أسس نجاح الدعوات "5" الجماعية

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: تأصيل الوعي

اقتباس

وعماد الجماعة في القيام بالأعمال يكون على الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، والرجل لا يوجد بغير تكوين منتظم وإعداد سليم؛ فالفرد ينضم إلى الجماعة وهو خالي الذهن تقريباً عن متطلبات الدعوة، ثم ينمو ويترعرع ويتبين المراحل بوضوح وتتضح أمامه...

إن من فطرة الله -سبحانه وتعالى- للإنسان أن جعله كائنا اجتماعيا بطبعه، يتأثر بصلاح مجتمعه فيصلح، أو بفساده فيشقى؛ لذلك كانت جهود المصلحين عبر التاريخ منصبة على المجتمعات. وكان التغيير فيها يتم بعد أن تتبني جماعة ما في المجتمع لدعوة خير وإصلاح بمنهج إصلاحي معين؛ لأن الفرد بطاقاته المحدودة وعمره المحدود لا يستطيع أن يحقق الأهداف الكبرى إذا لم يضم جهده إلى غيره، وإذا نظرنا إلى عصرنا الذي تعقدت فيه الأمور وتشعبت فيه التخصصات وأصبحت فيه الدول معسكرات وأحلافا حتى عرف بعصر التكتلات؛ فبأي منطق سيكون للأفراد منفردين ومتفرقين فيه أثر أو تغيير؟! وكيف سيستطيع الفرد بمفرده دون أن يقترن معه جهود إخوانه وباقي أفراد مجتمعه في تحقيق نجاح لدينه ودنياه أو إضافة لمجتمعه أو نفع عام أو خاص من أي وجه؟!

 

لذلك كانت "الجماعية" من أهم أسس نجاح الدعوات والمؤسسات.

 

فقد اقتضت الحكمة الإلهية أن المنهج الإلهي لا يقوم وحده، وإنما بجماعة تتربى عليه وتتدرج بسيرها بالناس فيه وتجاهد في سبيله فتنتصر أو تنهزم بمقدار قربها أو بعدها منه، وهذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام في صورته النهائية كما جاء به نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يتحقق في الأرض وفي دنيا الناس بمجرد تنزله من عند الله -سبحانه-، ولا بمجرد إبلاغه للناس وبيانه، وإنما يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر تؤمن به إيمانا كاملا، وتستقيم عليه بقدر طاقتها، وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد في سبيل هذه الغاية بكل ما تملك، ثم تنتصر هذه الجماعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة، وتنهزم في المعركة مع نفسها ومع نفوس الناس تارة أخرى؛ بقدر ما تبذل من الجهد، وبقدر ما تتخذ من الوسائل المناسبة للزمان ولمقتضيات الأحوال، وقبل كل شيء بقدر ما تملك في ذاتها من حقيقة هذا المنهج، وترجمته ترجمة حقيقية في واقعها وسلوكها الذاتي.

 

أولاً: الفرق بين الجماعية والعمل الجماعي

الجماعية والعمل الجماعي كلاهما مصطلح مشتق من الجماعة، والجماعة في اللغة: كلمة جمع أصل واحد، تدل على تضام الشيء. يقال جمعت الشيء جمعا، وهو اسم لجماعة الناس والجمع المجتمعون، والجماعة عدد كل شيء وكثرته، و الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد  صار اسما لنفس القوم المجتمعين.

 

ومصطلح الجماعية يقصد منهج وفلسفة أداء جماعة من الناس لعمل ما يعود بالنفع والخير على الجميع؛ فهو المصطلح المستخدم لوصف الأسلوب والطريقة والاستراتيجية والفكرة التي تؤمن على أهمية التواكل المتبادل بين أفراد المجتمع. والجماعيون بشكل عام يرغبون بإعطاء أولوية لأهداف المجتمع كافة فوق أهداف الفرد؛ فالمجتمع -بنظرهم- ذو قيمة أكبر من الأفراد الذين يكونونه، بمعنى آخر الجماعية عكس الفردية.

 

أما العمل الجماعي فهو ذلك النشاط الذي يؤديه مجموعة من الأعضاء الذين يشتركون في تحقيق هدف أو مجموعة من الأهداف المشتركة تعود بالنفع العام على الجماعة أو المجتمع ككل.

 

وبالتالي؛ فالجماعية استراتيجية ومنهج وفكرة، والعمل الجماعي التطبيق الفعلي لهذه الاستراتيجيات والأفكار.

 

ثانياً: أهمية الجماعية

حث الإسلام على الجماعية في العمل، وأكد على ذلك مرارًا وتكرارًا، ولم يدع مناسبة إلا وذكّر بأن الجماعية هو الآلية المناسبة لنجاح أي عمل، وأنها السبيل للتوفيق في الحياة للفرد وللجماعة؛ فقد قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آلعمران:103].

 

ومعظم العبادات التوقيفية جاء الأمر بأدائها جماعة؛ مثل الصلاة والحج والصوم، وخاطب القرآن الكريم عموم الناس بـ: (يا أيها الناس) و(يا بني آدم)، وخاطب المؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا)، وأثنى على أولئك المؤمنين الذين يعملون بروح الفريق الواحد؛ فقال تعالى: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)[المؤمنون:109]، وانتقد فاقدي الإيمان الذين يشكِّلون فريقًا ليؤدُّوا عملًا سلبياً، قال تعالى(أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[البقرة:100].

 

وتبرز أهمية الجماعية في الإسلام من خلال عدة محاور أهمها:

1- موافقة الهدي الرباني؛ فالناظر إلى خطاب الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين في كتابه الكريم، يرى فيه وفي ظلاله أمراً بالجماعية وعدم الفردية في أي شيء؛ فالنداء القرآني جاء بصيغ الجمع المتنوعة، تارة للناس كافة، وتارة للمؤمنين دون غيرهم، ولا يوجد نداء قرآني فردي إلا للرسول -صلى الله عليه وسلم- ويأتي في سياق التكليف بالبلاغ العام. والأمثلة على جماعية النداء والتكليف كثيرة يضيق المقام بذكرها، ولكن نكتفي بمثال واحد يربط بين الدعوة وخدمة الإسلام والجماعية، قال تعالى (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص)[الصف:4]؛ فالدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- من أعظم الجهاد بحق؛ فهي قتال بغير دماء لكل أعداء هذه الفكرة، الذين حاربوها حتى وصلوا بالفعل إلى إراقة دماء أبنائها.

 

والدين الإسلامي في كل أعماله العبادية والتشريعية والجهادية له فلسفة كبرى هي فلسفة الجماعية؛ فتلك عباداته: الصلاة والصيام والحج والزكاة، كلها أعمال جماعية، وفي تشريعاته ترى أن هذه التشريعات في الأصل تتطلب جماعة ترتضي من بينها إماماً يقوم على تطبيق هذا التشريع الإسلامي، ولذلك فقد أقرّ العلماء أن تشريعات الله وأحكامه لا يقوم بها الفرد، وإنما تقوم بها الجماعة -الدولة-، وكذلك في الجهاد تتجلى فكرة الجماعية كأعظم ما تتجلى.

 

2- موافقة الهدي النبوي؛ فالناظر إلى السرية النبوية التي تعتبر المحتوي الحركي لهذا الدين، والنموذج الحي لتنزيل الأوامر والنواهي الشرعية على أرض الواقع يجدها تتحرك في إطار جماعي واضح المعالم؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- عمد منذ البداية على تأسيس الجماعة المسلمة التي ستحمل همّ هذا الدين، وتسعى لتطبيقه في إطار جماعي، ومراحل الإعداد والتخطيط وتوزيع الأدوار وتشكيل الهياكل كل ذلك كان يتم في إطار جماعي قوي ومتين.

 

3- ضمان الانسجام والتناغم: وهذا من أكبر مميزات الجماعية في العمل؛ فالعمل الجماعي له قيادة واحدة، تجعل اتجاهه واحداً، ورؤيته واحدة، في حين تجد أن من يرفض الجماعية ويصر على الفردانية؛ بحيث لا تعرف الدعوة لها رأساً واحداً، بل رؤوساً كثيرة متعارضة ومتطاحنة في كثير من الأحيان، وبالتالي فلا رؤية موحدة، بل رؤى عديدة تتضارب وتتعادى وترمي بعضها بعضاً بالفسوق والمروق؛ فميزة كبيرة لأبناء العمل الإسلامي المنظم، الذي يعود أبناؤه في كل ما يجدّ لهم إلى قيادتهم التي توجههم وتعصمهم من شاذ الآراء والتوجهات التي أودت بكثير من شباب التيار الإسلامي غير المنظم إلى أتون التكفير والعنف، وكم من القضايا التي عرضت للشباب، وكانوا كشباب يميلون إلى الغلظة فيها والتطرف في رؤيتها لولا قيادتهم التي أخذت بأيديهم إلى بر النجاة!.

 

4- الثراء والتنوع؛ فالفرد مهما أوتي من مواهب وخلال وعلوم لن يستطيع أن يؤدي كل الأمور بنفس الدقة والكفاءة والطاقة؛ فالعالم الواحد غير الهيئة المتكاملة في العلوم المتخصصة التي تضم العديد من الكفاءات والتخصصات، والخطيب بمفرده غير جماعة الخطابة التي تضع البرامج وتحدد الأهداف وتستقرئ الواقع وترتب الأولويات.

 

فالجماعية في العمل تستوعب جميع الطاقات، وتوظفها لغاية عظمى وهدف أعلى وأسمى من طموحات الفرد، لو وُجد العمل الجماعي الذي يحسن توظيف كل طاقة في المجتمع لشعر كل فرد بقيمته وأثره في المجتمع وفي خدمة الدين، كما كان يفعل ذلك بكل براعة سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك أكبر ضمان للاستمرارية والفعالية دون انقطاع.

 

5- القوة والصمود: قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)[الأنفال:60]؛ فالاجتماع قوة، والنزاع والفرقة ضعف، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يد الله مع الجماعة"؛ فإنَّ تأييد الله للفئة المؤمنة المجتمعة حق لا شك فيه، قال -صلى الله عليه وسلم-: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله"؛ لذا سميت الفرقة الناجية "أهل السنة والجماعة" لاجتماعهم على الحق، وعلى العقيدة الصحيحة، وعلى الإمام العدل. والله -عز وجل- يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آلعمران:103]؛ فأمرنا بالجماعة، ونهانا عن الفرقة. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تستحبون من الفرقة".

 

6- الفعالية؛ فالأهداف السامية للعمل الإسلامي لن تتم إلا من خلال العمل الجماعي وتنسيق الجهود، حتى يمكن للأمة أن تنهض وتغير واقعها، والخطباء والدعاة والعاملون في خدمة الدين لابد لهم من العمل على تقوية الكيان الذي يحافظ على المنهج "منهج أهل السنة والجماعة" في مواجهة الكيانات الراعية للأفكار الضلالة والمذاهب البدعية الهدامة؛ فاللهُ -عز وجل- يحذرنا من التنازع الذي يضعف القوة ويُبد الغاية والهدف؛ قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال:46] إذا حصل النزاع والافتراق ذهبت القوة التي نحتاجها في مواجهة أعدائنا وتغيير واقعنا.

 

فالقوة والفعالية في العمل الجماعي تتضاعف؛ لأن الطاقات تجتمع وترتقي إلى أعلى في أي عمل؛ لذا كان العمل الجماعي قوة وبركة، حتى في أبسط الأمور؛ مثل الاجتماع على الطعام وفي مجالس العلم، وقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلسوا مجلسًا لو بسط عليهم ثوب لشملهم؛ فالاجتماع فيه بركة وغشيان الرحمة والسكينة والطمأنينة والسداد والتوفيق، حتى في السفر، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كنتم ثلاثةً فأمِّروا عليكم أحدكم"، وقال: "عليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ".

 

7- الضبط والترشيد؛ فالعمل الفردي يجعل الشخص فريسة سهلة للشيطان، فتكون قراراته طائشة، وربما استزلَّه الشيطان إلى منزلقات خطيرة، بينما العمل مع فريق يجعل الشيطان يبتعد؛ لأن الفريق يقوي ويقوم بعضه بعضًا، يقول رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-: "فمَن أراد منكم بُحْبُوحةَ الجنَّة، فليلزم الجماعة؛ فإنَّ الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد".

 

والفرد كما هو معلوم تنازعه أكثر من جهة لجره للهفوات والتقصير والخطأ؛ فنفسه الأمارة التي بين جنبيه لها ملذاتها ورغباتها، وترغب في الدعة والترف وغير ذلك، هذا من جهة، ومن هنا يحصل التقصير من قبل الفرد في أعماله، أو يصيبها الغرور من جهة أخرى؛ فوجود آخرين في العمل يعني المشاركة في العمل وفي القرار، في النجاح وفي الفشل؛ فالإنسان ليس وحيدًا ليتفرَّد ويتمرَّد وتنفلت نفسه نحو الغرور؛ اعتقادًا منها أنَّها صانعة الأشياء التي يعجز عنها الآخرون، بل هو جزء من منظومة لا بد من إعطائها حقها.

 

ثالثاً: أهداف الجماعية

1- تأسيس النواة الصلبة للدعوة: القائمون على خدمة الإسلام وشئون الدعوة إليه من خطباء ودعاة وأهل العلم وطلبته يجب أن يعملوا بصورة جماعية على إظهار محاسن الدين ونقاء الإسلام وجمالية شريعته متجسداً في شخوص المنتسبين إليه، بحيث تكون هذه الهيئة الدعوية في ذات نفسها على الصورة التي يتطلبها الإسلام بحيث تعطي نموذجاً واقعياً لأن الجماهير ترى الدعاة قبل أن تسمع لكلامهم؛ فسماع الكلام يؤثر تأثيراً وقتياً ولكن الذي يعطي الأثر الأكبر هو التربية والتعامل حيث لا بد من مصاحبة الناس ومعايشة الجماهير والتعامل معهم فالدين المعاملة والجماهير ترى الصورة الحقيقية الواقعية في حياة الداعية لا الصورة الكلامية؛ فإذا تصدت مجموعة للدعوة وهي لا تتخلق بأخلاق الإسلام وإذا لم يكن لها تجربة حقيقية فأي شيء تستطيع أن تعطي للجماهير، تعطيهم محاضرات، تعطيهم نشرات أو كتباً، تعطيهم كلاماً ميتاً يصدر من اللسان أو القلم ولكن الكلام المؤثر فعلاً هو الذي يجد تصديقاً له في حياة ومواقف الداعية والخطيب والواعظ؛ فالله -عزَّ وجلَّ- رد على المشركين الذين نعتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجنون بأن لفتهم إلى معايشته معهم ومصاحبته لهم مدة طويلة وما قالوا عنه خلال هذه المدة أنه مجنون فقال (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون)[التكوير:22].

 

والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان خلقه القرآن أي أنه ترجم القرآن سلوكاً واقعياً فأصبحت معاني القرآن وقيمه ومبادئه صورة بشرية حية تتحرك في الأرض وبهذا دعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى الإسلام؛ فهو لم يبلغ كتاب الله مجرد تبليغ، إنما كانت الصورة أنه ذاته الشريفة كان الصورة الإسلاميّة الكاملة، كان الترجمة الصادقة لهذا الإسلام وهذا القرآن.

 

وليكن لنا في قاعدة المسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار النموذج؛ فإن القاعدة الأصلية من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار وكونوا نواة المجتمع المسلم في المدينة قبل بدر وكانوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بسبب التوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني، وأخيراً فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح، حتى صارت تتمثل في المجتمع المدني بجملته، هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم بعد الهزة الكبرى التي حدثت بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

 

2- تغيير الواقع: من أهم أهداف العمل الجماعي تعليم المسلمين كيفية مواجهة الواقع المحيط بها بوسائل مكافئة فتكون المواجهة بالدعوة والبيان؛ بتصحيح المعتقدات والتصورات الخاطئة، والصبر على تحمل الأذى في المرحلة المكية، وبمدافعة الكافرين ورد عادية المعتدين بالجهاد في العهد المدني.

 

3- توفير البيئة المناسبة: على العمل الجماعي الناشئ لخدمة الإسلام أن يركز على توفير البيئة الإسلاميّة وبصفة خاصة بيئة ثقافية تتمثل فيما يقرؤه كل فرد؛ لأن ذلك يؤثر في فكره وعواطفه وسلوكه في الحياة، وأفضل بيئة للمسلم يعيش فيها هي القرآن الكريم وسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيرة أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، حيث يجد المسلم في هذه السيرة القدوة التي تدفعه إلى العمل الصادق المخلص الذي يزداد على الزمن دائماً نحو الأفضل.

 

وهذه النماذج لا يمكنها أن تصوغ حياتها بهذه الكيفية إلاّ إذا كان المجتمع الذي تعيش فيه يسهل عليها هذه الصياغة؛ لأن الإنسان كائن حي يتأثر بالمجتمع الذي يعيش فيه، ونجد في القرآن الكريم ما يدل على أن المجتمع الظالم الفاسد يؤثر في حياة أفراده حيث يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء:97].

 

يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "فنزلت هذه الآية العامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع".

 

وعلى ذلك؛ فإن هذه النماذج التي تمثل الركائز في الحركة مطالبة بضرورة البحث عن أماكن للدعوة، وفتح آفاق جديدة في أرض الله الواسعة، ولنا في حبيبنا وقائدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- القدوة؛ فلقد خرج إلى الطائف يدعو أهلها للإسلام، وأرسل جعفر بن أبي طالب ونفراً من المسلمين إلى الحبشة، كما كان يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج، إلى أن شاء الله تعالى وكانت بيعة العقبة الكبرى، ودعوة الأنصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بالهجرة إلى يثرب، وكان ذلك بداية عهد جديد وفاتحة خير، حيث هاجر الصحابة إلى المدينة، ثم تبعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  فدخلها نور الإسلام الذي تركز في هذه البقعة الطاهرة، ومنها كان الإشعاع وانتشار النور إلى كل الدنيا بفضل الله -تعالى- وصبر ومصابرة وجهاد المسلمين الصادقين.

 

4- رفع الكفاءة: ويجب أن يتطور العمل الجماعي حتى يصبح على مستوى مهمة إنشاء المجتمع الإسلاميّ وفقاً لوسائل العصر، وإلاّ فإنه لا يستطيع أن يواجه الواقع المحيط به، ويكتب عليه الإخفاق قبل أن يتحقق وعد الله بالتمكين في الأرض والاستخلاف كما ورد في الآية، وليكن معلوماً يقيناً أن الله -عز وجل- قادر على أن يستبدل قوماً غيرنا لا يكونون مثلنا في ضعفنا وتقصيرنا.

 

وكفاءة العمل تتوقف على أمور متعددة لا شك أن من أهمها الجهد الذي يبذله كل فرد من أفراد الجماعة في عمله وحسن اختياره للعمل الذي يقوم به وخبرته بذلك العمل والطريقة التي ينجز بها العمل.

 

وعماد الجماعة في القيام بالأعمال يكون على الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، والرجل لا يوجد بغير تكوين منتظم وإعداد سليم؛ فالفرد ينضم إلى الجماعة وهو خالي الذهن تقريباً عن متطلبات الدعوة، ثم ينمو ويترعرع ويتبين المراحل بوضوح وتتضح أمامه الوسائل شيئاً فشيئاً، والنفس في الإنسان العاقل كالطفل إن تركت مفكوكة من عقال يحميها من الوقوع في شباك الشيطان ضلت ومالت، وإن عقلت بحبل التكاليف اتزنت وارتقت والبوصيري يقول:

والنفس كالطفل إن تتركه شبّ على *** حبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطم

 

لذا يجب أن تتكوّن النفوس وتتربّى لتقدر على حمل الأمانة والقيام بالأعباء؛ فالعمل ليس أمانيّ ولا أحلاماً وليس شعاراً يرفع، وإنّما هو عمل شاق وصبر وإخلاص وتجرّد لله وإعداد متين، وهو فوق ذلك مشهود من الله ورسوله والمؤمنين.

 

وأخيراً "الجماعية" ليست رفاهية فكرية أو مجرد أطروحة فلسفية، بل هي منهج حي يجب أن يعتنقه الدعاة والخطباء والوعاظ والعاملون في خدمة دين الإسلام، كما يجب على الدعاة والخطباء التحذير من نزعة الفردانية التي ينادي بها البعض، وكشف الخلل الفكري في اعتقاد البعض الآخر ببدعية العمل الجماعي في الإسلام؛ فهذا هو عين مراد أعداء الأمة أن تتحول الجماعة الواحدة والأمة الواحدة إلى شراذم وشيع وأحزاب وفرديات هنا وهناك؛ فهذا هو أحد أهم أولويات الخطباء والدعاة في هذه الأيام.

 

فالخَطْبُ كبير، والأمر خطير، والتحديات ضخمة، والمتربصون كُثُر، والإمكانيات ضعيفة، والأمة محاصرة، ومن الجناية الكبرى أن تتشتت الأمة وتتبعثر جهودها في هذه المرحلة الفارقة في تاريخها.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات