الأحكام الشرعية ودعاة التطوير والتجديد

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

فإذا كانت الأحكام الشرعية فيها شق ثابت وآخر متغير، فإن أحوال البشر أيضا منها الثابت والمتغير، والادعاء بأنها كلها متغيرة ومتطورة إدعاء مجاف للواقع، ومتصادم مع الحقائق، ففي الكون سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل جرت على السابقين، وستجري على اللاحقين، لا حيلة للإنسان في دفعها أو الفكاك منها، وهذا الثبات لازم لاستقرار الحياة ومنع اضطرابها، كما أن بها أيضا أحوال متجددة متطورة

 

 

 

 

 

مازالت الشريعة الإسلامية منذ ظهور التيارات الإسلامية المنادية بتطبيقها كمنهج حياة، غرضا لأعداء الإسلام من أنصار التيارات التغريبية من ليبراليين وعلمانيين وشيوعيين وغيرهم، ومن أبرز الشبهات التي يحاول خصوم الشريعة الإسلامية تشويهها بها، قولهم بأن الأحكام الشرعية تقعد بنا عن ملاحقة التطور والوفاء بمقتضياته، لأن الشريعة أساسها الدين، والدين ثابت لا يتغير، في حين أن الحياة في تغير وتطور مستمر، فكيف إذا يحكم الثابت المتغير، ويفي بحاجاته، ويحقق متطلباته ؟ وهذه الشبهة الخبيثة تقوم في الأساس على فرضيتين كلتاهما خاطئة عند الإطلاق: الأولى ثبات أحكام الشريعة بحيث لا يوجد بها مجال للتجديد بحال من الأحوال. والثانية تطور أوضاع الحياة بحيث لا يوجد بها مجال للثبات بحال من الأحوال. وكلا الأمرين في إطلاقه على هذا النحو خطأ بالغ يصل إلى حد الخرافة، وسوف نناقش هذين الأمرين لنكشف عوار وبطلان هذه الشبهة المموجة.

 

أولا: ثبات أحكام الشريعة

 

لا يخفي على أي مسلم يعلم ضروريات دينه أن في الإسلام مناطق ثابتة محظور الاقتراب منها تحت مسمى التجديد والتطور، وهي تلك التي تتعلق بأصول الدين من أصول العقائد، وأصول العبادات، وأصول الأخلاق. فأركان الإيمان وأركان الإسلام والكفر بكل ما يعبد من دون الله ثوابت لا تقبل مجرد فتح باب المناقشة فيها، فالعبث بهذه الأصول هدم للدين من قواعده، وإطفاء لسراجه المنير. قال تعالى: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل: 36]، وقال تعالى: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء: 25]، وقال تعالى: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [ الشورى: 13]. أيضا كل ما يتعلق بأحوال المبدأ والمعاد وأحوال يوم القيامة من الأمور الثابتة التي تتغير، ولم تزل دعوة الأنبياء من لدن آدم على محمد صلوات ربي وتسليماته عليهم أجمعين ثابتة واحدة على مدار التاريخ بلا تطوير أو تغير.

 

وكذلك أمور العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج، أصولها ثابتة، لا مجال للاجتهاد فيها إلا في التفاصيل والجزئيات. أيضا المبادئ الأخلاقية، وقواعد الخير والشر، والفضائل والرذائل، كل هذه الأمور ثابتة إلى يوم القيامة، لا يتسنى للحياة أن تمضي بدونها، أو تؤسس بغيابها، فهي بمثابة الإطار الضابط لسلوكيات الأفراد في الحياة، بدونها تتحول المجتمعات إلى غابة يأكل القوي الضعيف.

 

أما بالنسبة لأمور المعاملات في جوانبها المختلفة من مدنية وجنائية ودستورية ونحو ذلك فمنها ما هو ثابت محكم وهو الأقل منها، ومنها ما هو متغير متجدد يتصف بالمرونة والتطور، وهو الغالب منها. فالأسس والقواعد الكلية في المعاملات بمثابة الأطر العامة الضابطة لأداء المتعاملين، وهي التي جاءت بها الأدلة القطعية ثبوتا ودلالة، ولا مجال فيها لتعدد الأفهام وتفاوت الاجتهادات.

 

أما الفروع الجزئية والتفاصيل الإجرائية المتعلقة بكيفية الأداء ونحو ذلك فهي موصوفة بالمرونة والتجدد والتطور لمواكبة تطور الحياة، وهي منطقة الأدلة الظنية، ومجال الاجتهاد وتفاوت الآراء وإعمال العقول والأفهام، وفيها تتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال بالضوابط الشرعية في الفتيا والاستنباط، حتى لا تتحول الأحكام الشرعية لنهب مستباح يطأ بساطه كل دعيّ وماجن.

 

وهذا التفاوت في الأحكام الشرعية بين ثابت ومتغير من كمال حكمته سبحانه وتعالي، وكمال علمه بحال مخلوقاته مصداقا لقوله تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) [ تبارك: 14]. فالله - عز وجل - أعلم بما يصلح لخلقه، لذلك قدّر أن يكون من الدين ما هو ثوابت محكمات لا تصلح مسيرة الحياة إلا بتثبيته وإحكامه، وقدّر أن يكون منه ما هو متغير يواكب حاجات البشر المتطورة، ويلبي متطلباتهم المتجددة، وجعل فيه الاجتهاد متسعا، ولم يلزمهم فيه بإصابة عين مقصود الشارع، بل تعبدهم بأن يبذلوا الجهد في التعرف على أرجح الآراء دليلا وأقربهم لمقصود الشارع وتحقيقا لمصالح العباد، وجعلهم بين مجتهد مصيب له أجران، ومجتهد مخطئ له أجر. ورحمته سبحانه وسعت الاثنين.

 

ثانيا: تغير أحوال البشر

 

فإذا كانت الأحكام الشرعية فيها شق ثابت وآخر متغير، فإن أحوال البشر أيضا منها الثابت والمتغير، والادعاء بأنها كلها متغيرة ومتطورة إدعاء مجاف للواقع، ومتصادم مع الحقائق، ففي الكون سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل جرت على السابقين، وستجري على اللاحقين، لا حيلة للإنسان في دفعها أو الفكاك منها، وهذا الثبات لازم لاستقرار الحياة ومنع اضطرابها، كما أن بها أيضا أحوال متجددة متطورة لابد من تغيرها وحركتها حتى تواصل سفينة الحياة التقدم دون عنت أو تضييق. وحاجات البشر ومصالحهم منها كذل ما هو محكم ثابت، ومنها ما هو متغير ومتطور، وإلغاء منطقة لحساب أخرى تعسف ومكابرة ينكرها العقل والواقع.

 

وهنا يثور التساؤل الأصلي: ماذا يريد دعاة التطوير والتجديد من الأحكام الشرعية تحديدا ؟

والإجابة على هذا التساؤل يحسم إلى حد كبير فوضى الأقلام التي تمارس عصفا ذهنيا على عقول كثير من المسلمين وفي هذه الأيام. فلو أرادوا التجديد في القطعيات والثوابت والأصول المحسومة بنصوص محكمة قاطعة فقد خابوا وخسروا وضلوا عن سواء السبيل. مثال من يريد إباحة الفواحش والمنكرات باسم الحرية والإبداع والحماية الفكرية ومسايرة الأمم المتقدمة وتقليدا للحضارة الغربية، فذلك بالنصوص القاطعة والآراء الجامعة ردة عن الدين وخروج عن الملة.

 

أما إذا أرادوا الاجتهاد في الظنيات والفرعيات وموارد الاختلاف، بما يحقق مصالح البشرية وييسر من سبل معيشتهم ويرفع الحرج عنهم، فأهلا ومرحبا بفيوضات العقول الجادة، شريطة أن تلتزم بالقواعد الشرعية في الاستنباط والاستدلال حتى لا يكون الدين ألعوبة في يد المدعين والماجنين، يحلون ويحرمون كيف ما شاءوا، فالمشكلة لم تكن يوما في مدى قدرة الشريعة على الوفاء بمتطلبات البشر واستيعاب حاجاتهم المتغيرة، ولكن في كون هذه الشريعة من وجه نظر خصومها سدا منيعا أمام رغباتهم ونزواتهم، كابحة لجماح الأهواء والشهوات، رادعة لدعاة العربدة والتحلل، فطلاب الخنا والفجور سيتهمون الشريعة بالجمود، لأنها لا تساير أهوائهم، ولا تلين لمجونهم، فسيتهمها السكارى بالجمود لأنها لم تحل لهم الخمر حتى لو تغير اسمها لاسم آخر براق مثل المشروبات الروحية !!، وسيتهمها دعاة الرذيلة والانحلال بالجمود لأنها لا تحل لهم عربدة الملاهي ولهو المراقص واختلاط المصايف، وسيتهمها الفنانون والراقصون بالجمود لأنها لا تحل لهم الأفلام والمسرحيات والتمثيليات الماجنة باسم حرية الإبداع، وكذلك سيتهمها الزنادقة والملاحدة بالجمود واضطهاد الفكر لأنها لا تحل لهم الزندقة والعبث في ثوابت الدين باسم حرية الفكر وهكذا. هذه هي حقيقة شبهة جمود الشريعة وعدم ملائمتها لحاجات البشر المتطورة والمتجددة، مجرد أكاذيب وافتراءات وإثارة فارغة لا يراد منها إلا هجر الشريعة وفتح باب المحرمات على مصراعيه.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات