تركة النبوة وميراث العالم منها

أ زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

أيها الإخوة: وإذا كان على الأمة الإسلامية جمعاء وعلى كل فرد فيها أن يغترف من هذا الميراث ما يعرف به ربه ويصحح به عبادته، وهذا هو العلم العيني حتى يقبل الله منه؛ فإن على علمائها واجبًا أكبر وقسطًا أعظم هو حفظ هذا الميراث كله وصونه...

 

حق للوارث أن يرث من التركة من كل شي تركه وخلفه مورثه لمن بعده؛ كان صغيرًا أم كبيرًا، ورسول الله -صلى الله علي وآله وسلم- هو صاحب التركة العلمية التشريعية الهائلة والميراث الأخلاقي والأدبي الضخم، وهو أعظم مخلِفٍ لتركة على وجه البشرية؛ حيث شملت تلك التركة الدين والدولة، العقيدة والشريعة، التوحيد والمعاملات، المنهج والفكر، الحقوق والواجبات؛ فوسعت كل مناحي الحياة الدينية والسياسية ومجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية... وغيرها؛ موروث عالَجَ كل متطلبات الحياة؛ لا أقول: البشرية فحسب، بل حياة العالمين علويه وسفليه، كائناته وجماداته.

 

وهذا الميراث هو الذي فهمه بحق وأدركه بصدق أبو هريرة –رضي الله عنه– فإنه يوم لما رأى بعض الناس قد اشتغلوا بالدنيا وانصرفوا إليها وقف في وسط السوق قائلاً: يا أهل السوق: إن ميراث رسول الله يقسم وأنتم هنا، ألا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه! فقالوا: وأين هو؟! قال: في المسجد. فأسرع الناس إلى المسجد ثم رجعوا إلى أبي هريرة فقال لهم: ما لكم رجعتم؟! قالوا: يا أبا هريرة: قد ذهبنا إلى المسجد، فدخلنا فيه فلم نر فيه شيئًا يقسم! فقال: وماذا رأيتم؟! قالوا: رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يذكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: فذاك ميراث محمد". الألباني صحيح الترغيب (83).

 

وعن هذا الموروث الشرعي المبارك أخبر - صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-؛ حيث قال: "إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا، وإنما ورّثوا العلمَ، فمن أخذهُ أخذَ بحظٍّ وافرٍ". الألباني صحيح الجامع (6297). وقوله: "أخذ بحظ وافر"؛ أي نصيبًا تامًا وافرًا.

 

وفي آية البقرة وجّه الله خطابه ودعوته خاصًّا بها عباده المؤمنين أن يدخلوا في هذا الميراث العظيم دين الله - عز وجل- كله ولا يأخذوا منه ما يتناغم مع أهوائهم أو يتناسب مع مصالحهم ويتركوا ما سوى ذلك؛ فهذه الصفة لا تليق إلا لصنفين اثنين: الكفار أو المنافقين الذين كانوا قد تحدث الله عن بعض صفاتهم في الآيات السابقة، وهذه الصفات لا تصلح أن تكون للمؤمنين، بعد أن ناداهم بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 208]؛ قال مجاهد: أي: ادخلوا في الأعمال كافة.

 

وحرف "في" يفيد الظرفية، والظرفية تعني أن شيئًا يحتوي آخر، والظرفية تدل على إحاطة الظرف بالمظروف.

 

وبالتالي على من دخل في هذا النداء الخاص والشريف عليه أن يدخل في كل هذا السلم الذي هو الإسلام، حتى يصبح جزءًا منه وداخلاً فيه.

 

يقول سيد في الوسيط: "يا أيها المؤمنون: ادخلوا في الإِسلام والتزموا بكل تعاليمه، ونفذوا جميع أحكامه وآدابه، واعملوا بكل أوامره ونواهيه... فالمقصود التزام جميع شرائع الإِسلام وأحكامه وآدابه". اهـ. الوسيط: 355.

 

ولقد ذم الله -عز وجل- بني إسرائيل من كانت هذه صفتهم -أعني أخذ بعض ما في الكتاب وكفران بعضه-؛ قال الله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة: 85]، وهذا توبيخ من الله لهم على تفريقهم بين أحكام الله -تعالى- وانتقائهم ما يناسب رغباتهم، وفيه تقريع لهم على ذلك.

 

كما عاب ربنا -تعالى- على علمائهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق والعهد أن لا يكتموا العلم وأن يبينوه للناس؛ قال الله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران: 187]؛ لكنهم -وللأسف- نسوا حظًّا مما ذكروا به.

 

ومن هنا نقول: إن من لم يدخل في هذا السلم في كل أحكامه وشرائعه ما يخص منه الدين والدنيا؛ فإما قد شابه أهل الكتاب في كفرهم كونه آمن ببعض ما في الكتاب وترك بعضه، أو شابه المنافقين في نفاقهم؛ حيث دخل السلم ظاهرًا ولم يدخله باطنًا.

 

أيها الإخوة: وإذا كان على الأمة الإسلامية جمعاء وعلى كل فرد فيها أن يغترف من هذا الميراث ما يعرف به ربه ويصحح به عبادته، وهذا هو العلم العيني حتى يقبل الله منه؛ فإن على علمائها واجبًا أكبر وقسطًا أعظم هو حفظ هذا الميراث كله وصونه من كل ما يشينه من الجافين أو الغالين، وكذلك حمله وتعليمه لمن بعدهم كما ورثوه دون زيادة أو نقصان؛ أصوله وفروعه، حقوق الخالق وحقوق المخلوقين، مصالح الدين والدنيا؛ وذلك لكون العلماء هم أصحاب الفروض في هذا الميراث.

 

إلا إنه مما يعاب على بعض علمائنا -رحم الله الميتين منهم وبارك فيمن كتب له بقية من حياة- غفلتهم عن جوانب شتى من حاجيات الأمة وحديث نوازلها وجديد شؤونها؛ رغم منافحتهم في أبواب كثيرة من الدين لا ننكرها؛ ونحن بهذا لا يعني أننا نجني على التخصصات أو نجهض على الاختصاصات؛ لا، بل نقول: ينبغي أن يكون للعالم في كل القضايا موقفا يذكر وكلاما يشكر، ولا تكن تخصصاته على حساب قضايا شرعية كبيرة أو نوازل إنسانية مفجعة، لا يقل الحديث عنها أهمية عن تلك التخصصات التي انشغلوا بها أو كرسوا جهودهم فيها.

 

إنا نريد عالمًا يعطي الأمة همه وفكره ويمنحها نفسه وماله ويهبها حياته وموته؛ ذلكم هو العالم الرباني والاقتباس النبوي، يقول ابن القيم متحدثًا عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام-؛ رسول الثقلين والمبعوث للعالمين: "وكان ينام أول الليل ويقوم آخره، وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين...". زاد المعاد. فأعطى الناس نهاره وما عزّ عليه أن يزيدهم ليله ويمنحهم سكونه وراحته.

 

خاطب الملوك وراسل الأمراء كما خاطب أعراب الناس وأجلافهم، زار كبار القوم ورؤساءهم كما زار صغارهم وضعفاءهم، تحدث إلى القادة والولاة كما تحدث إلى العجوز والطفل والجارية، خطط للغزوات وخاض حروبها تحت قيادته، وقاد الناس في حجهم وأمّهم في صلاتهم، يتفقد جيوشه وأبطاله في المعارك كما يتفقد معايش أصحابه ويسأل عن أحوالهم في لياليه، صلى صلاة الغائب على ملك الحبشة كما صلى على قبر من كانت تكنس المسجد وتقوم على شؤونه، اهتم بسياسة الدولة والشأن العام ونظم الأمور الأسرية والاجتماعية وغير ذلك كثير مما لا حصر له ولا وقوف على حده.

 

وهذه الصور الرائعة والعناية الفائقة والشمولية المتكاملة ورّثها لمن بعده، وممن أخذها منه بحظ وافر سيدنا عمر بعد توليه الخلافة؛ لقد كان ينعس وهو قاعد، فقيل له: يا أمير المؤمنين: ألا ترقد؟! ألا تنام؟! قال: إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله".

 

نعم نريد عالمًا ينافح عن أمته في عقيدتها ويذود عنها في مقدساتها؛ تلمس في دعوته دفاعًا عن حقوقها واستردادًا لأملاكها وحفظًا لكرامتها وصونًا لأعراضها ونذارة وغلظة على أعدائها، يزرع الثقة للأمة في موعودها ويبث الأمل في نفوسها ويعزز اليقين في صدورها وينفض عنها غبار وهنها وآثار ضعفها وجهلها؛ إنه عالم أمة لا عالم جماعة عالم ملة لا عالم  مذهب، إنه عالم أمة لا عالم بلد أو  قطر بكل ما تشتمله من مدلولات ومعاني هذه الكلمة.

 

عالِمٌ لا تكتنفه أسرة أو قبيلة، ولا تحتويه بلدة أو وطنية، ولا تحده خارطة دولة أو قارة، ولا تفرض عليه أسوار جماعة أو مذهب، ولا تحتكره تخصصات أو هوايات، يناطح السحاب ويتعدى المحيطات والبحار، يعيش لأمة الإسلام عربهم وعجمهم؛ بل وحتى الكافر لم يغفل عنه بدعوته للإسلام أو إخضاعه لسيادته أو محاربته.

 

عالم إلى الحكم بما أنزل الله يدعو، وإلى تطبيق الشريعة ينادي، وللحاكم والمحكوم يناصح، وعن الفقراء والمساكين يسأل، وعن المعتقلين والمأسورين يناشد، وعن المضطهدين والمنكوبين يصرخ، وعن المقدسات والحرمات يناضل، وعن العدو والمستعمر يحذر، وللفتن والنوازل يبصر، وإلى الحق يهدي وإلى الصواب يرشد وللسائل يجيب وللجاهل يعلم...  

 

لكن -للأسف- لو أمعنت البصر ودققت النظر لارتد إليك البصر منكسرًا وهو حسير أن قلة على الأصابع من علمائنا تكاد تصفهم بعلماء أمة وتنعتهم بورثة الأنبياء.

 

وعن مثل هذا الصنف ونظير هذا الطراز هو الذي بموته يموت العلم وبموته يحدُث خرق في جسد الأمة وقوتها، وهو من تنعاه الأمة وتحزن عليه، وتبكي عليه سماء زمانه وأرضه، كما أنه بموته يضل الناس؛ لأنه خلفه من هو دونه ممن ليس أهلاً لقيادة الأمة والسير بركابها نحو أمان الدنيا وسلامة الآخرة، وأما غيرهم فماذا قدموا للأمة؟! وما هو ورصيدهم عندها؟! وستعرفون ذلك عند جنائزهم.

 

إن أساس هذا المنهج ورائده وحامل لوائه هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحمة الله لأهل الأرض وغوثه؛ فكما أنه المستبشر فرحًا لذلك الغلام اليهودي الذي دعاه للإسلام: "الحمد لله الذي أنقذه بي من النار". أنس -رضي الله عنه-، فتح الباري شرح صحيح البخاري. هو نفسه الذي عطف على الحمّرة رحمة بها يوم فجعها من أخذ صغارها، كما في حديث عبد الله بن مسعود عن أبيه -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر ومررنا بشجرة فيها فرخا حمرة، فأخذناهما، قال: فجاءت الحمرة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي تصيح، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من فجع هذه بفرخيها؟!"، قال: فقلنا: نحن، قال: فردوهما". السلسلة الصحيحة (1/64).

 

جـاءت إليك حمامة مشتاقة *** تشكو إليك بقلب صب واجف

من أخبر الورقاء أن مقامكم *** حـرم وأنـك منزل للخـائف

 

وهو الذي أعطى للنمل حقها في العيش الآمن؛ حيث نهى عن حرق بيوتها وهدم منازلها ما دام لا ضرر منها؛ فلما رأى قريةَ نملٍ قد أحرقت قال: من حرقَ هذه؟! قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذِّبَ بالنارِ إلا ربُّ النارِ"(الألباني، صحيح أبي داود (5268).

 

وهذا الجمل يشكوه ويبكي بين يديه فينتصر له -عليه الصلاة والسلام- قائلاً لصاحبه: "ألا تتقى الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؛ فإنه شكاك إليّ وزعم أنك تجيعه وتدئبه". صحيح دلائل النبوة للوادعي (116)، صحيح على شرط مسلم.

 

هذا المنهج النبوي والهدي المحمدي صار محل اعتبار الكبار وورثه الأئمة الأخيار، وصاحب القدم السبق في هذا الخلفاء الأربعة؛ فهم شذرات عطرة، ونماذج نادرة، ونظراؤهم معدومة، وطرازهم فينا فريد، وتاريخهم فينا شهيد.

 

هذا النموذج تجلى في عمر -رضي الله عنه- حين اغتم لحال دابة في أرض العراق قائلاً: "لو أن بغلة عثرت في العراق لسألني الله تعالى عنها: لِمَ لم تمهد لها الطريق يا عمر". لم يفكر في رعيته من البشر فحسب؛ بل عاش حال دابة لو عثرت في طريق ليست ممهدة في عهده، وإذا كان قد شغله أمر دابته فكيف سيكون حاله مع رعيته!

 

وتحقق هذا النموذج في حياة عمر بن عبد العزيز وخلافته العطرة، وتمثله أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام في حياتهما الدعوية والعلمية الباهرة، -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين-، وهناك غرس قليل بين زمان وآخر يصطفيهم الله -تعالى- لهذه المهام الجسام والواجبات العظام؛ لكنهم قليل في الآخرين وهم كثير في الأولين.

 

وأما إذا كان الحال كزماننا؛ فالمسلمون تنزف دماؤهم، وتستباح أراضيهم، وتنتهك أعراضهم، يعيشون ظلم ساساتهم، ويكابدون جور حكامهم؛ وهذا العالم لم يعِر هذا الأمر حديثًا ولم يعطه جوابًا، فهذا لعمر الله قد حرم نفسه منقبة: "العلماء ورثة الأنبياء"، وما معه إلا ما مع غيره من عموم الأمة من ذلك الميراث النبوي الكريم؛ هذا إن لم يكن عند الله -تعالى- ممن كتموا العلم وما بلغوه، وكنزوه وما أنفقوه، أو تزلفوا بفعلهم هذا موافقة من فوقهم أو كسب رضاهم.

 

نعم؛ إذا كانت المسألة أن يتقوقع العالم في فن يرغبه، أو ينطوي حول تخصص يعشقه، مخلفًا الأمة في جراحها، وتاركًا المسلمين في نوازلهم، والمستضعفين في نكباتهم، لا يخصهم في خطبه ولا يذكرهم في حديثه ولا يعيشهم في كتاباته؛ فهذا قد جانب الحق وخالف الصواب.

 

إن على علمائنا واجبًا كبيرًا وحملاً ثقيلاً وسؤالاً حرجًا عند الله ينتظرهم على ما علّمهم الله إياه وخصهم به؛ هل قاموا به حق القيام فلم يكتموا منه أو يتواروا عنه؟.

 

علماؤنا هم ورثة الأنبياء وصفوة الأولياء وحملة العقيدة وأوتاد الشريعة وأنوار الخليقة، هم نجوم الأرض يوم كان للسماء نجوم، وهم ربان الأرض يوم كان للسفن ربان، وهم منارات الهدى ومشاعل النور بعد أن كان للدنيا نورها وضياؤها وللخليقة سعادتها وأمنها.

 

إن البريـة يوم مبعـث أحمـد *** نظـر الإله لها فبدّل حـالها

بل كرم الإنسان حين اختار من *** خير البريــة نجمها وهلالها

 

وفي حياته وبعد مماته -عليه الصلاة والسلام- أوكل للعلماء بالمسئولية عليهم ونقل الأمانة إليهم؛ فنسأل الله أن يجعلهم عند حسن ظن ربهم وعند حسن ظن نبيهم وعند حسن ظن أمتهم بهم، وأن يظهر بهم الدين ويقوي بهم المسلمين ويحمي بهم الملة ويصون بهم الشريعة.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات