهم بعظمة المسؤولية التي يتحمّلونها من خلال اسْتحْضارهم لمعاني الخضوع والطاعة، وإيقاظ الضمير الإنساني من خموله، وضعفه، والثّورة على ما ران على قلوبهم من أصْداء الفتن والشهوات.

 

وبهذا يمثّل الصيام صحوةً من شأنها أن تعيد للإنسان ذلك التّرابط والتّماسك في الفهم لمقاصد الخلق وأسراره، فيكون عابدًًا لله بقلبه وجوارحه، مجنّدًا لطاقاته وأسلحته لمحاربة أسباب الكفر والطّغيان.

 

وكلما أصاب هذه الصّحوة الإهمال وخبا وهج إشْراقها، وأخْمدت شعْلتها الإيمانية، يأتي شهر الصيام فيسْتدْرك الصائمون قوّتهم التي فترت ويستعيدون تألّقهم، ويجدّدون في كل يومٍ من أيّام صيامهم انْبعاثهم وارتقاءهم مراقي التّوحيد المتجدّد عبر الزمان والمكان، حتى يكونوا طائعينً لأمر خالقهم، ومستسلمين لحكمه، وخاضعينً لقضائه، وطامحين لإدراك مقامات الصلاح والإصْلاح.

 

وفي الختام..

 

إن حياة الصّائمين بما فيها من مشقّةٍ زائلة، لهي حياةٌٌ حرّةٌ بما تعنيه الحرية الآمنة من كلّ فوضى تعتري العلاقات الإنسانية كما في حاضرنا، ومن كلّ ما يهدّد أركانها من آثار الاضْطرابات النّاتجة عن الهياج العصبي والتوتّر النّفسي والجسدي، الذي يلاحق حياة أصحاب الشّهوات المخالفة للطبيعة والفطرة، والتمتّع الحلال.

 

وإن حياة الصائمين جهاد المسْتبْصرين للحقّ وللعدل، ولسنن الله الكونيّة التي تثبت مصداقيّتها وتجدّدها، وانْبعاثها مع كلّ حركةٍ من حركات دوران السّاعات حول قطْب الزّمن، وجولان النّفس بين أقطاب الأرض ومناكبها وشعابها..

 

وبهذه المعاني الخالدة يكون الصيام صحوة ترقى بالإنسانية مراقي الصعود في الفهم والتعبير والممارسة..

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات