أهلاً يا رمضان.. شهر الإقبال على الله

جعفر طلحاوي

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

كان سلفنا الصالح من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين لهم بإحسان يهتمون بشهر رمضان، ويفرحون بقدومه، ولماذا لا تفرح وقد أطال الله تعالى في العمر ونسأ في الأجل، وأعانك على ذكره وشكره وحسن عبادته، وقد تخطف الموت بعض أحبائك من حولك فلم يبلغوا رمضان هذا العام، بينما أنت مازالت أمامك فرصة للرجوع إلى الله تعالى، وتعديل المسار، واستكمال المشوار..

 

 

 

 

 (قلوب المتقين إلى هذا الشهر تحن، ومن ألم فراقه تئن !) كما يقول ابن رجب.

وفي الاستعداد له يقول الشيخ محمد الغزالي...:"من الخطأ تصور الاستعداد بأنه تدبير النفقات، وتجهيز الولائم للأضياف. إن هذا الشهر شُرع للإقبال على الله، والاجتهاد في مرضاته، وتدبر القرآن، وجعل تلاوته معراج ارتقاء وتزكية، إنه سباق في الخيرات يظفر فيه من ينشط ويتحمس". (الحق المر: محمد الغزالي، 5/19).

 

رمضان فرصة لا تُتاح كل عام إلا مرة واحدة؛ فلنغتنم هذه الفرصة، ولنستفد منه كأنه آخر رمضان سيمر علينا، فربما يأتي العام القادم وبعضنا غير موجود؛ لأنه تحت التراب، كما سيحضر رمضان هذا العام وقد فقدنا بعضًا من أحبابنا، كنا نتمنى كما كانوا يتمنون أن نكون جميعًا معًا في رمضان، نسأل الله أن يجمعنا وإياهم في مستقر رحمته، ودار كرامته بجوار سيد الخلق محمد –صلى الله عليه وسلم-، هذا وحديثنا عن الاستعداد لقدوم شهر الإقبال على الله من خلال النقاط  الآتية:

 

أولاً: الاستبشار بقدوم خير الشهور والأعوام:

 

في الكتاب العزيز قال الله –تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185].

 

ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُقدِّم شهر رمضان لأمته على أنه شهر البركة.

 1- شهر البركة:

فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "أتاكم رمضان؛ شهر مبارك، فرض الله -عز وجل- عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبوب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم" (رواه النسائي والبيهقي، وانظر صحيح الترغيب: 985).

 

وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتاكم شهر رمضان، شهر بركة فيه خير، يغشاكم الله فيه، فيُنزل الرحمةَ ويَحُطُّ فيه الخطايا ويستجيب فيه الدعاء ينظر الله إلى تنافسكم، ويباهى بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا؛ فإن الشَّقِيّ من حُرم فيه رحمة الله عز وجل". (أخرجه: الطبراني كما في الترغيب والترهيب (2/60)، ومجمع الزوائد (3/142)).

قال الإمام ابن رجب -رحمه الله-: "هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان".

 

2- شهر السباق:

وهو شهر السباق قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا! فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون! ويخسر فيه المبطلون!".

 

وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- إذا انقضى رمضان يقول: "من هذا المقبول منا فنهنيه؟! ومن المحروم منا فنعزيه؟!".

 

قال صلى الله عليه وسلم: "افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، وأن يؤمن روعاتكم" (رواه الطبراني، وانظر السلسلة الصحيحة: 1890).

 

3- شهر الغفران:

وهو شهر الغفران، فهناك أعمال كثيرة وعبادات متنوعة في الشهر الكريم، يثيب الله تعالى عليها أعظم المثوبة، ويحطّ الذنوب عن أصحابها، من هذه الأعمال:

 

1- الصيام "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه" (أخرجه البخاري ومسلم).

 

2- صلاة القيام، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه" (رواه البخاري ومسلم).

 

3- تفطير الصائمين، ففي حديث سلمان: "من فطّر فيه صائماً  كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء"، قالوا: يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم؟ فقال رسول الله: "يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء، ومن سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها، حتى يدخل الجنة" (هذا الحديث ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله).

 

4- صلاة التراويح، وعدم الانصراف حتى ينتهي الإمام من صلاته، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة".(رواه أهل السنن).

 

5- قيام ليلة القدر قال الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:1-3]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (أخرجه البخاري ومسلم). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرى ليلة القدر، ويأمر أصحابه بتحريها، وكان يوقظ أهله ليالي العشر؛ رجاء أن يدركوا ليلة القدر. وفي المسند عن عبادة مرفوعاً: "من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وللنسائي نحوه، قال الحافظ: إسناده على شرط الصحيح.

 

4- شهر العتق من النيران:

وهو شهر العتق من النيران، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لله عزّ وجلّ عند كلّ فطر عتقاء" (رواه أحمد 5/256، وهو في صحيح الترغيب 1/419).

 

5- شهر الصيام:

وصيامه يعدل صيام عشرة أشهر. (انظر مسند أحمد 5/280، وصحيح الترغيب 1/421).

 

حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "من فطر صائماً  كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً".

 

و"من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا" (رواه مسلم 2/808).

 

وفى فضل الموت على صيام جاء الحديث الصحيح: "من صام يوماً ابتغاء وجه الله خُتم له به دخل الجنّة" (رواه أحمد 5/391 وهو في صحيح الترغيب 1/412).

 

6- شهر الدعاء:

وهو شهر الدعاء، قال العلماء: إن الله وضع آية الدعاء وسط آيات الصيام إشعارًا منه بأن الدعاء في الصيام لا يرد، فقد قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 86)، بداية من ثلث الليل الآخر الذي نستعد فيه للصيام بتناول البركة – السحور- فهو وقت مبارك يُستجاب فيه الدعاء، ففي ثلث الليل الآخر ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا نزولاً يليق به ويقول: "هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟"، وكذلك خلال ساعات النهار للصحيح "دعوة الصائم لا تُردّ"، (رواه البيهقي 3/345، وهو في السلسلة الصحيحة 1797).

 

 

وساعة الإفطار دعاء الصائم فيها مستجاب، كما ورد في الحديث الشريف: "ثلاثة لا ترد دعوتهم .... الصائم حين يفطر"، ولا سيما الدعاء (ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى" (رواه أبو داود).

 

الدعاء الخاص بليلة القدر عن عائشة قالت: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" (رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني).

 

7- شهر الفرح:

وهو شهر الفرح، ففي الصحيح "للصائم فرحتان، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربّه فرح بصومه" (رواه مسلم 2/807).

 

8- شهر الشفاعة:

وهو شهر الشفاعة في الصحيح "الصيام يشفع للعبد يوم القيامة يقول: أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه" (رواه أحمد 2/174، وحسّن الهيثمي إسناده في المجمع 3/181، وهو في صحيح الترغيب).

 

9- شهر القرآن:

شهر رمضان هو شهر القرآن، فينبغي أن يُكثر العبد المسلم من قراءته قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ..) وفي الصحيح " إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَيْنِ" (صحيح البخاري، كِتَاب الْمَنَاقِبِ. باب عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الْإِسْلَامِ).

 

وهكذا الصحابة، فقد كان عثمان بن عفان –رضي الله عنه- يختم القرآن كل يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها، فكان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة.

 

 وكان الزهري إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف.. وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان أقبل على قراءة القرآن.

 

 وقال ابن رجب: "إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان والأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً لفضيلة الزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم، كما سبق".

 

البكاء عند تلاوة القرآن:

قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة: 83].

وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً *وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء:107-109].

 

لقد كان السلف –رحمهم الله- يتأثرون بكلام الله عز وجل، ويحركون به القلوب. ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: "اقرأ عليَّ"، فقلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فقال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، قال: فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) [النساء:41] قال: "حسبك"، فالتفت فإذا عيناه تذرفان.

 

وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال: لما نزلت: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) [النجم:60،59] فبكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله حسهم بكى معهم فبكينا ببكائه. قال رسول الله: "لا يلج النار من بكى من خشية الله"، وقد قرأ ابن عمر سورة المطففين حتى بلغ: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:6] فبكى حتى خر، وامتنع من قراءة ما بعدها. وعن مزاحم بن زفر قال: "صلى بنا سفيان الثوري المغرب فقرأ حتى بلغ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5] بكى حتى انقطعت قراءته، ثم عاد فقرأ الحمد".

 

وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت فضيلاً يقول ذات ليلة وهو يقرأ سورة محمد، وهو يبكي ويردد هذه الآية: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31] وجعل يقول: "ونبلو أخباركم، ويردد وتبلوا أخبارنا، إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا، إنك إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا"، ويبكي.

 

10- شهر القيام:

قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) [الفرقان:64،63]، وقد كان قيام الليل دأب النبي وأصحابه، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً".

 

وكان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، ثم يقول لهم الصلاةَ الصلاة.. ويتلو: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه:132]، وكان ابن عمر يقرأ هذه الآية: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر:9]، قال: ذاك عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، قال ابن أبي حاتم: وإنما قال ابن عمر ذلك؛ لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل، وقراءته حتى أنه ربما قرأ القرآن في ركعة.

 

وعن علقمة بن قيس قال: "بِتّ مع عبد الله بن مسعود ليلة فقام أول الليل ثم قام يصلي، فكان يقرأ قراءة الإمام في مسجد حيه يرتل ولا يراجع، يسمع من حوله ولا يرجع صوته، حتى لم يبق من الغلس إلا كما بين أذان المغرب إلى الانصراف منها ثم أوتر".

 

وفي حديث السائب بن زيد قال: "كان القارئ يقرأ بالمئين - يعني بمئات الآيات - حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام قال: وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر".

 

تنبيه:

ينبغي لك أخي المسلم أن تكمل التراويح مع الإمام حتى تُكتب في القائمين، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من قام مع إمامه حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة" (رواه أهل السنن).

 

وفى الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتب له براءتان؛ براءة من النار، وبراءة من النفاق" (أخرجه الترمذي 241 وحسنه الألباني).

 

11-شهر الحبس:

من عظيم نعم الله في الشهر المبارك حبسه لشيطان الجن، وما يصيب العدو من مضرة يُدخل على القلب المسرة، ولهذا امتن الله تعالى على شريحة من عباده بأنه أغرق عدوها وهي تنظر (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) [البقرة: 50]، وفي الحديث الصحيح "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ" (رواه البخاري: 3277)، وعند مسلم "وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ".

 

نماذج من إحياء الليل:

قال تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعا) [السجدة/16].

 

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودا) [الإسراء:79].

 

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء: 217-218].

 

(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر/9].

 

قال تعالى: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) [آل عمرن:17]، وقال: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 18].

 

عبر عن هؤلاء المستغفرين مرة بالجملة الاسمية؛ ليُفيد الدوام والثبات، ومرة أخرى بالجملة الفعلية ليُفيد تجدد وحدوث الاستغفار منهم.

 

وقد رأى ضرارُ بن ضمرة الكناني الصحابي الجليل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقد أرخى الليل سدوله وغابت نجومه، واقفاً في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم (أي: المريض)، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غرّي غيري، لي تعرضت أم إليّ تشوفت؟!، هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آهٍ آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق!!

 

وهذه زائدة -رضي الله عنها- تخبرنا عن حال الإمام أبي حنيفة -رضي الله عنه- أنه صلى العشاء الآخرة في المسجد، ثم قام يصلي فقرأ حتى بلغ هذه الآية (فمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُوم)، فلم يزل يرددها حتى أذن المؤذن لصلاة الفجر ..

 

وكان الشافعي -رضي الله عنه- لا ينام من الليل إلا يسيراً.

 

ويسَرّب إلينا المغيرة بن حبيب خبر مالك بن دينار أنه قام إلى الصلاة ذات ليلة، فقبض لحيته وخنقته عبرته، فجعل يقول: "اللهم حرّم شيبة مالك على النار، اللهم قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار فأي الرجلين مالك؟ وأي الدارين دار مالك؟"، فلم يزل ذلك قوله حتى طلع الفجر.

 

وهذا غلام عاش قلبه بين الشوق إلى الجنة والخوف من النار، فكان يقوم الليل، فقال له سيده: إن قيامك بالليل يؤثر على عملك بالنهار، فقال له الغلام: "ماذا أفعل؟ إذا تذكرت الجنة اشتد شوقي، وإذا تذكرت النار طال خوفي، فكيف أنام بين خوف يزعجني وشوق يقلقني".

 

ولم يكن هذا شأن الرجال منهم فحسب، بل شأن النساء كذلك، فقد كان للحسن بن صالح جارية فباعها إلى قوم، فلما مضى وقت من الليل أيقظتهم، فقالوا أسفرنا؟ (أي هل طلع الفجر؟)، فقالت: ألا تتهجدوا؟! قالوا: لا نقوم إلا لصلاة الفجر، فجاءت الحسن تبكى وتقول: "ردني، لقد بعتني لأناسٍ لا يصلون إلا الفريضة". فردها.

 

وهذا الملك الشهيد "نور الدين محمود زنكي" -رحمه الله- كان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال والتضرع إلى الله -عز وجل- في أموره كلها، وكذلك كانت زوجته "عصمت" تكثر القيام في الليل، وذات ليلة نامت عن وردها فأصبحت غضبى فلما علم نور الدين بذلك أمر بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ الناس لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجراً جزيلاً.

 

وتنبع الحكمة من لسان محمد إقبال -رحمه الله - فيقول: "كن مع من شئت في العلم والحكمة، ولكنك لا ترجع بطائل حتى تكون لك أنَّة في السَّحَر". وكان يدعو ربه قائلاً: "خذ مني ما شئت يا رب، ولكن لا تسلبني اللذة بأنَّة السحر، ولا تحرمني نعيمها".

 

وهذا حسن البنا -رحمه الله-، ذهب إلى مؤتمر بالمنزلة دقهلية، وبعد الفراغ من المؤتمر، والذهاب إلى النوم، توجه الإمام وفي صحبته الأستاذ عمر التلمساني إلى حجرة بها سريران، ورقد كلّ على سريره. وبعد دقائق قال الأستاذ البنا: أنمت يا عمر؟ قال: لا. وبعد فترة قال الأستاذ البنا: أنمت يا عمر؟ قال: لا. وقال الأستاذ عمر في نفسه إذا سأل فلن أرد، وحدث بالفعل أن تكرر السؤال من الأستاذ البنا ولم يرد الأستاذ عمر، فظن الأستاذ البنا أن الأخ عمر قد نام، فتسلل على أطراف أصابعه، وخرج من الحجرة، وأخذ نعليه في يده، ثم اتجه إلى آخر الصالة، وفرش سجادة، وأخذ يتهجد.

 

إننا لن نستعيد مجدنا السليب وننال رضا الله في الدنيا والآخرة إلا بالسير على درب أسلافنا الصالحين رضي الله عنهم.

 

ثانيا: إعداد المساجد  وإعمارها بالقائمين والعاكفين والركع السجود:

عمر يستعد بإنارة المساجد بالأنوار والقرآن:

قال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18]، وقال تعالى: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108].

 

وقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [النور: 36-38].

 

عمارة المساجد تكون بمعنيين:

أحدهما: عمارتها الحسية ببنائها وإصلاحها وترميمها، وإنارتها وتزويدها بكافة المرافق لتؤدي رسالتها في المجتمع.

 

والثاني: عمارتها المعنوية بالصلاة فيها، وذكر الله، وتلاوة كتابه، ونشر العلم الذي أنزله على رسوله، ونحو ذلك.

 

وقد فسرت الآية بكل واحد من المعنيين، وفُسرت بهما جميعاً، والمعنى الثاني أخص بها. وهذا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يستعد لرمضان، فأنار المساجد بالقناديل، فكان أول من أدخل إنارة المساجد، على المعنى الأول للعمارة وجمع الناس على صلاة التراويح، على المعنى الثاني، فكان أول من جمع الناس على صلاة التراويح في رمضان، فأنارها بالأنوار وبتلاوة القرآن في القيام. حتى دعا له الإمام علي -رضي الله عنه – بسبب ذلك.

 

عن أبى إسحاق الهمداني قال: خرج علي بن أبي طالب في أول ليلة من رمضان والقناديل تزهر وكتاب الله يُتلى في المساجد، فقال:"نوَّر الله لك يا ابن الخطاب في قبرك كما نوَّرت مساجد الله بالقرآن". (كنز العمال: 23477).

 

وعلى المعنى الثاني جاء الحديث الصحيح عن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "سَبْعَة يَظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وشَابٌ نَشَأ في عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُل قَلْبُهُ مَعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ،..".

 

ثالثا: النية الخالصة بصيامه لله تعالى إيماناً واحتساباً. قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) [البينة: 5].

 

ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (رواه البخاري ومسلم).

 

قال الإمام ابن رجب: "فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله -عز وجل- في موضع لا يطلع عليه إلا الله ! كان ذلك دليلاً على صحة الإيمان".

 

تميز يوم الصوم عن يوم الفطر:

قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك، عن الكذب، والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار، وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك، ويوم فطرك سواء".

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الصيام من الأكل والشرب؛ إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم" (رواه ابن خزيمة والحاكم، وانظر صحيح الترغيب:1068).

 

 وقال-صلى الله عليه وسلم-: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر" (رواه الطبراني، وانظر صحيح الترغيب: 1070).

 

ذلك أنه لكل جارحة صومها، فالإمساك عن الطعام والشراب صوم البطن، والإمساك عن الشهوة صوم الفرج، وتبقي باقي الجوارح ما لم يتم صومها، فقد انحصر الصيام في الجوع والعطش، في صيام البطن والفرج، وإنما ينبغي صيام اللسان عن اللغو والرفث والكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور والقذف, والسب والشتم واللعن والسباب، والقول بغير علم، والإفك، والبهتان، إلى آخر آفات اللسان.

 

وتصوم العين عن النظر إلى ما لا يجوز النظر إليه من المحارم والمنكرات.

 

 وتصوم اليد عن تناول ما ليس لك بحق، وعن كتابة الكذب والزور، والباطل، وعن منع الحقوق عن أصحابها.

 

 وتصوم الأذن عن سماع الغيبة والأغنية والتجسس والكذب؛ فقد ذم الله تعالى قوماً فقال: (سماعون للكذب).

 

 وتصوم الرِّجل عن المشي في غير طاعة الله، وإلى أماكن اللهو والفجور والإثم، وفضلاً عن ذلك كله يصوم القلب عن الأمن من مكر الله، وعن الرياء وعن الإعجاب بالنفس أو بالرأي أو بالجنسية أو بالجنس والنوع، وعن الرياء وعن محبة ما لا يحب الله تعالى من الظلم والفساد والخيانة، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا بمثل هذه المعاني يكون الصوم المقبول الذي يثمر التقوى.

 

رابعًا: التوبة والإقلاع عن كل الذنوب الآن وفى التو:

يتم الاستعداد لاستقبال شهر رمضان بالإقبال على الله تعالى بالتوبة والإنابة إلى الله، والاعتراف بالذنب، وبالعزم على ترك الآثام والسيئات، والتوبة الصادقة من جميع الذنوب, والإقلاع عنها وعدم العودة إليها, فهو شهر التوبة، فمن لم يتب فيه فمتى يتوب؟! قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31]، وأداء الحقوق إلى أصحابها.

 

خامساً: الدعاء بأن يبلغك الله شهر رمضان وأنت في صحة وعافية:

روي عن أنس بن مالك –رضي الله عنه – أنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- -إذا دخل رجب قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان" (أخرجه الطبراني في الأوسط (4/189، رقم 3939)).

 

 وكان السلف الصالح يدعون الله أن يبلغهم رمضان, ثم يدعونه أن يتقبله منهم.

 

فإذا أهل هلال رمضان فادع الله وقل" "الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربي وربك الله" (أخرجه الديلمي (1/486، رقم 1987) عن علي وابن عمر- رضي الله عنهم) .

 

إن الصالحين كانوا يدعون الله زماناً طويلاً ليـبلغهم أيام (شهر رمضان)؟! قال معلى بن الفضل -رحمه الله-: "كانوا يدعون الله -عز وجل- ستة أشهر أن يبلغهم رمضان! ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم". (الترغيب والترهيب لقوام السنة (2/ 354)).

عن عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا هؤلاء الكلمات إذا جاء رمضان: اللهم سلمني لرمضان، وسلم رمضان لي، وتسلمه مني متقبلاً" (أخرجه الطبراني في الدعاء، والديلمي وسنده حسن، انظر: كنز العمال 24277).

 

سادسا: الحمد والشكر على بلوغه:

قال النووي –رحمه الله– في كتاب الأذكار: "اعلم أنه يُستحب لمن تجددت له نعمة ظاهرة، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة أن يسجد شكرًا لله تعالى، وأن يحمد الله تعالى، أو يثني عليه بما هو أهله" (الأذكار للإمام النووي ص374).

 

 وبالشكر تزيد النعم، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].

 

سابعا: الفرح والابتهاج:

قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس/58] ، ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان، فعن أبى هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال وهو يبشر أصحابه: "قد جاءكم رمضان شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حُرم خيرها فقد حرم" (أخرجه أحمد (2/385، رقم 8979).

 

 وقد كان سلفنا الصالح من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين لهم بإحسان يهتمون بشهر رمضان، ويفرحون بقدومه، ولماذا لا تفرح وقد أطال الله تعالى في العمر ونسأ في الأجل، وأعانك على ذكره وشكره وحسن عبادته، وقد تخطف الموت بعض أحبائك من حولك فلم يبلغوا رمضان هذا العام، بينما أنت مازالت أمامك فرصة للرجوع إلى الله تعالى، وتعديل المسار، واستكمال المشوار، وعلى مدار عام، أقامك الله تعالى بين يديه، فقمت وقعدت وركعت وسجدت، وقد حيل بين غيرك وبين هذه الركيعات.

 

عن عبيد بن خالد السلمي قال: "آخى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بين رجلين، فقتل أحدهما على عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ثم مات الآخر فصلوا عليه فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما قلتم؟ قالوا: قلنا اللهم ارحمه اللهم ألحقه بصاحبه فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فأين صلاته بعد صلاته؟ وأين صيامه وعمله بعد صيامه وعمله؟! ما بينهما أبعد من السماء والأرض" (رواه النسائي في كتاب الجنائز باب الدعاء وأبو داود في كتاب الجهاد، باب النور يُرى عند قبر الشهيد. وأورده ابن كثير -رحمه الله- في جامعه الجزء الثامن صفحة 509 برقم 6247).

 

وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً. قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَرَأَيْتُ الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ وَكَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ سَنَةٍ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ). 

 

فعلى مدار عام، تم صيام رمضان، وهذه الآلاف الستة وزيادة من حاصل  ضرب سبعة عشر ركعة فرض يوميّاً في ثلاثمائة وخمس وستين يوماً عدد أيام السنة، يكون الناتج ستة آلاف ومائتين وخمس ركعة، وفي كل ركعة سجدتان، فيكون الحاصل اثنتي عشرة ألف وأربعمائة وعشرة سجدة، هذا عن الصلاة المكتوبة، فكم يكون له من درجات في الجنة لو أنه محافظ على النوافل أو الرواتب القبلية والبعدية للمكتوبة، ولو كان محافظا على صلاة الضحى والوتر ولو كان له حظ من قيام  الليل؟!

 

 وفي الصحيح ".. لن تسْجد لله سَجْدَة إِلَّا رفعك الله بهَا دَرَجَة، وَحط عَنْك بهَا خَطِيئَة" (الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم (1/ 468)).

 

وعند ابن ماجه: "مَا من عبد يسْجد لله سَجْدَة إلاَّ  كتب الله -عز وَجل- لَهُ بهَا حَسَنَة ومحا عَنهُ بهَا سَيِّئَة، وَرفع لَهَا بهَا دَرَجَة، فاستكثروا من السُّجُود" (سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها. باب ما جاء في كثرة السجود).

 

 وفي الحديث أيضًا: "خيركم من طال عمره وحسن عمله"، فكلما زيد في عمره عن الآخر زاد عنه بصلاة وصوم وعمل صالح، وكان أرفع له في الدرجة عند الله سبحانه وتعالى.

 

ثامنًا: وضع برنامج عملي للاستفادة من رمضان:

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور، والله تعالى يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب:21 ]، فتكثر من أنواع الطاعات في هذا الشهر، من صيام، وصلاة وقيام، واعتكاف، وصدقة وزكاة، وبر وإحسان، وتفطير صائمين، وتلاوة كامل القرآن عدد من المرات، وصلة أرحام، وتعليم علم، ودلالة على خير، وإحياء سنة، وعيادة مرضي، وتشيع جنازة، وعمرة.

 

الإفطار بغير عذر شرعي كبيرة من الكبائر:

ومن أفطر شيئاً من رمضان بغير عذر فقد أتى كبيرة عظيمة، ويجب الحذر من الإفطار قبل أن يحين وقت الإفطار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرؤيا التي رآها: "حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم" أي: قبل وقت الإفطار (صحيح الترغيب 1/420).

 

قال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى-: "وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان من غير عذر أنه شرّ من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكّون في إسلامه، ويظنّون به الزندقة والانحلال".

 

وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "إذا أفطر في رمضان مستحلاً لذلك وهو عالم بتحريمه استحلالاً له وجب قتله، وإن كان فاسقاً عوقب عن فطره في رمضان". (مجموع الفتاوى 25/265).

 

تاسعاً: عقد العزم الصادق على اغتنامه وعمارة أوقاته بالأعمال الصالحة:

قال الله عز وجل: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) [محمد: 21]، فمن صدق الله صدقه وأعانه على الطاعة ويسر له سبل الخير، وفي الصحيح "إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ" (صحيح الترغيب والترهيب (2/ 58)). أَيْ: إِنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا تَقُولُ وَتُعَاهِدُ اللَّهَ عَلَيْهِ, يُجْزِكَ عَلَى صِدْقِك بِإِعْطَائك مَا تُرِيدُهُ.

 

قال ابن القيم – رحمه الله -: "وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه من الله سبحانه وتعالى وإعانته ... "، وكلما استحضرت نيات أعمال كثيرة طيبة كتب الله لك أجر هذه الأعمال ولو لم تعملها طالما كنت صادقاً في نيتك.

 

وفي الصحيح: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..."، وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أظلكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله، ما مر على المسلمين شهر هو خير لهم منه، ولا يأتي على المنافقين شهر شر لهم منه، إن الله يكتب أجره وثوابه من قبل أن يدخل، ويكتب وزره وشقاءه قبل أن يدخل؛ وذلك أن المؤمن يعد فيه النفقة للقوة في العبادة، ويعد فيه المنافق اغتياب المؤمنين واتباع عوراتهم فهو غُنْم للمؤمن ومعصية على الفاجر" (أخرجه: أحمد(2/524، رقم10793)، وابن خزيمة (3/188، رقم1884)، عن تميم مولى ابن رمانة، قال المناوي: إسناده حسن).

 

عاشراً: استشعار الثواب العظيم الذي أعده الله للصائمين ومنها:

قال تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب/35].

 

 وفي الصحيح "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول عز وجل: "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به"، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" (أخرجه البخاري ومسلم).

 

 العمرة في رمضان: ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة" (أخرجه البخاري ومسلم)، وفي رواية (حجة معي) فهنيئاً لك -يا أخي - بحجة مع النبي  -صلى الله عليه وسلم-.

 

الباب الخاص للصائمين بالجنة:

في الجنة باب يُقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد" (البخاري 1797).

 

 ولا شيء يعدل الصيام  ففي الصحيح "الصوم لا عِدل له" (النسائي 4/165، وهو في صحيح الترغيب 1/413).

 

 هذا وبالله التوفيق، نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يتقبل منا الصلاة والصيام والقرآن، ويجعلنا فيها من عتقائه من النار، اللهم آمين.

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات