التوازن في حياة الدعاة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

من آفات العقل البشري ؛ التركيز في التفكير على جانب واحد، أو النظرة الجزئية للحياة، لأن ذلك يفوت كثيرا من الخير على المرء، ويوقعه في آفات أخرى من عينة العجز والانحسار، كما يؤدي لتضخيم دور بعض الفروع والصغريات والجزئيات في حياته، وذلك على حساب كبريات الأمور، مما يصيب قدرة الإنسان على...

 

 

 

 

الداعية مطالب دائما ببذل أعلى مجهود من أجل خدمة دينه، ونفع إخوانه المسلمين، وإرجاع أمته إلى سالف مجدها وعزها، مطالب دوما بأن يكون قدوة حسنة لغيره، ومنارة هدى ومصباح ظلام للسائلين والحائرين، مطالب بالثبات وقت النوازل والملمات، واليقين وضع هجوم الشبهات، والتقى يوم انتشار الشهوات، مطالب أن ينزل في الأمة مقام نبيها صلى الله عليه وسلم في الهداية والإرشاد والتربية والتعليم، لكن الذي يجب أن يعرفه أي داعية أن الخطوة الأولى للقيام بكل هذه المهام الثقيلة هو إصلاح قلبه وتقوية إيمانه وتهذيب نفسه، وهذه الخطوة الهامة دونها كثير من العقبات والحواجز التي تجعل مسألة الوصول إليها، عمل لا ينتهي على الحقيقة، بل هو مستمر طوال عمر الداعية. 

 

وهذه العقبات منها ما هو داخلي من الداعية نفسه، ومنها ما هو خارجي محيط بالداعية، وأعظم هذه العقبات ما كان حسيا معنويا، وهو ما يصادم الداعية من داخله، حيث نفسه الأمارة بالسوء ـ إلا من رحم الله والتي لها كثير من المطالب والإرادات المهلكة والنوازع المرهقة والآفات القاتلة، فإن سلم الداعية من آفاته البشرية مثل الكبر والعجب والرياء والحسد والكسل إلى آخر هذه الأمراض، لم يسلم من نوازع نفسه التي تطالبه بالكثير من الأمور المتعارضة من دنيا ودين، والتي لا يستطيع على الحقيقة أن يجمع بينها بشري إلا النوادر من الرجال والكملة من الدعاة ممن هداه الله واصطفاه.

 

فالنفس البشرية عامة والدعوية خاصة تطالب صاحبها بالكمال في كل شيء، تطالبه أن يكون قوي الإيمان، ثابت الجنان، راسخ اليقين، عميق العبادة، صادق الزهد، كامل الورع، عظيم التقى، معطاء لدينه ودعوته، مجاهدا في سبيل الله، لا يخشى في الله لومة لائم، تطالبه أن يكون عالما متبحرا، وخطيبا مفوها، وإماما متبوعا، وفي نفس الوقت تطالبه أن يكون ثريا من مال حلال صالح، منعما بأسباب النعيم المختلفة، مباركا له في ولده وأهله، مطمئنا على نفسه، معافى في بدنه، آمنا في سربه، بعيدا عن المشاكل والخلافات وأسباب الفتن والشقاء.

 

وحتى ينجح الداعية في دعوته ويستمر على طريقها، لا بد له من أن يحقق منظومة متوازنة بين متطلبات نفسه ومتطلبات دعوته، فالتوازن في حياة الداعية من أعظم الأمور المعينة له في دعوته وطريقه، وبدونه يفقد الداعية بوصلته ودليله في دنيا مليئة بالفتن والابتلاءات والمغريات، ويتوه ويتحير بين نفس راغبة في كثير من المتناقضات، ودعوة طريقها مليء بالتضحيات. فكيف يحقق الداعية التوازن في حياته، حتى لا يتأتي عليه اليوم الذي يتحول فيه إلى داعية سابق أو داعية متقاعد ؟

 

لا بد للداعية من ضوابط وأسس هامة من أجل ضبط قضية التوازن المصيرية في حياته، من أهم هذه الأسس:

 

أولا: الاستعداد المبكر

 

فاهتمام المرء بنفسه في سن مبكرة يعطيه فرصة للتفكير في كيفية إدارة حياته بالطريقة التي تصل به إلي أهدافه، فمن غير المرجح أن يصحو الإنسان فجأة وهو في سن الأربعين أو ما بعدها يجد نفسه يريد أن يحقق كل هذه المهام والأهداف العظيمة، وإن ذلك ليس ببعيد على الله عز وجل القادر على كل شيء، ولكن البدايات المبكرة دائما تكون عونا على النهايات المشرقة، والناظر لحال أئمتنا الكبار نجد أن جلّهم قد بدأ حياته العلمية والعملية في سن مبكرة، فالبخاري طلب العلم في العاشرة، ونوى جمع كتابه الشهير " الصحيح " وهو في سن السادسة عشر، والإمام الشافعي أُذن له في الإفتاء وهو دون العشرين، وسفيان بن عيينة يتصدر للحديث وهو في الخامسة عشر، والنووي نشأ في ستر وخير يقرأ القرآن ويطلب العلم وهو في السابعة، ويحضر اثني عشر درسا في اليوم والليلة في شتى العلوم، ويؤلف ويصنف الكتب الكبار، و يرحل عن دنيانا وهو في السادسة والأربعين، والطبري يخرج لرحلة علمية وهو في الخامسة عشر فلا يعود لأهله إلا بعد ثلاثين سنة، وابن الجوزي يحكي عن نفسه رحلته في طلب العلم منذ أن كان في السادسة حتى السادسة والثمانين، وغير هؤلاء كثير والمقام لا يتسع لذكر كل هؤلاء الأفذاذ الأعلام.

فحال من طلب الجمع بين فضائل كثيرة وأحوال متباينة، أن يبدأ في تحصيلها مبكرا، حتى يتسنى له الإنجاز فيها، وتعديل مسارها إن رأي نفسه لا تطوعه في إحداها، وهذا بالطبع لا يعني أن من بدأ كبيرا قد فاته القطار، ولكنه يصعب عليه الجمع على الأغلب ويبقى همه بين هدف أو هدفين هما في غالب الأحوال من أهداف الدنيا فقط أو الآخرة فقط.

 

ثانيا: البيئة المواتية

 

فلا بد من توافر البيئة التي تساعد الشخص على النجابة والتقدم وتحقيق أهدافه وتلبية طموحاته، هذه البيئة لا بد لها من شروط تتوافر فيها حتى تكون صالحة لإنبات العظماء والأفذاذ، ومن هذه الشروط: الطمأنينة والأمن، تواجد المرء في بيئة آمنة مطمئنة هادئة لا نزاع فيها يساعده كثيرا على إبراز مواهبه وإمكاناته، وتحقيق الاستقرار والتوازن في حياته، وقد امتن الله عز وجل على أهل مكة فقال في محكم التنزيل ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) [ العنكبوت: 67] وقال ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) [ قريش: 3ـ 4 ]

 

أيضا لابد للبيئة أن تكون قدر الإمكان خالية من الأكدار والهموم، لإيجاد مناخ نفسي ملائم لطالب المعالي، بحيث تكون نفسه خالية عن الشواغل، ومن عايش بيئة مليئة بالهموم والأكدار لم يتسن له النبوغ والإنجاز ولو كان أهلا لذلك، من ابتلي بزوجة نكدة كثيرة المطالب عسرة الخلق، ومن ابتلي بأسرة كثيرة الأولاد، في بلد فقير ضعيف الإمكانات، ومن كان في كفالته والد ووالدة وإخوة وأخوات، كان لزاما عليه أن يكدح من أجلهم لم يستطع أن يحقق ما يحلم به من أهداف وطموحات.

 

أيضا لابد من توافر البيئة المعرفية التي ينتشر فيها العلم وضروب الثقافة، فبيئة الجهل والتخلف تقتل الإبداع وتوئد الموهبة، فقلة العلم والثقافة، تؤدي لرتابة العمل، والانزواء في الأفكار، لذلك لو نظرت لسجل علماء الأمة لوجدت أن غالبيتهم كانوا يعيشون في المراكز العلمية الكبرى مثل بغداد ودمشق وخراسان والري ونيسابور ومكة والمدينة ومصر وغيرهم.

 

ثالثا: الحفاظ على الوقت

 

فالوقت هو رأس مال الداعية، ووقته هو عمره وما قدم فيه، وهو يتحرك بين شواغل الدنيا والآخرة بالصورة التي تحقق له أهدافه وطموحاته بينهما ،ذلك كان على الداعية معرفة القواعد المفصّلة للحفاظ على الوقت وكيفية إدارته بنجاح، والاطلاع على تجارب السابقين من البارزين والنجباء وكيف حققوا إنجازاتهم الكبرى في أعمارهم القصيرة مثل النووي والسيوطي وابن القيم وغيرهم، ومن الأمور المعينة على حسن إدارة الوقت ؛ منظومة الأولويات التي تقسم الوقت من حيث أهمية العمل ودرجة الاستعجال في أدائه كما يلي:

1 ـ هام وعاجل، لابد من البدء به فورا دون تأخير
2 ـ هام وغير عاجل، يؤجل لوقته
3 ـ غير هام وعاجل، يوكل من ينوب عنه في أدائه
4 ـ غير هام وغير عاجل، لا يأبه له حاليا

 

رابعا: ذاتية الداعية

 

كل الضوابط المذكورة مهمة في تحقيق الداعية للتوازن في حياته، ولكنها لا تصلح للتطبيق إذا لم يتوافر عند الداعية الخصال الشخصية والملكات الذاتية التي تؤهله لذلك، بحيث يكون مكتمل النضج العقلي والنفسي، وشخصيته مبنية على دعائم قوية وسليمة، من إرادة قوية نحو تحقيق إنجاز في حياته، وعزيمة ثابتة تمكنه من حسن التكيف، والتفاعل والاستجابة، واتخاذ المواقف والاتجاهات الصحيحة حيال كل المشاكل والعراقيل، فلا تنهار شخصيته أمام أبسط العقبات والمصاعب، فكل خلل يلحق بالشخصية غير المستعدة لمواجهة الصعاب، يسبب لها الاضطراب والاهتزاز، وعدم الاستقرار والثبات، ويجعلها شخصية هروبية سلبية تفر من مواجهة الصعاب، أو شخصية عنيفة عدائية تبادر بالسوء من القول والفعل عند أدنى مشكلة.

 

وإن من لوازم الثبات على الدعوة أن يكون الداعية متوازنا في أموره كلها، معتدلا في شئونه الخاصة والعامة، فلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط، ولا مبالغة ولا تهاون، شعارها في الحياة قوله صلى الله عليه وسلم " أعط كل ذي حق حقه "

 

خامسا: النظرة الشاملة للحياة

 

من آفات العقل البشري ؛ التركيز في التفكير على جانب واحد، أو النظرة الجزئية للحياة، لأن ذلك يفوت كثيرا من الخير على المرء، ويوقعه في آفات أخرى من عينة العجز والانحسار، كما يؤدي لتضخيم دور بعض الفروع والصغريات والجزئيات في حياته، وذلك على حساب كبريات الأمور، مما يصيب قدرة الإنسان على العطاء بالعطب، ويحجم إبداعه، ويجعله فريسة سهلة للتقليد، ومن طريف ما يروى في ذلك أن راميا ماهرا أراد أن يستعرض مهاراته أمام الخليفة المهدي العباسي، فأحضر مائة إبرة، ورمى بها الواحدة تلو الأخرى، حتى أدخل المائة إبرة في بعضها البعض، في مهارة أسطورية على دقة الرماية والتصويب، فأمر الخليفة المهدي بضربه مائة جلدة، وإعطائه مائة دينار، فتعجب الناس من ذلك، فقال المهدي: مائة دينار على مهارته في الرماية، ومائة جلدة على إضاعته هذه المهارة العظيمة في لعب ولهو.

 

سادسا: الواقعية

 

فيجب على الداعية أن لا يخلط بين الأمنيات والإمكانات، فالأماني سلم للوصول إلى المطلوب، ولكن بقدر وحساب، فلا يغرق في بحر الأوهام والأماني، ويضع لنفسه أهدافا يعلم يقينا أنه لن يحققها أو يصل إليها، فيقضي حياته كلها يلهث وراء سراب، وهذا لا يتنافى مع أن يكون المرء طموحا تواقا للمعالي، فأحلام الأمس هي حقائق اليوم، والتفاؤل والأمل وقود محركات المستقبل، فالداعية وهو يتطلع إلى السماء لا ينسى أنه واقف على الأرض، فلا يجري وراء الخيالات والأوهام، فيكون كمن يطير بلا جناحين، ويسبح في غير ماء، ويبني قصورا من رمال.

 

سابعا: ترتيب الأولويات

 

أهمية هذه النقطة تكمن في قدرة الداعية وقتها على تصنيف رغباته وأهدافه وكذلك مشكلاته، بالطريقة التي تضمن حماية من التشتت ونجاة من الإحباط، فالدعاة بأرض الرباط والجهاد مثلا، عليهم واجبات وله أهداف تختلف كثيرا عن واجبات وأهداف الدعاة في الأرض الأجنبية التي تحتاج إلى الحكمة والموعظة الحسنة، فترتيب الأولويات يجعله يعرف من أين يبدأ، وعلى ماذا يركز، وما لا يسعه التجاوز عنه، وما يمكنه تأجيله أو الاستغناء عنه بالكلية، كل هذه الأمور لا يضبطها سوى فقه ترتيب الأولويات.

 

ثامنا: قلة المخالطات

 

وهذا سر أسرار استقامة الدعاة، وأعظم ضابط لتحقيق التوازن في حياتهم ودعوتهم، ولا يطيقه إلا القلائل، ولا يطبقه إلا أولو العزائم، فكثرة مخالطة الناس تورث الداعية فقد الإحساس، قال الحميدي شيخ الإمام البخاري:

لقاء الناس ليس يفيد شيئا **** سوى الهذيان من قيل وقال

فأقلل من لقاء الناس إلا **** لأخذ العلم أو إصلاح حال

وكثرة مخالطة الناس تورث الجفاء وقسوة القلب وضياع الأوقات النفيسة، وكما قال أبو إسحاق الحربي رحمه الله " ليس كل غيبة جفوة، ولا كل لقاء مودة، وإنما هو تقارب القلوب "، وبعض الدعاة من كثرة مخالطة الناس وسماع مشاكلهم تصيبه الهموم والأحزان وربما الأسقام والأمراض، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذوب كمدا من إعراض قومه عن سماع الحق، فواسه ربه جل في علاه فقال له ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) [ فاطر 8 ]، وربما يفقد شعوره بوقع هذه الأزمات من كثرة سماعهم، وكلها أمور تقدح بالتوازن في حياة الدعاة.

 

وفي النهاية يحسن بنا ذكر صورة من حياة بعض سلفنا الصالح الذين ضربوا لنا نموذجا راقيا، هو الإمام بقي بن مخلد رحمه الله، الذي يذكر حفيده من سيرته ما جاء فيه: " كان جدي قد قسّم أيامه على أعمال البر: فكان إذا صلى الصبح قرأ حزبه من القرآن في المصحف، سدس القرآن، وكان أيضا يختم القرآن في الصلاة في كل يوم وليلة، ويخرج كل ليلة في الثلث الأخير إلى مسجده، فيختم قرب انصداع الفجر، وكان يصلي بعد حزبه من المصحف صلاة طويلة جدا، ثم ينقلب إلى داره وقد اجتمع في مسجده الطلبة، فيجدد الوضوء ويخرج إليه، فإذا انقضت الدول ـ وهي أوقات الطلبة التي يتداولون العلم فيها ـ، صار إلى صومعة المسجد، فيصلى إلى الظهر، ثم يكون هو المبتدئ بالآذان، ثم يهبط، ثم يُسمع إلى العصر، ويصلي ويُسمع، وربما خرج في بقية النهار، فيقعد بين القبور يبكي ويعتبر، فإذا غربت الشمس أتى مسجده، ثم يصلي، ويرجع إلى بيته فيفطر، وكان يسرد الصوم إلى الجمعة، ويخرج إلى المسجد، فيخرج إلى جيرانه، فيتكلم معهم في دينهم ودنياهم، ثم يصلي العشاء، ويدخل بيته، فيحدّث أهله، ثم ينوم نومة قد أخذتها نفسه، ثم يقوم، وهذا دأبه إلى أن توفى، وكان جلدا قويا على المشي، قد مشي مع ضعيف في مظلمة إلى إشبيلية، ومشى مع آخر إلى آلبيرة، ومع امرأة ضعيفة إلى جيّان ـ ثلاث مدن من مدن الأندلس ـ، وقد غزا في حياته اثنتين وسبعين غزوة في سبيل الله " انتهى كلام الحفيد عن الجد العظيم، وأصدق وصف في هذا الإمام الألمعي ونظرائه قول الشاعر

وليس على الله بمستغرب ***** أن يجمع العالم في واحد
 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات