الدعاة وفوضي الوقت

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

من أكبر آفات العصر العشوائية وغياب التخطيط السليم ، وما فشلت كل محاولات النهوض والترقي إلا بسبب غياب التخطيط الصحيح ، فساعة تخطيط تساوي يوم عمل ، وللأسف الشديد العشوائية ضاربة بجذورها في حياتنا العامة ، فغياب التخطيط يورث الإهمال والكسل والانقطاع ثم الفشل ، وهذه العشوائية تؤدي...

 

 

 

هل أنا فوضوي ؟

 

سؤال لا بد أن يسأله كل واحد منا لنفسه ، بعد أن تكاثرت وتوترات الشكوى من ضياع الأوقات وقلة الإنجازات ، حتى أصبحت الفوضى شعار وأسلوب كثير منهم ، بحيث لم يسلم حتى منها الدعاة إلى الله عز وجل ، والذين يفترض أنهم أحرص الناس على وقت ، لكثرة الأعباء والتكاليف الملقاة على عاتقهم . لذلك كان من الضروري الوقوف على هذا الأمر الخطير ، ووضع خارطة طريق من أجل الوصول لأفضل سبيل للاستفادة من أوقاتنا التي هي رأس مالنا الحقيقي .

 

الفوضى في اللغة تطلق على معنيين كلاهما مرتبط بالآخر :

الأول : التساوي في الرتبة والدرجة ، يقال : قوم فوضى : أي متساوون لا رئيس لهم

الثاني : اختلاط الأمور بعضها ببعض ، يقال : خيل فوضى أي مختلط بعضه ببعض ، ويقال: أموالهم فوضى : أي شركاء فيها . ولا تعارض بين المعنيين ، لأن الثاني نتيجة طبيعية للأول ، فلو تساوى الجميع في الرتبة ، حدث التداخل والاختلاط لانعدام الرأس .

أما في الاصطلاح ففوضى الوقت تعني خلط الأمور بعضها ببعض ، والمساواة بينها في الأهمية والأولوية ، وعدم التوفيق والتنسيق بين الالتزامات والأوقات ، وهذه الفوضى لها الكثير من المظاهر أبرزها الاشتعال بالثانويات وترك الأساسيات ، والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة والهامشية على حساب الأصول واللباب ، ومنها إعطاء الأعمال البسيطة وقتا زائدا عما تستحقه ، ومنها الانغماس في المباحات والجلوس لساعات طوال دون عمل حقيقي ، ومنها الإكثار من السهر والسمر ، ومنها الاشتغال بأكثر من عمل في وقت واحد بحيث لا يعطي كل واحد منه حقه الواجب له .

 

وموقف الإسلام من الفوضى عموما وفوضى الوقت خصوصا يتصف بالشدة والصرامة لحساسة القضية وأهميتها الكبرى في حياة كل إنسان ، فالإنسان لم يخلق عبثا ، أو للهو واللعب ، بل خلق لغاية عظيمة ، ووقته هو قضيته الأساسية وحياته الفعلية ، فتضييع الأوقات محرم في الإسلام ، وقد كثرت الآيات وتوترات الأحاديث التي تتكلم عن أهمية الحفاظ على الأوقات والأعمار ، بصورة تفصيلية تكشف عن الاهتمام الكبير بهذه القضية في نصوص الوحيين ، فالقرآن الكريم مثلا يبين لنا في آيات كثيرة طبيعة هذا الوقت وأنه يمضي سريعا بحيث يعتبره الناس يوم القيامة ، يوما أو بعض يوم أو ساعة من نهار ، قال تعالى ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسأل العادين ) [ المؤمنون 112 ، 113 ] كما يبين لنا القرآن في عدة مواضع حسرة وندامة المفرطين والفوضويين ورغبتهم الأكيدة في الرجوع إلى الدنيا واستدراك ما ضاع من أوقاتهم وأعمارهم في البطالة والعطالة وسوء العمل ، فقال تعالى ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربي ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت ) [ المؤمنون 99 ، 100] ، وقال ( وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ) [ المنافقون 10 ] وقوله ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل * أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير.. ) [فاطر 37، 38 ]

 

وفي أحاديث سيد المرسلين وإمام العاملين بيان شافي لأهمية الوقت وخطورة تضييعه بلا فائدة ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " وقال " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل : عن عمره فيما أفناه ، وعن علمه ، وعن ماله من أين اكتسبه فيما أنفقه ، وعن جسمه فيما أبلاه " وقال " اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك " وقال " بادروا بالأعمال الصالحة .. " .

 

وخطورة فوضى الوقت أن تترك آثارا شديدة الضرر على البشر عامة والدعوة والداعية خاصة ومن أبرزها هذه الآثار الضارة :

1 ـ تضييع العمر بلا فائدة أو إضافة تذكر ، فالفوضوي تمر عليه الساعات الطوال وهو لا يفعل شيئا أو يشتغل بالتوافه التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، وما صراخ وعويل أهل النار يوم القيامة إلا من هذه الفوضوية والتسويف ويروى أن رجلا صالحا دخل قرية فمر بقبورها ، فوجد مكتوب على شواهدها " فلان ابن فلان مات وله خمس شهور " ، وآخر مات وله سنة ، وثالث وهو ابن شهرين ، وهكذا فلم يجد على الشواهد إلا بعضة شهور أو سنتين على الأكثر ، فلما دخل القرية وجد فيها الكبير والصغير ، فسأل عن سر الكتابة على الشواهد ، فأجابوه : إننا لا نكتب على قبورنا إلا أعمارنا الحقيقية التي قضيناها في عمل نافع ، دون ذلك لا نحتسبه من أعمارنا "

 

2 ـ القلق والاضطراب النفسي ، ذلك أن والوقت يمضي والعمر يتقدم والفوضوي محلك سر ، أسير أوهامه ، وحبيس كسله وعشوائيته ، فبالتالي يأكله الفراغ ، ويعبث بقلبه ونفسه الشيطان ، وربما وقع بسبب فراغه وبطالته في المعاصي أو انغمس في المباحات والشهوات ، لذلك قال الحبيب " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس النعمة والفراغ " وقال بعض الحكماء " من الفراغ تكون الصبوة " ، وكل هذه الأمور تصب في القلب والنفس مباشرة ، مما ينتج قلقا وتوترا نلاحظه غالبا في الأوساط الثرية وبين الأغنياء الذين يجدون من وسائل الرفاهية والحياة الناعمة ما يستغنون به عن العمل ، وبالتالي يكون لديهم أوقات فراغ كثيرة ، فالإحصائيات والدراسات أثبتت أن أعلى نسبة بالإصابة بالأمراض النفسية والتوتر العصبي والانتحار أيضا ، في أوساط الأثرياء والأغنياء ، وفي الدول المتقدمة المعرفة بثرائها وارتفاع مستوى المعيشة فيها .

 

3 ـ افتراق الصفوف وتشرذمها ؛ فالفوضوية في الوقت تجعل الفوضوي يقصر في حق الآخرين ، ويقصر في تكاليفه والتزاماته وأعبائه الدعوية والاجتماعية ، مما يفتح باب الملامة له على مصراعيه ، فتجده كل يوم يسمع ملامة أو تقريعا أو تأنيبا من هنا وهناك ، وهو ما قد ينتهي بتوالد الشحناء والبغضاء بين الصفوف ، وإعراض الناس عنه ، وترك الاعتماد عليه في تنفيذ المهام والأعمال ، ومن حيث لا يدري يجد الفوضوي نفسه منبوذا من الجميع ؛ دعويا واجتماعيا .

 

4 ـ إهدار الجهود والطاقات ، فالعمل الذي يحتاج إلى ساعة لتنفيذه ، مع الفوضوي يحتاج إلى يوم كامل ، وبالتالي تهدر الطاقات الكبيرة وتبذل الجهود الضخمة من أجل تنفيذ أعمال صغيرة ، كان يمكن أداؤها بيسر وسلاسة إذا توافر التخطيط وغابت الفوضوية ، والبعض قد يشتكي من طول الطريق وصعوبة التنفيذ وقلة الإنتاج ، ولو نظرنا للأمر بموضوعية وشفافية لوضعنا أيدينا على موضع الخلل الحقيقي .

 

ومن أهم الأسباب التي تؤدي فوضى الوقت ، وتجعل حياة الإنسان تذهب هدرا :

 

أولا : البيئة الفاشلة

ونعني بها البيئة المحيطة بالداعية والتي ينشأ فيها ويتأثر بها ، والإطار المؤثر في سلوكياته وأفكاره وقراراته ، ومنها الأسرة والصحبة والقدوة ، فقد ينشأ المرء في بيئة ووسط وأسرة لا تراعي للوقت أهمية ، ولا تعطي له أدنى رعاية أو اهتمام ، وبالتالي لا يتعلم المرء كيف يوظف وقته من صغره ، فينشأ فوضويا بالتطبع في كل مناحي الحياة ، وقد يكون أيضا للمرء صحبة فاشلة سيئة تتخصص في تضييع أوقاتها وإفناء أعمارها ، دأبها وديدنها تضييع الأوقات والحياة الفوضوية ، كما هو معروف بالأخص في أوساط الشباب ، فثمة مجموعات متخصصة في اللاشيء والإنتاج الصفري ، ومن العوامل التي ولدت الفشل لدى المرء أن يكون القدوات أنفسها وذوي الأسوة منهم يضيعون أوقاتهم في مسامرات وسهرات ومناظرات فارغة وقضايا تافهة ومناقشات جانبية لا تسمن ولا تغني من جوع .

 

ثانيا : عدم تقدير قيمة الوقت

فقد ينشأ الإنسان وهو لا يدرك قيمة الوقت وأهمية العمر ومكانة الزمان ، فرأس مال كل واحد منا هو عمره ووقته ومدة بقائه في هذه الدنيا ، وهذا التقدير الخاطئ قد ينشأ بسبب الاغترار بالنعمة والركون إليها مع أمن مكر الله ، فالمرء قد يغتر بصحته وعافيته وسلامته من الأمراض ، فيظن أن الموت لا يأتيه بغتة ، ويركن إلى هذه النعم وينسى سرعة تحولها وحتمية زوالها ، وعندها يفقد إحساسه بالوقت ، وينساب عمره من بين يديه دون تحقيق أي إنجاز حقيقي .

 

ثالثا : الاستبداد والاعتداد بالنفس

ونعني به الاستبداد في اتخاذ القرارات وتحديد الخطوات دون اللجوء إلى المشورة وتداول الآراء واستطلاع الأقوال ، فقد ينطلق الداعية في العمل من تلقاء نفسه حسبما تسنح له الفرصة ، دون الرجوع إلى أصحاب الخبرة والسداد والتجربة الطويلة ، وعندها تكون العاقبة فوضى الأوقات بتضييعها في ثانويات وخلافيات وحشويات ، وهذا الأمر مشاهد بكثرة في صفوف حديثي العهد بالدعوة والعلم ، فنرى مثلا بعضهم يبدأ في قراءة أمهات الكبار وكبار المصادر والمراجع ، قبل أن يستشير في مدى احتياجه إليها أو مدى توافر أدوات الولوج في هذه الكتب الكبار لديه ، وعندها يقطع وقتا طويلا في قراءة هذه الكتب ، فيصل إلى إحدى نتيجتين : أما أن ينقطع ولا يمكنه متابعة القراءة ، وأما أن يكمله وينتهي منه ولكن بلا فهم أو استفادة ، لذلك قال أهل العلم قديما " لا تأخذ العلم من صحفي" أي الذي يقرأ صحف الكتب وحده دون معلم أو أستاذ .

 

رابعا : شؤم المعصية

فقد يقع الإنسان في المعصية ، ولا أحد معصوم منها إلا من عصمه الله عز وجل ، والأخطر من الوقوع في المعصية ، فقدان الإحساس بهذه المعصية ، ومن هنا تمكن خطورة الصغائر التي لا يشعر بوخزها إلا من أكرمه الله تعالى بقلب حي وحس مرهف ، فإن الصغائر لا يبأه لها كثير من الناس ، ولهذا هلك الكثيرون في هذا الواد ، فالصغائر يجتمعن على المرء حتى يهلكنه ، ويستلبن منه بركة عمره وحقيقة حياته ، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الفريد " الجواب الكافي " كلاما نفيسا في هذا معني الإنساء والمحق بالنسبة لأعمار البشر فقال : " وقد اختلف الناس في هذا الموضع ، فقالت طائفة: نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة عمره ومحقها عليه ، وهذا حق ، وهو بعض تأثير المعاصي ، قالت طائفة : بل تنقصه حقيقة ، كما تنقص الرزق ، فجعل الله عز وجل للبركة في الرزق أسبابا كثيرة تكثره ، وتزيده ، وللبركة في العمر أسبابا تكثره وتزيده ، وقالت طائفة أخرى : تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحية هي حياة القلب ، لهذا جعل الله سبحانه الكافر ميتا غير حي فقال عز وجل ( أموات غير أحياء ) [ النحل 21] ، فالحياة الحقيقية هي حياة القلب ، وعمر الإنسان مدة حياته ، فليس عمره إلا أوقات حياته بالله ، فتلك ساعات عمره " انتهي كلامه رحمه الله .

 

خامسا : العشوائية

من أكبر آفات العصر العشوائية وغياب التخطيط السليم ، وما فشلت كل محاولات النهوض والترقي إلا بسبب غياب التخطيط الصحيح ، فساعة تخطيط تساوي يوم عمل ، وللأسف الشديد العشوائية ضاربة بجذورها في حياتنا العامة ، فغياب التخطيط يورث الإهمال والكسل والانقطاع ثم الفشل ، وهذه العشوائية تؤدي دائما لإضاعة الأوقات وإفناء الأعمار ، وهدر الطاقات وضياع القدرات .

 

وعلاج هذه الفوضوية يبدأ بالمعرفة الصحيحة ؛ المعرفة لقيمة الوقت ومنزلة الزمان ، وحقيقة العمر ، وطبيعة الحياة المثمرة ، يبدأ بأن يعرف كل امرئ أن وقته هو رأس ماله الحقيقي ، فخسارة الوقت هي خسارة العمر ، وخسارة العمر هي البوار بعينه ، العلاج يكون بمعرفة ضخامة المسئولية غدا ، وأن السؤال عن الوقت سؤال مزدوج ، عن العمر عامة وعن الشباب خاصة ، العلاج يكون بالنظر إلى سير السلف رحمهم الله عز وجل الذين أنجزوا في حياتهم القصيرة إنجازات بمعيار زماننا الحالي إنجازات ضخمة وعظيمة ، فابن عباس رضي الله عنهما كان يجلس للعلم من بعد صلاة الفجر ، فيخرج غلامه والناس وقوف ببابه ، فيقول : أين من يسأل عن الفقه ، فيدخل الناس حتى يملئوا الدار ، فيجيبهم جميعا ، ثم يخرجون وينادي غلامه: أين من يسأل عن اللغة ، فيتكرر مثلما حدث في الأولى ، ثم التأويل ثم الشعر ثم الحديث حتى تغرب الشمس ، ويذهب الناس ، فابن جرير الطبري رحمه الله مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة ، والسراج الشافعي مجدد المائة الرابعة في الفقه كان لا يأكل إلا الفتيت تضعه الجارية في فمه وهو يقرأ ويطالع ، ولما عوتب في ذلك قال الفرق بين أن آكله صحيحا وهكذا قدر ما أقرأ خمسين آية ، وابن الجوزي طالع عشرين ألف مجلد ، وعبد الرحمن بن تيمية ينقل عن أبيه عن جده فيقول : كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي : اقرأ في هذا الكتاب ، وارفع صوتك حتى أسمع ، والنووي رحمه الله كان يحضر في اليوم اثني عشر درسا في شتى الفنون ، وألف المجموع وشرح صحيح مسلم وغيرهما من الكتب الكبار ، ومات وهو في الخامسة والأربعين من عمره ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ألف عشرات المؤلفات النافعة العظيمة مما يحمل على ظهور الإبل ، وغير ذلك كثير من الأمور التي تعلي من الهمم وتقوي العزائم .

 

ومنها التضرع إلى الله عز وجل واللجوء إليه طلبا في إنزال البركة في العمر والوقت ، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم " اللهم بارك لأمتي في بكورها " ، ومنها الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة وإيثار القناعة ، ومنها التخلص من الوسط والبيئة السلبية التي تؤثر في مسيرة نجاح الإنسان ، بالتخلص من الصحبة السيئة والبحث عن الصحبة الصالحة ، والتعاون مع الأسرة في توظيف الوقت واستثماره في النافع والمفيد ، الحرص على المشورة وعدم الانفراد بالرأي ، وأن يقف المرء على قدر نفسه ، مدركا لجهده وطاقته ، فلا يدخل فيما لا يطيقه أو يحسنه ، ورأس الأمر كله وملاك العلاج هو الاحتراز من المعاصي والإكثار في الطاعات ، فهو طوق النجاة لكل الأزمات التي تعترض وتقابل الدعاة .
 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات