إلى العشاق والمُعجَبين:  زَوَالُ العَرَض مِن آثَـارِ العشقِ وَالحَرَض.!

محمود بن كابر أبو زيد الشنقيطي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

ولا يجدُ الواقعُ في (الحَرَض) علاجاً أنجعَ من تصحيح المَسَار, لأن المرءَ لا بُدَّ له أن يُحبَّ, وإنما المشكلة في (المحبوب) فمن جعل محبَّته مصروفةً إلى الله ورسوله والوالدَين ومراضيهم, وألزَم نفسَه ذلك فلن يجد التعلق – المفرط المذموم - بغيرهم إلى نفسه سبيلاً, ألا ترى الله تعالى يقول ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) وهذه الآية فيها من عجائب

 

 

 

 

الحمد لله والصلاة والسلامُ على سيدنا وولينا وقُرَّة أعيننا محمدٍ رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين, وبعد:

 

فـ(الحرَضُ) علَّـةٌ تصيبُ فكرَ الإنسانِ, وعِبادَتَه, ووجهَهُ, وطموحَـهُ, وهمَّتَـهُ واهتمامَه, وبدنَهُ, بل وعقلَهُ, فتُفسِد بعضَ ذلكَ أو كُلَّـهُ, وهي من أثَر عشقِ الإنسانِ وهُيامه وتعلُّقهِ وإعجابهِ الشَّديد بغَيرهِ, ووردَ هذا اللَّفظُ في القُرآن صفةً لإحدى أصدقِ وأنقَى وأطهَر صُور الحُبِّ وهي حُبُّ الوالد لولَده الفاتك بهِ حُسَّادُه كما قال إخوةُ يوسفَ لأبيهم ( تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا )، أي لا تفتُر من ذكرك ومحبَّتك يوسُفَ حتى تنتهي بك إلى فساد بدَنكَ وعقلكَ.
 
ومحبَّةُ الإنسانِ غيرَهُ حاجةٌ بشريَّة لم ولن يزعُمَ إنسانٌ خُلوَّهُ منها وعُلوَّه عليها, وأيُّنا لم يقرأ أخبارَ المُحبينَ, أو تقرعْ أذنيهِ مآسي العاشقينَ, ومن ذا الذي لم يحبَّ يوماً من الدهر فيقاسي مرارة الوجدِ وحرارة الالتياع:
 
 
فلو نظروا بين الجوانح والحشا * رأوا من كتاب الحبّ في كُلِّنا سطرا
 
لأنَّ الحبَّ فطرةٌ في أنفس البشر وما النَّاسُ إلا محبٌّ ومحبوبٌ, ولولا الحبُّ لما صفا للنَّاس عيشٌ, ولولا الحبُّ لما تراحم الخَلائقُ, ولولا الحُبُّ لما فازَ من فازَ, ولولا الحُبُّ ما استُسيغت عواقبُ الصبر وعذُوبتُها, ولولا الحُبُّ ما تحمَّل المُحبُّـونَ غلظَةَ أكباد المحبوبينَ وعدَم مُبالاتِهم, كما قال قائلهم:
 
أتيتُكَ لما ضَاقَ صدْري منَ الهَوَى * و لو كُنتَ تدري كيفَ شوْقي أتيتَني
 
 
والحُبُّ والتعلُّقُ والإعجابُ لهُ حدَّانِ وطَرفَان:

 

أحدُهما: كثيراً ما يصلُ بالعبدِ إلى رضَـى الله, وينتهي به إلى الجنَّـةِ, فمن علمَ الله تعَالى صدقَ قلبهِ في حُب النبيِّـينَ والصَّدِّيقينَ والصَّحَابة والشُّهَداء والصَّالحينَ, فهذا التعلُّقُ من قلبهِ بأولئكَ المهديِّـينَ مؤذِنٌ بأن يُنزلَهُ الله منزلتَهم في الآخرةِ كما صحَّ بذلكَ الخَبرُ عن رَسول اللهِ  عن أنَسٍ  قال (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ  : .. " وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ " قَالَ "حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" قَالَ : .. " فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ " ..

 

قَالَ أَنَسٌ:  " فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِىِّ  فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْببت " ثمَّ تعبَّد أنسٌ - رضي اللهُ عنهُ - بالحُبِّ لله تعالى فقال:  " فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ".
 
وهذا منهجٌ أسمَى في تعليم عُلُـوِّ الهمَّـة في الحُبِّ والتعلُّق والإعجابِ, ومن مجالاتِ ذلكَ حُبُّ القرآنِ والتعلُّق بتلاوةِ بعضِه أو كُلِّهِ كما ثبتَ صحيحاً عن رسول الله  في قصَّة الرَّجُل الذي أحبَّ سورةَ الإخلاصِ حُبًّا شديداً جعلَهُ لا يقرَأ بغيرها في كُلِّ صلاتهِ, وهذا التعلُّقُ لا يتصوَّرُ حقيقتَه إلا من كَان مأمُوماً, لأنَّ المأمومَ يفطِن في الصَّلاة لما لا يفطِن له الإمامُ من نفسِه, وأظُنُّ لو أنَّ إماماً صلَّى بقومه صلاتين يكرر فيهما نفسَ السُّورةِ لوجَد منهم ما يحجزهُ عن تكرار ذلك أبدَ الدَّهر, الحاصلُ:
أنَّ جماعةَ هذا الصَّحابيِّ الإمامِ عجِبُوا من اقتصارهِ على سورة الإخلاص بعد الفاتحة في كلِّ صلاتهِ فشَكوهُ إلى رسول الله  فاستدعاهُ يقولُ (مَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ) َفقَالَ إِنِّي أُحِبُّهَا فَقَالَ  (حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ)
 
ومِن الحُبِّ ما يكُونُ تعلُّقاً شديداً جداً يتكدَّرُ معهُ خاطرُ المرءِ ويتأثَّر به لونهُ وجسدُه إن ترقَّبَ محذُوراً يمنعهُ ممَّن يحبُّ ويهوى, وقد حصل ذلك لمولى رسول الله  ثوبانَ  كما صحَّ عنهُ أنَّهُ بلَغَ به التعلُّق برسولِ الله  مبلغاً جعلهُ قليلَ الصبر عن رؤيته وحديثهِ ومخالطتهِ, حتى دخَل عليهِ يوماً وَقد تغير وَجهُه وَنحل جِسْمُه وَعُرف الْحزن فِي وَجهه فَسَأَلَهُ رَسُول الله  عَن حَاله فَقَالَ "يَا رَسُول الله مَا فِيَّ من وجع ؛ غير أَنِّي إِذا لم أرك اشْتقت إِلَيْك وَاسْتَوْحَشْت وَحْشَة شَدِيدَة حَتَّى أَلْقَاك, فَذكرت الْآخِرَة فَخفت أَلا أَرَاك هُنَاكَ, لِأَنِّي عرفت أَنَّك ترفع مَعَ النَّبِيين, وَإِذا دخلت الْجنَّة كنت فِي منزل دون مَنْزِلك, وَإِن لم أَدخل فَذَاك حِين لَا أَرَاك أبدا" فَنزلَ قولُ الله تعالَى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)

 

ومن سُنَّة نبينا  في أحاسيسِ الحُبِّ الشَّرعيِّ إعلانُها وإشهارُها وتكرارُ الإخبارِ بها توكيداً لها كما فعل عليه الصلاة والسلام مع الأنصار يوم قال لهم كما صحَّ عنهُ (اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ)قالَها في طريقٍ لقي فيه صبيةً ونساءً من الأنصار وهو يُكرِّرُها ثَلاَثَ مِرَارٍ.

 

وكما قالَ في أسامةَ بن زيد يوم نيلَ منه ببعض القيل "وَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ".

 

بل رُبَّما زادَ من جمَال وجلالةِ التَّعبير عن الحُبِّ فأخَذ بيَد محبُوبه وأقسمَ لهُ على الحبِّ وهو الصَّادقُ المقصودُ ولو لم يُقسِمْ, كما جاء صحيحاً عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ  أَنَّ رَسُولَ اللهِ  أَخَذَ بِيَدِهِ يَوْمًا فَقَالَ "يَا مُعَاذُ ، وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّك" ولا شكَّ أن إمساكَ اليَد والقسَمَ على الحُبِّ حينَ الإخبارِ بهِ لهُ أثَرٌ على المحبوبِ من كل أحدٍ, فكيف لو كانَ من رسول الله  فلله أنت يا معاذُ رضي الله عنكَ من يُساميك ويُدانيكَ ويُحاذيكَ..؟

 
وثانيهِما: ما لا يصلُ بالعبدِ لرضَى الله ولا سخَطهِ إذا كان في المُبَاحَاتِ كحُبِّ القرابة والرِّياض والغُدران والأنهار والفَيَافي والزُّهور والشِّعر والتَّرجمةِ والخطِّ والصَّيد وغير ذلك مما لا نيَّة فيه لخير أو شرٍّ, وإنَّما يجري من العبد مجرى الطبيعة والميول الفطري.

وقد يكونُ الحُبُّ في هذا الطَّرفِ غيرَ موصلٍ لسَخَط الله تعالى أوَّل الأمر, ولكنَّـهُ يعرِّضُ في وسَطه أو مُنتهاهُ إلى سخَط الله تعالى, ووجوهُ ذلكَ أكثرُ من أن يستقصيَها المقالُ, ولعلَّ التمثيلَ ببعضِها يُغني عن الحصر, فحُبُّ الوالدَينِ الولدَ والولدَ الوالدَين, وحُبُّ المرأةِ زوجَها وحُبِّ الرَّجُل زوجتهُ طاعةٌ وعبادةٌ وقُربةٌ, لكنَّ استفحالَها إلى درجَة إعطائها أولويةً على مناهي الله وأوامره يجعلُ هذا الحُبَّ سخطاً من الله وإن لم يكن كذلك أوَّل الأمر.
 
 
وكذلكَ الأمرُ بالنِّسبة للعشقِ والتعلُّق بين الذَّكرَينِ والأنثيَيْـن إذا تخطَّى حدودَ الطبيعَة إلى الشُّذوذِ فهو هاويةٌ سحيقةٌ إلى جهنَّم, وإن كان في أوَّلهِ طبَعياً عاديًّا, لكنَّه متى استفحَل إلى ما لايُحمَدُ فجرَّ إلى الغيرَة على المحبوبِ واعتبَارهِ مجَالاً لاستنبَات ما لا يصلحُ لهُ من حاجاتِ البَشَر القائمة على اختلاف الجنسينِ فهُو حبٌّ هَارٍ بالمحبِّ في مكانٍ سحيقٍ.

 
ومما يجدُر الحديثُ عنهُ في أحاسيس الحُبِّ: اقتضاءُ فطرةِ الله التي فطَر النَّاسَ عليهَا ميَلان جنسِ الرِّجَال إلى النِّسَـاءِ عموماً, ولا يعظُم عن هذا الميَلان الفطريِّ القائمِ عالمٌ ولا إمامٌ ولا وليٌّ ولا نبيٌّ, وكذلكَ العكسُ فما من امراةٍ إلا تقتضي فطرتُها هذا الميَلانَ الطبَعيَّ إلى الرَّجُل, ومن أجل ذلكَ كانَ الحُبِّ في هذه الجُزئيَّة ذا مراحل مختلفةٍ, فمنهُ ما هو معفُوٌّ عنهُ كحُب أحدِهما الآخَرَ على وجهِ اقتضاءِ الجبلَّـة لأجل اكتمالِ حياته بهِ من غير إعمالِ وسيلةٍ غير مرضيَّـةٍ ولا شرعيَّةٍ, ومن مراحلِ هذه الجُزئيَّة مرحلةٌ يُغالبُ فيها المرءَ دواخلَهُ وعواطفَهُ لعدَم شرعيةِ غاياتِها, كحُبِّ المحَارمِ والمُحصَناتِ والكوافرِ, وهذا يحرُم السَّعي إليهِ وإنماؤُه, وقد تكونُ غاياتُه شرعيَّةً كحُب أجنبيٍّ لأجنبيَّةٍ عنهُ أو العكسُ لغايةٍ شرعيةٍ ممكنةٍ وهي الإفضاءُ إلى التزوُّجِ إن غلبَ على الظَّن إمكانُه, وهذا لا ينبَغي أن يُؤتَى من غير أبوابهِ, فليسَ من البرِّ إتيانهُ من الظُّهُور ولا التسوُّر إليه, ومتى غلبَ على الظنِّ استحالتهُ فتجبُ مدافعتُهُ بما يُستَطَاعُ, والعبدُ في حلٍّ من مغارمه ومآثمهِ ما لم يتكلَّم أو يكتُب أو يعمَلْ.

 

وإن يعجَب القارئُ الكريمُ فعجبٌ أن يُسيطرَ الحُبُّ على انفعَالات أقوامٍ وهُم لا يشعُرون, فيأتون في سبيل التعلق والإعجاب أموراً فيها انقلابٌ عللا الفطرة ومغالبَةٌ للجبلَّة أو حلقٌ للدِّيانة بالسَّبب أو المباشَرة وهم لا يشعُرون, ولهذا مظاهرُ كثيرةٌ قد تتباينُ في أشكالها لكن مقابحَها واحدةٌ, ومنها – تمثيلاً لا حصراً - :

 

• أن يبلُغ حبُّ الطالبِ لشَيخه وإعجابهُ وتعلُّقُه به مبلغاً يحملُه على محاكاته في المشية, وبُحَّـة الصوت, ورائحة الطيب, وطريقة قص الشَّارب, ولون السيَّارة, وغير ذلك من الأمور التي يُعتبر العمْدُ فيها إلى التقليد والمشابهةِ نوعاً من سلب الإرادة ورداءة الطموح, وقد رأيتُ من ذلك أعجبَه حين يكون شيخُ واحدِهم عالماً جليلاً مرضِياً ابتلاهُ الله بسوء الخط فيسعى التلميذ العاشق إلى إرغام نفسه على رداءة الخط حتى يكون كالشيخ, أو يكون الشيخُ ابتُلي ببلاء في صوته فيتمرَّسُ العاشقُ سنوات وسنواتٍ بغية الظفر بحشرَجة شيخه غير المقصودة, والناتجة عن المرض والإصابة, أو يكون مُحدَودبَ الظهر خِلقَةً وزادته سنونه الثمانون التي قضاها, فيحني مريدُه العاشقُ ظهرهُ ويتحادَبُ وما به من حدَبٍ, إنْ يُريدُ إلا المشابهة في الصورةِ..!!
 
• تركُ اللهجَة الأصيلة التي يتحدَّثُ بها المرءُ منذ أنطقهُ الله إلى ساعة إعجابه وتعلقه بمعشوقه شيخاً كان أو أستاذاً أو زميلاً أو داعيةً أو لاعباً أو.. أو .. أو .. الخ, فتراهُ يستبدِلُ لسانَه بلسَان المحبُوب وإن لم يكُن يسطيعُ محاكاتَهُ, ويُجاهِدُ في ذلكَ جهاداً لو بذَل بعضَه في تعلم لغة أخرى تنفعه في دنياهُ لما شُقَّ له في ذلك غُبارٌ.
 
• تغيير التخصُّص والميول إلى تخصص وميول المحبوب لا لشيءٍ إلا للظَّفَر بمُشابهَته في التخصص, وهذا أغربُ ما يكونُ من العمَـهِ في سَكرةِ الحَرَض, لأن الطبائع والمواهب ذاتُ شقَّين أحدُهما فطريٌّ والآخَر اكتسابيٌّ, ونادرٌ جداً أن تتشكَّل الموهبةُ أو الميول أو الرَّغبَة بأحد هذين دونَ الآخر, فإذا كان المعشوقُ المحبوبُ مفطوراً على حُب الإنشاد والحُداء ويملك لذلك قدرةً منحهُ الله إياها متمثلةً في صوته الجميل, وزاد هو موهبته ونمَّاها باكتسابه مكمِّلات الممارسَة فمن الخطإ أن يمزِّق العاشقُ حبالهُ الصوتيَّة الضعيفة, أو يخرق آذان السامعينَ الضعيفة, بتسوُّره جدار هذه الموهبة التي لا تصلح لهُ فطرةً ولا اكتساباً, ولا يكفي العشقُ (وحدهُ) لتأهيلك أن تكون نُسخةً أخرى من محبوبك, وقس على ذلك الشعرَ, والخطَابة, والرَّسم, والإصلاح الاجتماعيَّ, والوعظَ, والسَّفرَ, والتأليفَ, و.. و.. و.. الخ.

 
ولا يخفى أن هذه الأنماط الثلاثة المُستقبَحَة وإن لم تكن حرَاماً, إلا أنَّها ينبغي أن تَشغَل أذهان المُربَّين والمصلحين ولا ينبغي أن يُستَهان بها, فقد أفرزت بعضَ الجيل خاوي الطُّموح بارد الهمَّة فترى أوحد أمنيات بعض أفراده التقاطَ صورة تذكارية مع فُـلانٍ وعلاَّن وكونهُ منسقاً للداعية الفلاني, وعلى صلة هاتفية بالعلامة الفلاني, وأميناً على سر الشيخ الفلاني, وحضر لزواجه المشهور الفلاني, مما يوحي لمن يليه من النَّشإ البريء أن هذه المكاسبَ مشروعاتٌ حياتيةٌ حقيقة بإفناء العمر لتحصيلها, ولا ضير على حائزها أن يفاخر بها حيثُما حلَّ وارتحلَ, ويحسِبها العافية والمعافاة الدائمة, وموجبة الرحمة وعزيمة المغفرة, وهذه الخُطوات وما يصطفُّ معها مما يخطُر ببالك أيها القارئ الكريم: خُطُواتٌ إجباريةٌ في السَّير إلى الأنماط المحرَّمة من نقش اسم المحبوب وصورته ونحتها على الجسَد وما يلي ذلك من دَرَكات قد تُفضي للعبَادة إن لم تتداركِ العاشقَ نعمةٌ من ربِّـه.

 

ويكفي المرءَ إزراءًا بنفسه أن يكون من أهداف حياته: ذوَبانُ ذاته, وانصهارُ شخصه, واختفاء استقلاليته بتبعيَّة بعضِه أو كُلِّه لأحد غير رسولِ الله , ولهذا فإنه  كان يُحيلُ النَّاس إلى مشابهته والاقتداء به عند علاج الاجتهادات الخاطئة كما فعل مع عثمان بن مظعون  حين قصَّر في حق زوجه بمواصلة الصيام مع القيام فأحاله النبي إلى الأسوة المعصومة الكامنة في حياته ومنامه وصيامه وقيامه قائلاً " يَا عُثْمَانُ: إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا ، أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ! فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ ", وكذلك عبيدةُ بن خلف حين جرَّ إزارهُ في المدينة فغمزه  بِمخصَرةٍ معه ثم قال " أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ‏.؟‏ " قال عُبيد: "فَنَظَرْتُ فَإِذَا إِزَارُهُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ".

 
ولو كان عند شبابنا وفتياتنا (المعجَبين – العُشَّاق – المتعلِّقينَ – المقلِّدينَ – الحرَضِ) اكتفاءٌ ذاتيٌّ في المتارك والمآخذ الشخصيَّـة والشَّرعية والاجتماعية والنَّفسيَّة لما سمَح الواحدُ منهم لنفسهِ بأن ينزل هذه المنزلةَ حتى يرهَن (نفسَه, وطُموحهُ, ومظهَره, ورائحتهُ, وصوته, وصورتَه, وتوقيعهُ, وشاربه, ولحيتهُ و.. و.. و.. الخ) لغيره ممن يُحب ويَعشَقُ ولو كانَ من كان, ومن أجل ذلك كان حديثُ القرآن عن الأسوة والقُدوة محصوراً في شخصيَّاتٍ عصمَها الله تعالى كشخصية رسول الله  التي قال الله عنها في باب المشابهة والائتساء ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وكشخصيَّة خليل الله إبراهيم  وإخوته من أنبياء الله ورسله الذين قال الله عنهم ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) أي: من الأنبياء, ( وقال لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) أي: في الأنبياء, وقال حاضاً نبيه  على الاقتداء بمن سبقه من رسل الله تعالى ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ), ومن تأمل هذا الأمر وجد علَّته حاضرةً في قول الله تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فليس الأمر بالاقتداء بهم استحقاقاً ذاتياً من عند أنفسهم, بل لأنَّهم (مهديُّونَ إلى صراط الله المستقيم) على وجه الجَزم والتحقيق واليقين, فلا يصدر منهم ما يُنافيه قطعاً وما حصل من ذلك بيَّن الله لعباده أمره فلا يلتبسُ, ومن عداهم فهو مترددٌ فيما يأتي ويذرُ بين الضلالة والهُدى وإن تفاوتت النسبةُ بحسب الرُّتبة والحقبَة والشريعة حاكمةٌ عليه وعلى غيره وفاصلةٌ بينَهم, ولذلك كانت الاستماتةُ في مُشابهَته المجردة عن التعبُّد عيباً وشَيـْناً.
 
بقي أمرٌ مهمٌ لا يسعُ إغفالهُ وهو: أنَّ آفَةَ الحُـبِّ – غالباً - تكمُن في تمكُّـنه من القَلب من غير سعيِ العبدِ أو اختيارهِ, وعلى هذا النَّوع من المحبَّة حمَل بعضُ العُلماء تفسيرَ قولِ الله تعالى ( رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِه ) فقالوا هو: الحُبُّ أو العشقُ, ومن هُنا تبدأُ مرحَلةُ الابتِـلاء ليبلُوَ اللهُ المُحبِّـينَ أيُّهُم أحسَنُ عَمَلاً.!

 

وقد يَسعَى العبدُ إلى ذلك بنفسهِ حتَّى إذا وقعَ في (الحَرَض) ومقدِّماته, وعالجَ ألمَ نتائجهِ ومُعطَياتِه, استعظَم حالهُ فلم يَسْطِعْ عَليهِ صبراً, وفي حديث القرآن عن المحبَّـة أو العشقِ (غير المحمودِ)نجدُه صنواً للخَمر, يفعل في العقل ما يفعلهُ الخَمر من الحملِ على قول وفعل واعتقادِ ما لا ينبغي ولا يكُونُ, وذلك قوله تعالى (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) مع أنَّ الذي بهم ليسَ سُكراً ولم يشربوا خمراً, إنما كانت فتنتُهم في الصور والذَّوات التي ابتُلوا بعشقِها.

 

و(سَكرَةُ الحُبِّ) أو (الحَرَضُ) أو (العشقُ) أو (التعلُّقُ) أو (الإِعجَابُ) المفضي إلى قولِ وفعلِ واعتقَادِ ما لا ينبَغي أو لا يجُوزُ ولا يحلُّ (هوَ في الفَتكِ أسرَعُ المُوبِقَاتِ) وهو من بلاء الله الذي تنبغي مدافعتُه حسب الطَّاقة والوُسع.

والإزراءُ بالعُشَّاق والمفتونين وذمهم والوقيعةُ فيهم ولمزُهم بما هم فيه ليس من الديانة والإصلاح والعلاج في شيء, فمن ملك لهم نصيحةً وعلاجاً وتوجيها فحقُّهم عليه بذلها, ومن عجَز فليحمد الله على العافية, ولذا فإن رسول الله  عايَن إحدى حالات العشق والهُيام التي بعثته على إخبار غيرهِ من الصَّحابة عن عجَبه من هذا الحال الغريب من العشق والتعلُّق كما في قصة بريرة ومغيث التي يقول عنها شاهدٌ عليها وهو ابن عباس  (كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِى وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ) وهذا المُستَوى عزيزُ الوُجود بين الرجال, وإن وُجد فأعزُّ منه عدمُ الحرَج منه الماثل في الطَّواف خلف المحبوب توسُّلاً إليه واسترحَاماً, وهذا ما حصل لمغيث  فقد حمله حبه لزوجته المفارِقة له على أن يبكي ويطوف خلفَها طمعاً في مراجعته حتى عجب رسولُ الله  لفرط هذا التعلق قائلاً لعمه العباس  " أَلاَ تَعْجَبَ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا ", ثم زادت رحمتهُ  وشفقته على مغيث لدرجة اضطر معها للشفاعة عند بريرة  قائلاً  " لَوْ رَاجَعْتِيهِ فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ " فامتنعت من مراجعته  لما عرفت أنه  شافعٌ لا آمرٌ, ورسول الله  وصحابتُه لم يلوموا مغيثا أو يعيبوهُ أو يُزروا بهِ - وإن عجبوا من فرط عشقه وتعلقه – والواجب على من بعدَهم أن يلزَم طريقهم في العلاج فيقول خيراً أو يصمُت.

 

ولا يجدُ الواقعُ في (الحَرَض) علاجاً أنجعَ من تصحيح المَسَار, لأن المرءَ لا بُدَّ له أن يُحبَّ, وإنما المشكلة في (المحبوب) فمن جعل محبَّته مصروفةً إلى الله ورسوله والوالدَين ومراضيهم, وألزَم نفسَه ذلك فلن يجد التعلق – المفرط المذموم - بغيرهم إلى نفسه سبيلاً, ألا ترى الله تعالى يقول ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) وهذه الآية فيها من عجائب الهداية ما يحيرُ الألباب, فليس في الوجود أحدٌ تُشرَع محبَّتُه لذاته من كلِّ وجهٍ إلا للهُ تعالى ,وكل المحابِّ بعد الله تعالى إنما هي لأجله سبحانه لا لذواتِها, ولذلك لما أراد تبيين شدَّة تعلق أولئك بالأنداد قال ( يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) لأن حبه أقصى غاية الحبِّ.

 

ولذا فإنَّ الله تعالى لمَّا ذكَر شدَّة تعلُّق امرأة العزيز بنبي الله يوسُف بيَّن انصراف يوسفَ عليه السَّلام عن مبادلة العشق بالعشق وقال ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ) ثم بيَّن لكل من سمع بأمر امرأة العزيز ويوسفَ طريقة اكتسَاب هذا الصَّرف الربَّاني للعباد عن كل فاحشة وسوءٍ يجُرُّ إليها العشق فقال معلِّلاً ( إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ ) بكسر اللام كما في القراءةِ الأخرى المتواترة فإخلاصُ يوسفَ لله كان حجاباً حاجزاً له عن الاغترار بعشق امراة العزيز وهُيامها, والإخلاصُ هنا عامٌ يشمل إخلاص الحُب والغاية والفعل والقول والاعتقاد.
  
وعشق المرأة للرجل أو العكس, له في التداوي أسباب غير ذلك منها النكاحُ والتزوُّجُ متى ما أمكنَ لقوله الصحيح " لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابِّينَ مِثْلُ النِّكَاحِ " وهذا في حالة أن المُتحابَّين لا يمنعُهما مانعٌ من التزوج, فليس أحدُهما بمحرم للآخر, وليست المرأة ذات زوج, وليس الرجل ذا أربع نسوة, ولا يغلب على ظن أحدِهما استحالة النكاح لأعراف قوم الآخر وعاداته وعدم التكافؤ بينهما.
 
أما إذا استحال النكاح لاختلاف الدين أو إحصان المرأة أو قيام المحرميَّة أو قيام مانع عرفي واجتماعي بأحدهما فلا سبيل للدَّواء أنفعُ من إنزال المعشوق منزلة الميت الذي لا سبيل إلى الاتصال به على كل حال, وهذا يكون بتناسيه والإعراض عنه وصرف القلب عن التفكر فيه والمجاهدة في ذلك, ومن وسائل الإعراض في حياتنا ترك المنتديات والقنوات التي يغشاها ويتواجد فيها, وعدم القراءة لهُ, والاستعاضة عنه بغيره, وإقناع النفس بذلك فلا شيئ غير الوحيين في الدنيا إلا ويغني عنه غيرهُ, وهذا التناسي واليأسُ داخلٌ في جملة الاستعفاف التي أحال الله إليها عند عدم النكاح والقدرة عليه بقوله وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً يقول ابن القيم  تقريرا لذلك "فَمِنْ عِلَاجِهِ إشْعَارُ نَفْسِهِ الْيَأْسَ مِنْهُ فَإِنّ النّفْسَ مَتَى يَئِسَتْ مِنْ الشّيْءِ اسْتَرَاحَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهِ".

 

فإن لم يُجْدِ ذلك اليأسُ شيئاً فللمحب أن يقسو على نفسه وأن يقسو عليه أقربوه طلباً لمعافاته فيجعلوا استمرار التعلق ع استحالة الوصول للمحبوب جُنوناً منهُ, والعاقل لا يرتضي وصف الجنون, قال ابن القيم  "فَإِنْ لَمْ يَزَلْ مَرَضُ الْعِشْقِ مَعَ الْيَأْسِ فَقَدْ انْحَرَفَ الطّبْعُ انْحِرَافًا شَدِيدًا فَيَنْتَقِلُ إلَى عِلَاجٍ آخَرَ وَهُوَ عِلَاجُ عَقْلِهِ بِأَنْ يُعْلَمَ بِأَنّ تَعَلّقَ الْقَلْبِ بِمَا لَا مَطْمَعَ فِي حُصُولِهِ نَوْعٌ مِنْ الْجُنُونِ وَصَاحِبُهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْشَقُ الشّمْسَ وَرُوحُهُ مُتَعَلّقَةٌ بِالصّعُودِ إلَيْهَا وَالدّوَرَانِ مَعَهَا فِي فَلَكِهَا وَهَذَا مَعْدُودٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ فِي زُمْرَةِ الْمَجَانِينِ", وليُرجع لكلامه  في زاد المعاد فقد ساق فيه أنفع علاجات العشق وختمَها بجُملة تكتب بماء العيون, وهي قوله "فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْأَدْوِيَةُ كُلّهَا لَمْ يَبْقَ لَهُ إلّا صِدْقُ اللّجَأِ إلَى مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إذَا دَعَاهُ وَلْيَطْرَحْ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى بَابِهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ مُتَضَرّعًا مُتَذَلّلًا مُسْتَكِينًا فَمَتَى وُفّقَ لِذَلِكَ فَقَدْ قَرَعَ بَابَ التّوْفِيقِ فَلِيَعِفّ وَلْيَكْتُمْ وَلَا يُشَبّبْ بِذِكْرِ الْمَحْبُوبِ وَلَا يَفْضَحْهُ بَيْنَ النّاسِ وَيُعَرّضْهُ لِلْأَذَى فَإِنّهُ يَكُونُ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا" وليُراوح المُبتَـلى ويداوم النَّظَر والفكرة في أمرين مهمَّين: قبحُ المعصيةِ وفضيلةُ العفاف.

 

 فمن أدمن فيهما النَّظر وقاهُ الله تعالى الخطَر ودفعَ عنه الضَّرر, وصلى الله تعالى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات