سلسلة أمراض على طريق الدعوة (14) الغضب

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

للغضب آثار ضارة، وعواقب مهلكة على العاملين، وعلى العمل الدعوي نفسه، وذلك بصور كثيرة، فمن آثاره على الداعية: سقم الأبدان، فالغضب يؤدي للكثير من الأمراض المهلكة المزمنة مثل ضغط الدم، وتصلب الشرايين، والجلطات المتكررة، والسكر، والشلل والعياذ بالله، وربما قتل الغضب صاحبه بأن ينفجر القلب أو الدماغ من شدة اندفاع الدم فيهما. ومن آثاره أيضا نقصان الدين، فالغضب

 

 

 

 

طريق الدعوة؛ طريق شاق مليء بالصعاب والمعوقات والعقبات والمواقف العصيبة، فموضوع الدعوة؛ هم الناس، ومخالطة الناس واحتمال أذاهم تحتاج إلى صبر، ومصابرة، واحتمال لأقصى درجات الاحتمال، فالداعية يجب أن يكون واسع الصدر مع الناس، يصبر على أذاهم، ويحلم على جهلهم، ويعفو عن تهورهم، ويبش في عبوسهم، لذلك كان الصبر مع اليقين هما طريق نيل الإمامة في الدين، قال تعالى: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) [ السجدة 24]. لذلك كان الغضب من أشد الآفات فتكا بوظائف الدعاة، وأسرع السبل لإحباط جهودهم، وإضاعة تعبهم ودعوتهم، ومعظم مشاكل الدعاة مع الجماهير سببها يرجع إلى الغضب، ومن ثم كان الوقوف عليه ومعرفة أسبابه ودوافعه من أهم أولويات فقه الدعوة والداعية.

 

أولا: الغضب في اللغة

 

الغضب في اللغة له عدة معاني منها: السخط، أو عدم الرضا بالشيء وعن الشيء، يقال: غضب عليه غضبا، ومغضبة: سخط ولم يرض، وغضب له: أي سخط على غيره من أجله. ومنها العض على الشيء، يقال: غضبت الخيل على اللجام: أي عضت عليه. ومنها العبوس، يقال: ناقة غضوب، وامرأة غضوب، أي عابسة. ومنها ورم ما حول الشيء، يقال: غضبت عينه، أي ورم ما حولها. ومنها الكدر في المعاشرة والخلق، يقال: هذا غُضَابي، أي متكدر في عيشه. ومنها الجُنَّة، تتخذ من الإبل وتلبس في القتال، والغضبة: جلد المسن من الوعول حين يسلخ.

 

ثانيا: الغضب في الاصطلاح

 

الغضب في الاصطلاح معناه: تغير حال الإنسان داخليا، بصورة يندفع معها الدم إلى الصدر والرأس، فيترتب عليه تولد انفعالات تدعو إلى الرغبة في الانتقام، وشفي الصدر مما يجده الإنسان، والتغيرات الداخلية تقود إلى تغييرات خارجية من احمرار الوجه والعينيين، وارتفاع الصوت، وارتجاف البدن، وأشد منه الغيظ الذي هو أشد الغضب.

 

ثالثا: الغضب في ميزان الإسلام

 

الغضب فطرة إنسانية تعامل معها الإسلام كحقيقة ثابتة، وعاطفة بشرية لا مفر منها، لذلك كان دور الإسلام أن يرشد هذه العاطفة ويقومها لا أن يلغيها أو يتجاهلها. وحقيقة الغضب في الإسلام: أن منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، فما كان دفاعا عن النفس أو العرض أو المال أو الدين أو نصرة للمظلوم، ونجدة لمقهور، فهو الغضب المحمود الذي يحبه الله ورسوله، ويشهد لذلك أدلة كثيرة منها: قوله عز وجل ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [ الفتح 29 ] والشدة على الكفار لا تكون إلا عن حمية وغضب، وذلك لا يكون إلا لنصرة دين الله أو غضبا لانتهاك حرماته، وهم في نفس الوقت رحماء فيما بينهم، فشدتهم ليست مطلقة، وكذلك رحمتهم ليست مطلقة، وهو التوظيف المثالي لهذه العاطفة القوية.

 

ومنها قوله عز وجل: ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة 54 ]، وفي هذه الآية ذكر الله - عز وجل - ، أن من صفات المرشحين للتمكين في الأرض، وحماية دين الله - عز وجل - ، والانتصار لشريعته؛ العزة على الكافرين والذلة على المؤمنين.

 

ومنها قوله عز وجل: ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ) [ التحريم 9 ] والغلظة على الكافرين والمنافقين لا تكون إلا عن غضب عليهم بسبب كفرهم ونفاقهم.

 

ومنها قول عائشة - رضي الله عنها  - في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما إلا ما كان إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله ".

 

أما الغضب المذموم فما كان انتقاما للنفس، وثأرا لحظوظ الدنيا، ومنافسة على زينتها، وهو المقصود بالذم والذي جاءت الآثار والأخبار بالنهي عنه والتحذير من عواقبه، ومنها:

 

ما رواه البخاري في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب "، وعن أبي هريرة أيضا: أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أوصني، قال: " لا تغضب "، فردد مرارا، قال: " لا تغضب ". وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  قال: " ما تعدون الصرعة فيكم ؟ " قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: " ليس ذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب ". وكان عبد الله ابن مسعود يقول: " انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه " يقصد معرفة الرجل وأخلاقه عند المواقف الصعبة والتحديات الجالبة لانتزاع صفاته الحقيقية.

 

وعلى هذا فللغضب ثلاث درجات: الأولى: درجة الاعتدال وهي الدرجة المحمودة بأن يكون غضبه دفاعا عن نفسه، أو دينه، أو عرضه، أو ماله، أو حرمات المسلمين وحقوقهم، وهي الدرجة التي خلق الغضب من أجلها، دونها تفسد الأرض بانتشار الفوضى، وتقويض نظام الاجتماع، وتختلط الأنساب، وتنتشر الفاحشة، وتبطل سبل المعيشة. الثانية: درجة التفريط، وهي أن يفقد الإنسان عاطفة الغضب بالكلية، وتلك الحالة المذمومة شرعا، والمرفوضة عقلا وعرفا، إذ يتحول الإنسان وقتها إلى كائن بليد، عديم النخوة، ساقط المروءة، جبان خائر، أحط من الأنعام والدواب التي تثأر لنفسها، وترد عدوان من يعتدي عليها. الثالثة: درجة الإفراط، وعندها خرج الإنسان من طور الاعتدال إلى طور الطغيان على عقله ودينه، ويتأبط الشر في مدخله ومخرجه، ويندفع في طريق الشر بلا روية بما قد يقوده إلى الهلاك، وهو ما نراه من البعض حين يغضبون، فيرتكبون أبشع الجرائم، وشر الموبقات، فيندمون حين لا ينفع الندم.

 

الأسباب المؤدية للوقوع في الغضب:

 

1 ـ البيئة المحيطة بالمرء، فقد يكون الداعية قد نشأ وترعرع في بيئة غضوب، مليئة بالنزقين، ومن يفهمون الرجولة بصورة خاطئة، بأنها ارتفاع الصوت، وكثرة المشاجرات، فتتأثر نفسه بذلك، وتتشرب من حيث لا يدري، وببطء هذه الآفة الخطيرة، ويتحول الغضب عنده إلى عادة وديدنا.

 

2 ـ كثرة المراء والجدل، فالله - عز وجل -  إذا غضب على عبد ألقى عليه الجدل، ومنعه من العمل، ومن موروثات الجدل البغيضة؛ أن كلا المتجادلين يريد أن ينتصر على قرينه، ولو بالباطل، وحين لا يتم له ذلك يغضب ويثور، قاصدا السطو أو الانتقام، وقلما نجد جدالا ينتهي بسلام ومحبة، فغالب المجادلات تنتهي بغضب وخصام وفساد ذات البين، لذلك نهى الله - عز وجل -  عن الجدال بالباطل في آيات كثيرة، وكذا مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم -  من ترك الجدال ولو كان محقا، وبشره بالمثوبة العظيمة.

 

3 ـ كثرة المزاح، فالمزاح مباح، ولكن كثرته وخروجه عن حد الاعتدال، يخرج به على إلى الباطل والكذب، وتعمد السخرية وإضحاك الآخرين، وعندها يؤدي المزاح إلى ما لا يحمد عقباه، من الخصومة والخلاف وإشعال نيران الغضب، وكم من جريمة ارتكبت بدأت بالمزاح، وانتهت بالبكاء والعويل، والرسول - صلى الله عليه وسلم -  لم يكن مزّاحا، نعم كان يمزح ولكنه لا يقول إلا حقا، ولا يدع أحدا يحزن من مزاحه، وقد ورد في الأثر: " لا تمار أخاك ولا تمازحه، ولا تعده موعدة فتخلفه "

 

4 ـ عدوان الآخرين، فاعتداء الآخرين على الفرد بأي صورة من صور العدوان يؤدي إلى الغضب لا محالة، فالسخرية، والاستهزاء، والتجسس، والتتبع للعورات، والغيبة، والنميمة، والسب، والتجريح، والضرب، والاضطهاد، والتنكيل، والتشريد، والاعتقال، كل هذه الصور وغيرها تشعل نيران الغضب في الصدور، بصورة قد تدفع لأعمال انتقامية وردود أفعال أكبر وأعمق من أصل العدوان نفسه، لذلك قد نهى الله ورسوله عن كل صور العدوان على المسلمين بالقول والفعل و حتى بالإشارة.

 

5 ـ التذكير بالعداوات القديمة، وهو من مداخل الشيطان وجنوده على المؤمنين، فالتذكير بالعداوات القديمة، والثارات التي اندرست، وإيغار الصدور، وتذكية النفوس التي خفت صوت الانتقام والحقد فيها عبر السنين، واستجلاب الأحداث التاريخية الأليمة، كل ذلك من أبرز الأمور التي يستخدمها إبليس وجنوده من الحاقدين والحاسدين والبغاة والنمامين والوشاة، للإيقاع بين المؤمنين، ولعل في قصة شاس ين قيس اليهودي الخبيث مع الأوس والخررج في المدينة خير دليل على هذا المدخل الكبير للغضب، فقد ذكر المفسرون أمثال الطبري وابن كثير وغيرهما أن قوله عز وجل: ( يا أهل الكتاب لما تكفرون بآيات الله حتى قوله أولئك لهم عذاب عظيم ) [ آل عمران 98 ـ 105 ]، قد نزلت في شاس بن قيس وكان شيخا يهوديا قد عسا في الجاهلية، شديد الضغن والكراهية على المسلمين، شديد الحسد لهم، وقد هاله ما رآه من اجتماع الأوس والخررج والألفة والمحبة بينهم، بعد عهود من القتال والعداوة فيما بينهم، فأمر أحد شباب اليهود أن يدخل ناديهم ويجلس بينهم، وينشد أشعار يوم بعاث ـ يوم اقتتل فيه الأوس والخزرج قتالا شديدا قبل الإسلام ـ وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل الشاب، فأثار غبار العداوات القديمة، فتقاول الحيان، وتنازع الرجال، وعلت الأصوات، وغضب الفريقان، ونشب القتال بالأيدي والسياط والنعال، حتى كاد أن يصل الأمر لحمل السلاح، فعصمهم الله - عز وجل -  بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج إليهم ووعظهم وذكرهم، وقال لهم: " يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا " ففاء القوم إلى رشدهم، وألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا، وتعانق الرجال، ثم انصرفوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -  سامعين طائعين، ورد الله كيد اليهودي الخبيث " شاس بن قيس ".

 

آثار آفة الغضب على الدعوة والداعية:

 

للغضب آثار ضارة، وعواقب مهلكة على العاملين، وعلى العمل الدعوي نفسه، وذلك بصور كثيرة، فمن آثاره على الداعية: سقم الأبدان، فالغضب يؤدي للكثير من الأمراض المهلكة المزمنة مثل ضغط الدم، وتصلب الشرايين، والجلطات المتكررة، والسكر، والشلل والعياذ بالله، وربما قتل الغضب صاحبه بأن ينفجر القلب أو الدماغ من شدة اندفاع الدم فيهما. ومن آثاره أيضا نقصان الدين، فالغضب يقود لوقوع الداعية في غيبة الآخرين وانتهاك أعراضهم أو سبهم وشتمهم، إلى آخر تداعيات فورة الغضب الأليمة. ومنها فقدان السيطرة على النفس، ومن ثم تخرج القرارات المتعجلة والخطوات المتسرعة، فالغضب جنة العقل، يغطيه ويمنعه من العمل والتدبر والتفكر، وقد ورد في الأثر: أن إبليس يلعب بالرجل الحديد ـ أي الغضوب ـ كما يلعب الصبيان بالكرة. ومنها الوقوع في مذلة الاعتذار، وما أدراك ما مذلة الاعتذار، والنبي - صلى الله عليه وسلم -  نهي عن ارتكاب ما يعتذر منه، فقال " إياك وكل ما يعتذر منه " أخرجه المقدسي في المختارة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.

 

أما آثار الغضب على العمل الدعوي نفسه، فإن كثيرا من الناس لا يفرقون بين الدعوة والداعية، فيحمّلون الدعوة كل أخطاء الداعية ومثالبه، فإذا غضب الداعية أو صدر منه ما لا يليق حال غضبه، نسبوا ذلك إلى الدعوة التي ينتسب إليها، مما يؤدي لفقدان الأنصار والأتباع، وتشويه صورة الدعوة، واستغلال الأعداء والخصوم لغضب الداعية من أجل تنفير الناس منه، والنفوس تألف العاقل الحكيم المنضبط في تصرفاته وردود أفعاله، وتلتف حوله وتعضده، أما الطائش الأرعن سريع الغضب، فإن الناس تعرض عنه وتهجره، ولعل ما جرى مع الإمام ابن حزم الظاهري - رحمه الله - خير مثال، فقد كان بحرا زخارا في العلم والفقه والتأليف والتدريس حتى أنه يحتل المركز الثاني في ثبت أكثر علماء المسلمين تأليفا وتصنيفا بعد الإمام الطبري - رحمه الله -، ومع ذلك أعرض الناس في عصره عن هذه الدرر والكنوز بسبب عصبيته الزائدة وحدة لسانه التي صارت مضربا للأمثال، وقرنت بسيف الحجاج. ومن آثارها أيضا على الدعوة، أن آفة الغضب تؤدي لتمزيق الصف الدعوي، وتأجج نيران الاختلاف فيه، فالغضب للنفس يعني أن العمل لغير الله – تعالى -، وكل من خالطته مثل هذه النوايا فإنها تفشله وتذهب ريحه. ومن آثارها أيضا أنها تؤدي لطول الطريق وكثرة التكاليف، وذلك لمعالجة آثار الغضب على العمل، من بذل الطاقات لإصلاح فساد ذات البين، وكسب أنصار جدد، بدلا من هؤلاء الذين خسرتهم الدعوة بسبب الغضب.

 

سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘ (1) التصدر وطلب الرئاسة

سلسلة أمراض على طريق الدعوة (2) العجلة في الحكم وعدم التثبت

سلسلة أمراض على طريق الدعوة (3) اليأس والقنوط

سلسلة أمراض على طريق الدعوة (4) رد النصيحة ورفض النقد

سلسلة أمراض على طريق الدعوة (5) المراء والجدل

سلسلة أمراض على طريق الدعوة (6) سوء الظن

سلسلة أمراض على طريق الدعوة (7) التنطع والغلو

سلسلة أمراض على طريق الدعوة (8) إتباع الهوى

سلسلة أمراض على طريق الدعوة (9) العجب بالنفس

أمراض على طريق الدعوة (10) تنافس الدنيا

أمراض على طريق الدعوة (11) الفتـور

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات