نظرة الإسلام إلى سكان العالم (1-2)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

الإسلام هو الدين المنزل من عند الله -تبارك وتعالى- إلى الناس كافة، وأن شريعته السمحة هي الشريعة الحقة التي فيها صلاح كل زمان ومكان ، لذلك فإن نظرة الإسلام إلى جميع سكان الأرض بلا استثناء نظرة رحمة وشفقة ورعاية عادلة، سواء أكانوا مسلمين أم كافرين، وعليه فإن الإسلام ينظم العلاقات بين جميع الناس، على أسس وطيدة من التسامح والعدالة، وهي أسس لم تعرفها البشرية من قبل.

لقد راعى الإسلام اختلاف الناس من جهة العقيدة والدار التي يقيمون فيها، بحيث ألحق بكل فريق ما يناسبه من الأحكام الشرعية الضامنة لحقوقه والحافظة لمسئولياته وواجباته، بحيث تستمر العلاقات الإنسانية في العالم بالصورة التي تتماشى مع قواعد العدل والتسامح والرحمة، وبما يحقق لحركة الدعوة الإسلامية استمرارية ونجاحاً، وأيضا بما يضمن أن يسود السلام العالمي الحقيقي لا سلام الغرب الزائف، والأمن المجتمعي الشامل، لا أمن النخب وكراسي الحكم، كل ربوع الدنيا.

وفي ضوء تلك القواعد العامة، فسكان العالم مقسمون إلى قسمين:

الأول: المسلمون.

 

الثاني: غير المسلمين.

 

أولاً: المسلمون:

والمقصد بهم كل من آمن بالدين الإسلامي عقيدة وعبادة ونظام حياة، بغض  النظر عن شيء من الانحراف والانتماء وضعف التمسك، عدا المرتدين والفرق الضالة الباطلة الخارجة عن الإسلام بإجماع العلماء مثل القاديانية والبهائية والنصيرية والدروز والرافضة على قول الكثير من أهل العلم. قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران: 19]، وقال: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) [ الحج: 78]، وفي البخاري من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته"، وفي رواية أخرى "من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم". قال ابن حجر: "وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله، ما لم يظهر خلاف".

 

ثانيا: غير المسلمين:

وينقسمون إلى خمسة أقسام:

1-الذميون.

 

2-المستأمنون.

 

3-الموادعون.

 

4-المحايدون.

 

5-الحربيون.

 

أولاً: الذميون:

1-التعريف بهم:

الذمي مشتق من الذِمة ومعناها العهد، ورجل ذمي: رجل له عهد. قال تعالى: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) [التوبة:10] قال المفسرون: الذمة: العهد، والإل: الحلف. وللذمة معان أخرى كثيرة منها: الأمان الكفالة والضمان والحرمة والحق والحرمة.

 

أما في الاصطلاح فلهم عدة تعريفات:

الأول: تعريف المالكية: " الذمي كل كافر حر بالغ قادر على أداء الجزية، ويجوز إقراره على دينه، ليس بمجنون مغلوب على عقله، ولا بمترهب منقطع في ديره ".

 

الثاني: تعريف الشافعية: "كل كتابي عاقل بالغ حر ذكر متأهب للقتال قادر على أداء الجزية "

 

الثالث: تعريف الحنابلة: "من استوطن دار الإسلام بالجزية".

 

الرابع: "هم الذين رضُوا بالعيش والاستقرار معنا في بلاد المسلمين، ورضوا بالشريعةِ والإسلام حاكِمًا وسيِّدًا، ومِن ثَمَّ دانوا لحُكمه بالذلة والصَّغار، ولا يتحقَّق لهم ذلك كما نقَل ابنُ القيم وغيره من أهل العلم في "أحكام أهل الذمة"، إلا أن يَدْفعوا الجزيةَ كاملةً عن يد، ويرضوا بسيادةِ الدولة المسلِمة الحاكمة، ولا يتعرَّضوا لأحد من أهل الإسلام بسوءٍ أو إيذاء أو قتْل، أو التطاول ببناء الكنائس والمعابد في بلاد الإسلام، وإلا بطلت ذِمَّتُهم، وهؤلاء قد يُسمَّوْن في زماننا هذا بالمواطنين، وهؤلاء غالبهم اليوم يعيشون في البلادِ الإسلامية . والتعريف الأخير أشمل التعريفات.

 

2-مشروعية عقد الذمة:

قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29]، وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في العام التاسع من الهجرة، وأما قبل ذلك فقد كان بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ويهود المدينة والمشركين خارجها عهود إلى مدد، لا على أساس عقد الذمة المعروف بشروطه وضوابطه.

 

أما عن حكمة التشريع في إقرار عقد الذمة: فأهمها أن يترك الحربي القتال داخل الدولة المسلمة، مع احتمال اعتناقه الإسلام مختاراً، وذلك بعد مخالطته للمسلمين واطلاعه على محاسن الدين، وقد اتفق أهل العلم على أن تحصيل المال عن طريق الجزية ليس من مقاصد عقد الذمة.

 

3 – من هم أهل الذمة؟

تعقد الذمة على العموم لغير المسلمين المقيمين ببلاد الإسلام، وهم ينقسمون بناء على اختلاف الفقهاء على ثلاث طوائف، اثنان متفق على الموقف منهما، والثالثة اختلف فيها اختلافاً كبيراً:

 

أولاً: أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وألحق بهم المجوس، وهؤلاء يجوز عقد الذمة لهم بلا خلاف بين أهل العلم. أهل الكتاب ثبت لهم العقد بنص القرآن في سورة التوبة، أما المجوس فثبت لهم عقد الذمة بالسنة القولية والعملية، فعن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب ". وهذا الحديث من جنس العام الذي أريد به الخاص؛ لأن المراد بسنة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط، فلا تحل مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم، خلافاً لما ذهب إليه الفقيه أبو ثور -رحمه الله-. أما السنة العملية فقد أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجزية من يهود هجر كما روى ذلك البخاري. وقد اختلف اهل العلم في العلة بين الجمع بينهما في الحكم فذهب البعض لكون المجوس من أهل الكتاب، ولكن كتابهم رفع، وهذا الأمر لا يصح.

 

ثانياً: المرتدون، وهؤلاء لا يجوز عقد الذمة لهم إجماعاً، وذلك لأسباب منها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من بدل دينه فاقتلوه ". فهم ليسوا على دين يقرون عليه، وبذلك أجمع أهل العلم على قتل المرتد، حتى لو انتقل من الإسلام إلى النصرانية أو اليهودية، فلا يقر على ذلك، ووصف المرتد يلحق به بأحكامه المعروفة، ومنها وجوب القتل. وعقد الذمة يتنافى مع إهدار الدم ووجوب القتل؛ لأن الذمة تفيد العصمة لصاحبها.

 

ومن الأسباب أيضاً: عدم وجود الداعي التي تدعو إليه عقد الذمة، وهي الفرصة للاطلاع على محاسن الدين، فالمرتد قد اطلع على ذلك، ولكنه أصر على العناد وامتلأ قلبه كراهية وبغضاً للدين، لذلك يغلب الظن عدم استصلاحه بهذه الطريقة، وبالتالي لا يكون عقد الذمة بحقه وسيلة تدعوه لاعتناق الإسلام.

 

ثالثاً: سائر المشركين من عبدة الأوثان والأصنام والكواكب والملحدون -غير المرتدين- وهؤلاء اختلف أهل العلم في جواز عقد الذمة لهم إلى عدة أقوال:

الأول: عدم الجواز مطلقاً، وهو قول الشافعية والحنابلة والظاهرية. وحجتهم في ذلك قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة:5]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" رواه مسلم.

 

الثاني: جواز عقد الذمة لجميع أصناف المشركين إلا مشركي العرب، وهو قول الأحناف وأحد قولي الإمام أحمد. وحجتهم في ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ الجزية من المجوس وعقد الذمة لهم. ولأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقبل منهم إلا السيف؛ لأن كفرهم أغلظ من غيرهم، وهم وقفوا من الدعوة موقف المعاند والمحارب الأول، فلا يجوز عقد الذمة لهم.

 

الثالث: جواز عقد الذمة لجميع غير المسلمين بلا استثناء، وهو قول الأوزاعي والمالكية والهادوية واختاره الإمام ابن القيم في أحكام أهل الذمة. وحجتهم في ذلك أن آية الجزية نسخت آية السيف وحديث قتال الناس، كما احتجوا بما ثبت في صحيح مسلم وسنن أبي داود من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ثم قال له: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك إليها، فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم كف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم".

 

والحديث بعد نزول آية الجزية، وكان يشمل بعمومه جميع أصناف غير المسلمين، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم " عدوك من المشركين " قال ابن القيم رحمه الله: " إن الجزية تؤخذ من كل كافر، وهذا ظاهر الحديث، لم يستثن منه كافراً ولا يقال: هذا مخصوص بأهل الكتاب خاصة ".

 

واستدلوا أيضاً بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كتب لأهل هجر وإلى المنذر بن ساوى وإلى ملوك الطوائف، يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية ولم يفرق بين عربي وغيره ،وكذلك صالح أكيدر دومة من نصارى أيلة على جزية، وأكيدر دومة عربي من غسان.

 

واستدلوا أيضاً بأن عدم جواز عقد الذمة لبعض أصناف غير المسلمين يعد إكراهاً لهم على تبديل عقائدهم، وإرغاماً لهم على الدخول كرهاً في الإسلام، وهذا يخالف قوله عز وجل (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة:256]، وذلك لأن الإيمان لا يكون إلا بالرضا والاختيار بعد قناعة المرء بفضائل الإسلام ومحاسنه.

 

4-حقوق الذميين وواجباتهم العامة:

الذمي من أهل دار الإسلام، فحقوقهم العامة هي الحقوق اللازمة والتي لا يمكن الاستغناء عنها، وهي الحقوق المقررة لحماية الشخص في نفسه وحريته وماله ودينه، ووردت النصوص الشرعية الحامية لحقوق الذميين ودفع الظلم، منها:

 

قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين سنة" رواه البخاري، وورد موقوفاً في سنن أبي داود: "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة".

 

وأخرج البخاريُّ مِن طريق عمرو بن ميمون: أنَّ عمر رضي الله عنه  - في وصيته للخليفةِ الذي بعدَه -: وأوصيه بذِمَّة الله وذمة رسولِه أن يُوفَى لهم بعهدهم، وأن يُقاتل مِن ورائهم، ولا يُكلَّفوا إلا طاقتهم"

ويقول القرافي: "إن عقد الذمة يوجب حقوقًا علينا لهم؛ لأنَّهم في جوارنا وفي خفارتنا، وذمة الله تعالى، وذمة رسوله، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله، وذمة دين الإسلام "

وهذا ينطبق على المعاهدين والذميِّين منهم ، أما من أظهروا العداوة والبغضاء، وسلوا سيوف الحرب والفتن، فقد بين الله ذلك في قوله تعالى (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 9]، فهؤلاء لا بر لهم ولا صلة، وهذه قاعدة شرعية واضحة في باب الولاء والبراء بين المسلمين وغيرهم من الكفار والمشركين .

 

و هذه جملة من الحقوق تترتب على التزام الإمام بأمانهم نبينها فيما يلي:

 

1_ إذا أعطوا الجزية فإنه يحرم قتالهم وذلك لأن آية الجزية جعلت إعطاء الجزية غاية لقتالهم، فمتى بذلوها لم يجز قتالهم. يقول ابن قدامة رحمه الله في المغني: "إذا بذلوا الجزية لزم قبولها وحرم قتالهم؛ لقول الله تعالى(قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ) إلى قوله تعالى(حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة 29]

 

2_ وجوب الكف عنهم وحمايتهم: لأنهم يصبحون جزءاً من الدولة الإسلامية ويتكفل المسلمون بأمنهم وحمايتهم. ولهذا قال علي رضي الله عنه: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا". وقال عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة بعده: "وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيراً أن يوفي لهم بعهدهم ويحاط من ورائهم".

 

3 _ عدم التعرض لكنائسهم ولخمورهم ولخنازيرهم ما لم يظهروها، ولكن هذا القول ليس على إطلاقه؛ لأن القول في الكنائس فيه تفصيل؛ فبالنسبة للكنائس الموجودة في الأمصار التي مصروها -أي الكتابيين- ثم فتحت عنوة فإن الصحيح عدم التعرض لها، وهذا هو فعل الصحابة والخلفاء بدليل بقاء هذه الكنائس إلى يومنا هذا، وقد حكى ابن قدامة الإجماع على ذلك.

 

وأما إذا فتحت الأرض صلحاً فبحسب الاتفاق في الصلح. وأما الأمصار التي مصَّرها المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد فلا يجوز إحداث الكنائس فيها ولو وجدت وأُحدثت وجب هدمها حتى لو اختار الإمام أن يقر أهل الذمة فيها، فلو أقرهم مع الذمة على أن يحدثوا فيها بِيعة أو كنيسة أو يظهروا فيها خمراً أو خنزيراً أو ناقوساً لم يجز، وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان الشرط والعقد فاسداً، وهو اتفاق من الأئمة لا يعلم بينهم فيه نزاع. وهذه هي فتوى ابن عباس حيث روى عنه عكرمة قال: قال ابن عباس: "أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوساً ولا يشربوا فيه خمراً ولا يتخذوا فيه خنزيراً".

 

أما عن واجباتهم منها : أداء الجزية ، والتزام أحكام الإسلام في العقود والمعاهدات ، والامتناع عما فيه غضاضة على المسلمين ، خاصة ما يتعلق بالإسلام ، ومنها الامتناع عن إظهار المنكر كشرب الخمر والتظاهر بالفواحش ، وإحداث البيع والكنائس والجهر بشعائر دينهم من عبادات وأعياد في دار الإسلام ، لأن ذلك يعد استخفافاً بالمسلمين وطمساً لهوية البلاد . وقد أورد الإمام ابن القيم الشروط العمرية التي نظمت واجبات أهل الذمة في ديار الإسلام ، وهي كما يلي _ حسب رواية الإمام أحمد رحمه الله : "كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: " إننا حين قدمتِ بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحْدِث في مدينتا كنيسة، ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا صومعة راهب؛ ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ما كان منها في خطط المسلمين. وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، وألا نكتم غشاً للمسلميِن، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً في جوف كنائسنا. ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وألا نخرج صليباً ولا كتاباً في سوق المسلمين، وألا نخرج باعوثاً -قال: والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر- ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وألا نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور، ولا نظهر شِرْكَاً، ولا نرغب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً. ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين. وألا نمنع أحداً من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام. وأن نلزم زينا حيثما كنا، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس، ولا نطلع عليهم في منازلهم، ولا نعلم أولادنا القرآن. ولا يشارك أحد منا مسلماً في تجارة إلا أن يكون إلى المسلمِ أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من أوسط ما نجد. ضمِنا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإنْ نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق .

 

5 _ الأحكام العقدية لأهل الذمة:

1- وجوب البراء من أهل الذمة: إن عقيدة التوحيد عند كل مسلم تستلزم منه أن يتبرأ إلى الله تعالى من كفر اليهود والنصارى وأن يبغض ما هم عليه من كفر ويبغضهم لكفرهم بغضاً شرعياً لا بغضاً شخصياً لمجرد دواعي الهوى. فالبغض والعداء في الدين من أركان التوحيد، فلا يجتمع حب الله وحب عدو الله.

 

2- وجوب تبليغ دعوة الإسلام إليهم: إن البغض والعداء الديني ليس مبرراً للعدوان والإجحاف بحقوق الناس، وأول حق لأهل الكتاب علينا هو تبليغ رسالة الإسلام، وإن الضابط والمعيار الصحيح لكون بغضهم في الله هو أن نحب لهم الهداية والخير كما نحبه لأنفسنا، وأن نحرص على أن ندلهم على الخير كما نحرص عليه لأحب الناس إلينا، قال تعالى(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [سورة آل عمران 64] . ولقد جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد" . قال الإمام النووي رحمه الله: " ويضع الجزية: فالصواب في معناه أنه لا يقبلها ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها، بل لا يقبل إلا الإسلام أو القتل".

 

3- حرمة موالاتهم: إن لازم البغض والعداء في الله تحريم تولي أعداء الله، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[سورة المائدة 51]، فمن تولى اليهودي فهو يهودي ومن تولى النصراني فهو نصراني، ومعنى التولي الحب والمودة والإعجاب والنصرة والمظاهرة -أي المساعدة- على المسلمين وحب الاقتداء بهم وحب رياستهم وفعل ذلك كله مما هو مبسوط في مقالات أهل العلم ومجمع عليه بينهم.

 

4- إن تهود النصراني أو العكس لم يقر: والعلة في ذلك أننا أعطيناه الذمة لبقاء الشبهة في قلبه على كون دينه صحيحاً، فلما بدل دينه فكأنما انتقل إلى دين باطل قد أقر ببطلانه أشبه المرتد ، وعليه فإنه لا يقبل منه حينئذً إلا الإسلام أو دينه.

 

فخلاصة أحكام هؤلاء في مجال العقيدة إذاً هو اعتقاد كفرهم وبغضهم لذلك، واعتقاد توجه الدعوة إليهم وحب ذلك لهم، وتحريم توليهم ومداهنتهم في الدين، ووجوب التبرؤ منهم ومن كفرهم من أجل سلامة التوحيد في قلوبنا

 

وللحديث بقية..

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات