الولاء والبراء وعلاقته بتحكيم الشريعة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ولقد حرص أعداء الأمة على إضعاف مفهوم الولاء والبراء في حياة المسلمين، وكسر الحاجز النفسي بين المسلمين وغيرهم، وبعث قيم جديدة يعقد على أساسها الولاء والبراء لتكون بديلا عن الإسلام فظهرت دعوات القومية والوطنية والإخوة الإنسانية حتى يتذبذب المسلم بين ولائه لدينه وولائه لهذه المفاهيم الجديدة، ويذهب تميزه بإسلامه واستعلاؤه بعقيدته، فيسهل بذلك غزوهم فكريا وحضاريا وعسكريا.

 

 

 

 

 

 

إن عقيدة الولاء والبراء من قضايا التوحيد ومعاقد الإيمان التي تراكمت عليها الأتربة، وران عليها الغبش بكيد وتدبير من أعداء الأمة، حتى لا يستعيد المسلمون أقوى أسلحة الصمود والبقاء والممانعة، فبدون الولاء والبراء تتمزق الأمة، وتتهارج الصفوف، وتتعدد الرايات، وتتبعثر الجهود، فتلكم العقيدة هي الحامية والجامعة والمانعة من الدخل والدغل والدخن في صفوف المسلمين، وهي الباعثة لتحفيز الهمم وتحريك الإرادات، والمستنفرة لكل الكوامن والمطلقة لكل المواهب.

 

فالولاء والبراء هو الخطر الحقيقي على مخططات أعداء الله ورسوله، وقد استنفر من أجل إماتة هذه العقيدة وحلّ هذه الرابطة، أقلام المستشرقين وأزلامهم من بني الدين وصنائعهم من المفتونين، وأنشئت لسحقه المدارس والجامعات، وسخرت لتشويهه الصحف والفضائيات، في تناغم مقصود، وتكامل غير محمود، من أجل هدف مقصود وهو :أجيال عن الدين مبتورة، وبالغرب مبهورة، وبتفاهاته ومفاسده مسرورة، تجهل أبسط قواعد الدين، وتتغني بأمجاد الغربيين، تسير لحتفها بظلفها، تبكي السماء والأرض لجهلها، فصارت لأعداء الدين لقمة غنيمة ومطية، بهم يُطعن الدين، فلله الأمر من قبل ومن بعد.

 

الولاية ضد العداوة وأصلها الحب والقرب، والبراء من البعد والتخلص وإظهار العداوة ،وقد تقرر في أصول أهل السنة والجماعة أن الولاء والبراء لا يعقد إلا على أساس الكتاب والسنة لا غير، فتجب موالاة المؤمنين مهما كانوا وأينما كانوا، كما تجب عداوة الكافرين مهما كانوا وأينما كانوا، ومن كان فيه إيمان وفجور أعطي من الموالاة على قدر ما عنده من إيمان، ومن العداوة والبعد بحسب فجوره وجوره. كما أنه ليس لأحد أن يعلق الولاء والبراء بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك من عصبية وقومية وقبلية ووطنية، أو لسان ولون وعشيرة، أو شيخ ومذهب وطريقة، بل لا يقدم إلا من قدمه الله ورسوله ولا يؤخر إلا من أخراه، ولا يحب إلا من أحباه، ولا يبغض إلا من أبغضاه. وبالجملة فإن الولاء والبراء لا يعقد على أساس الإسلام، ويقرب الناس ويبعدون، ويحمدون ويذمون بحسب حظهم من الإسلام وقيامهم بأعبائه.

 

وقد تظاهرت الدلائل البينات من الأحاديث والآيات على هذه العقيدة الراسخة، من النهي عن موالاة الكافرين واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، حتى لا تكاد تعرف قضية أبدأ فيها القرآن وأعاد، وألح في إقامة الحجة بها بعد التوحيد وأفاد مثل قضية الولاء والبراء. قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة. .) [ الممتحنة: 1] وقال أيضا ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ) [ النساء: 144]، وقال ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم  الظالمين ) [ المائدة: 51]، وقال ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة. . ) [ آل عمران: 28]، وقال ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. .. ) [ المجادلة: 22].

 

ومن تأمل الألفاظ القرآنية في هذا السياق وجدها قوية، حاسمة في النكير على من خرق هذه العقيدة فتارة ( فليس من الله في شيء ) وتارة ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم )، كما أنه أخبر سبحانه بأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان بحال، فهما كالنقيضين، لا يجتمعان، ولا يرتفعان. قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير قوله ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من  دون المؤمنين ): " وهذا نهي من الله - عز وجل - للمؤمنين أن يتخذوا الكفار أعوانا وأنصارا وظهورا ولذلك كسر " يتخذ " لأنه في موضع جزم بالنهي ولكنه كسر الذال منه للساكن الذي لقيه وهي ساكنة. ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار أولياء ظهرا و أنصارا توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلونهم على عوراتهم فإنه من يفعل ذلك ( فليس من الله في شيء ) يعني برئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر، وقوله ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) إلا تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل ".

 

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تفسير قوله تعالى ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله. .): " أخبر الله أنك لا تجد مؤمنا يواد المحادين لله ورسوله، فإن نفس الإيمان ينافي موادته كما ينفي الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده وهو موالاة أعداء الله. فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلا على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب ".

 

والرعيل الأول من الصحابة فقهوا هذه العقيدة وأدركوا كنها وحقيقتها فطبقوها على أتم وجه، فها هو الصحابي الجليل كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرانه، وتضيق عليه نفسه وأرضه من صرامة التزام الصحابة بقرار الهجر، وفي غمرة المحنة والإحساس بالوحدة يقع في اختبار لمدى فهمه لعقيدة الولاء والبراء، حيث يأتيه كتاب من ملك الغساسنة يدعوه لترك المجتمع المسلم، ومقابلة هجرهم بهجر مثله، ويلحق بالمجتمع الجاهلي مع وعود بالمواساة وإصلاح الحال، ومع استدراج بالسماح له بالبقاء على دينه، فما كان منه إلا أن قام على الفور بإحراق الرسالة في التنور، فلم يفكر في العرض أو يتردد للحظة في الرد عليه بهذه الطريقة الحاسمة.

 

وقد علّق العلاّمة ابن حجر على هذه الحادثة تعليقا بديعا قال: " ودل صنيع كعب هذا على قوة إيمانه ومحبته لله ولرسوله، وإلا فممن صار في مثل حاله من الهجر والإعراض قد يضعف عن احتمال ذلك، وتحمله الرغبة في الجاه والمال على هجران من هجره، ولاسيما مع أمنه من الملك الذي استدعاه إليه أنه لا يكرهه على فراق دينه، ولكن لما احتمل عنده أنه لا يأمن من الافتتان حسم المادة وأحرق الكتاب ومنع الجواب ". ومثلها وأروع منها موقف عبد الله بن رأس النفاق مع أبيه. وموقف أبي عبيدة بن الجراح الذي قتل أباه يوم بدر، وموقف مصعب بن عمير مع أخيه يوم أحد. وموقف زيد بن الدثنة يوم حادثة الرجيع. وهذا غيض من فيض المواقف الإيمانية الرائعة في فهم عقيدة الولاء والبراء.

 

ولقد حرص أعداء الأمة على إضعاف مفهوم الولاء والبراء في حياة المسلمين، وكسر الحاجز النفسي بين المسلمين وغيرهم، وبعث قيم جديدة يعقد على أساسها الولاء والبراء لتكون بديلا عن الإسلام فظهرت دعوات القومية والوطنية والإخوة الإنسانية حتى يتذبذب المسلم بين ولائه لدينه وولائه لهذه المفاهيم الجديدة، ويذهب تميزه بإسلامه واستعلاؤه بعقيدته، فيسهل بذلك غزوهم فكريا وحضاريا وعسكريا.

 

وعقيدة الولاء والبراء تلعب دورا محوريا ومركزيا في قضية تحكيم الشريعة الإسلامية، فلن ينهض بتبعات وأمانة تحكيم الشريعة إلا من رسخت في قلبه ونفسه معاني وحقائق الولاء والبراء، فوالى وعادى في الله، وأحب وأبغض في الله، ولم يتخذ بطانة من دون المؤمنين، ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة، ولم يوال من حاد الله ورسوله ولو كان من أقرب المقربين، والمسلم في دربه للمطالبة بتطبيق الشريعة تعترضه الكثير من الصعوبات والتحديات والتهديدات في النفس والمال والولد والمنصب، فيزين له الشيطان مهادنة الكارهين ومداهنة الكافرين حتى لا يصيبه دائرة، أو طمعا في لعاعة من الدنيا، ويظل الشيطان يعبث بقلب الإنسان ويزين له الباطل ويخوفه من أوليائه حتى يستدرجه إلى المساومة والتنازل عن ثوابت الدين وبيع قضية تحكيم الشريعة.

 

عقيدة الولاء والبراء تؤسس للتخطيط الإستراتيجي في معركة تطبيق الشريعة، حيث أنها ترسم خريطة محكمة لمواقع الناس من هذه القضية قربا وبعدا موالاة ومجافاة، وبالتالي ترسم شكل العلاقات مع الآخرين رسما دقيقا متجردا من أهواء البشر ورغباتهم. فلقد رأينا مثلا الرافضة على مر التاريخ الإسلامي يقفون دائما مع خصوم الإسلام ضد أهل السنة، بل ما دخل أهل السنة معركة إلا وكان الرافضة في الخندق المقابل، يقول ابن تيمية: " الرافضة توالي من حارب أهل السنة والجماعة، فهم يوالون التتار ويوالون النصارى، وقد كان بالساحل بين الرافضة والفرنج مهادنة، حتى صارت الرافضة تحمل إلى قبرص خيل المسلمين وسلاحهم وغلمان السلطان وغيرهم من الجند والصبيان.

 

وإذا انتصر المسلمون على التتار أقاموا المآتم والحزن، وإذا انتصر التتار على المسلمين أقاموا الفرح والسرور. وهم الذين أشاروا على التتار قتل الخليفة المستعصم وأهل بغداد، وابن العلقمي الرافضي هو الذي خامر على المسلمين وكاتب التتار حتى أدخلهم حاضرة الخلافة، زين للناس والخليفة مسالمتهم وترك قتالهم "  وعلى هذا ففي البلاد التي يكثر فيها الرافضة أو يكون لهم فيها وجود ظاهر فلا يعول المسلمون على محالفتهم ونصرتهم للحق، فالرافضة لا يرضون إلا بدولة تحت حكمهم ليطبقوا ضلالاتهم ويعلنوا شعائرهم الشركية، أو بدولة علمانية يمكنهم فيها من حرية نشر معتقدهم الفاسد وتضليل الناس بأباطيلهم و أكاذيبهم تحت مسمى حرية الاعتقاد.

 

أيضا البلاد التي توجد فيها الأحزاب العلمانية التي تتبني العلمانية مذهبا وطريقا وأيديولوجية في الحكم وإدارة شئون الحياة، لا يمكن أن يعول أصحاب المشروع الإسلامي على تنسيق العمل معهم للخلاف الكبير بين المنهجين والرؤيتين، ففريق يري أن التشريع حق خالص لله - عز وجل - من نازعه فيه فهو مشرك، في حين أن العلمانية منهج ليبرالي يقوم على أساس فصل الدين عن الدولة، وإسناد مهمة التشريع لمجالس منتخبة، كما أن العلمانية لا دين لها إلا المصلحة، وهذه المصلحة قد تدفعهم في بعض الأحيان للتحالف مع الإسلاميين، وذلك بصورة مرحلية سرعان ما تلبث أن تنتهي بانقضاء المصلحة، فتتبدل المواقف مما يؤدي لخسائر متتالية لمن حالفهم.

 

إن إشاعة قضية الولاء والبراء وبيان علاقتها بتحكيم الشريعة من الأمور بالغة الأهمية في الإعداد لأي مشروع تنفيذي وتطبيقي لإعمال الشريعة في الحياة العامة، حتى يستقيم الصف، وينعزل الباطل، و يستبين الكارهين، وتتمايز رايات المخلصين من المدعين، فالصبر على مآلات تطبيق الشريعة، والمكائد والمؤامرات المتوقع ترتيبها لإجهاض مشاريع تطبيق الشريعة تحتاج لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حتى يصل الناس إلى قناعة أن الإسلام وأحكامه أعز عليهم من الدنيا بكل ما فيها، وحتى يفضل الناس الإسلام مع الجوع، على الكفر مع الرغد وطيب العيش.

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات