سلسلة أفقاه لا يستغني عنها الداعية (4) فقه الأولويات

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: تأصيل الوعي

اقتباس

والفهم الصحيح للدين يستلزم معرفة فقه الأولويات وكيفية الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد إذا تعارضت فكما يقال: "ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين". والمسلم في حياته الدنيا يواجه أربعة أحوال لأموره الدينية والدنيوية، حسب درجة وأهمية كل واحدة منها تتحدد حركة المسلم:

 

 

 

 

إن فقه الأولويات مركب إضافي من كلمتين: أولهما الفقه، ولغة هو مطلق الفهم، ولا يُقصد بكلمة الفقه هنا المعنى الاصطلاحي الذي هو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية"، وإنما مقصود به مطلق الفهم الذي جعله الله شرط بلوغ الخير وتحقق الهدي، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "من يُرد الله به خيراً يفقه في الدين".

 

وأما الأولويات، فهي جمع أولى. وأولى في اللغة، جاءت على معنيين هما: الأول: بمعنى أَحَقّ وأَجْدَر، والثاني: بمعنى أَقْرَب، غير أن هذا المعنى الثاني يرجع في أصله إلى المعنى الأول، فقد جاء في معجم (لسان العرب): يقال: فلانٌ أولى بهذا الأمر من فلان، أي أحق به، وفلان أولى بكذا، أي أحرى به وأجدر، وفي الحديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت السهام فلأولى رجل ذكر" [البخاري، انظر الفتح 12/11] أي أدنى وأقرب في النسب من المورث، ولمادة "أولى" استعمالات أُخَر، لكنها لا تخرج في مجموعها عن المعنى الأصلي الذي هو الأحقية، ومنها أَوْلاه على اليتيم: أَوْصَاه عليه، وأولاه معروفا: أسداه إليه، وأَوْلَى فُلانًا الأمر: جعله واليًا عليه، وأَوْلَى لك: كلمة تهديد ووعيد، أي: قاربك الشر فاحذر، ومنه قوله تعــالى:(ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) [القيامة 35]وأولويّة: مصدر صناعي، جمعه أولويات، يقال: له الأولوية في كذا، أو الأحقية، والأولوية نسبة إلى الأولى. 

 

وعلى هذا فإن المركّب الإضافي (فقه الأولويات) يعني: "معرفة ما هو أجدر من غيره في التطبيق"، بمعنى أن يقدم على غيره، وهذا أيضاً تابع لمعرفة طبيعة الوقت الذي يطبّق فيه الأمر، لذلك وجدنا عند علماء الفقه وأصوله عبارة "هذا خلاف الأولى"، بمعنى هذا خلاف الحكم الأجدر بالتطبيق.  وبعبارة أخرى فقه الأولويات هو " العلم بالأحكام الشرعية التي  لها حق التقديم على غيرها  بناء على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها " وهذا يعنى أن تقديم حكم على آخر يتطلب الفقه بأحكام الشرع وبمراتب هذه الأعمال، وبالقطعي منها من الظني وبالأصل منها من الجزء، وبالكبير منها من الصغير، وبعبارة موجزة "العلم بالخريطة الشرعية للأحكام "  والعلم بالضوابط التي يتم بناء عليها ترجيح حكم على آخر في حالة التزاحم أو في غير حالة التزاحم، كما يجب  العلم بالواقع والظروف التي يتحرك فيها المسلم ، وعلى هذا فما أصدق ما قاله ابن القيم حين دعا المفتي  إلى نوعين من الفهم، "أحدهما فهم الواقع، والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن  والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما، والنوع الثاني  هو فهم الواجب  في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله  في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر.

 

وإن من الأهمية البالغة لكل مسلم أن ينضبط عنده ميزان الأولويات بشكل منطقي وصحيح حتى لا يقدِّم المهم على الأهم، أو يحرص على المفضول ويترك الفاضل، كمن يحرص على أداء بعض النوافل والمستحبات ويفرط في أداء الفرائض والواجبات أو يتساهل في فعل المحرمات، وكان ابن عمر يقول لأهل العراق: ما أسْأًلَكم عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة، تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسألون عن دم البعوضة، والذين يجلدون الإمام أحمد بن حنبل كانوا يسألونه عن الدم الذي ينضح على ثيابهم، وكانوا ينتقدونه على أن يصلي وهو جالس والقيد في يديه وفي رجليه. ويشير الإمام الراغب الأصفهاني إلى فقه الأولويات في كتابه الهام ( الذريعة في مكارم الشريعة ) بقوله: لا يصح تعاطي الفضل إلا بعد العدل، فإن العدل فعل ما يجب والفضل الزيادة على ما يجب، وكيف يصح تصور الزيادة على شيء هو غير حاصل في ذاته؟ ولهذا قيل لا يستطيع الوصول من ضَيَّع الأصول، فمن شَغَلَهُ الفرض عن الفضل فمعذور، ومن شغله الفضل عن الفرض فمغرور، وقد أشار الله – تعالى - بالعدل إلى الأحكام، وبالإحسان إلى المكارم بقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) [النَّحْل 90].

 
   وكثيرًا ما يتم التنصيص في القرآن الكريم وفي السنة النبوية على أولوية أفعال معينة، وتقديمها على غيرها،  بعضها مُدْرَك العلة، وبعضها الآخر غير مُدْرَك، فمما لا تدرك فيه العلة تفضيل مسجده -صلى الله عليه وسلم- على سائر المساجد، وتفضيل الصيام -غير الفرض- في محرم على غيره، وتفضيل بعض صيغ الذِّكْر على غيرها، فهذه التفضيلات وغيرها لا يظهر للعقل البشري وجه الحكمة فيها فالحق سبحانه يفضل أحيانًا عبادات معينة في أزمنة وأمكنة معينة. ومما يمكن تعليله: تفضيل العلم على العبادة، وتفضيل الجهاد على النوافل، وتفضيل صلاة الليل على غيرها، وتفضيل الصدقة على الأقارب على غيرهم وهكذا، وأغلب الأولويات التي تُدْرَك عللها تعود إلى أحكام المعاملات، أما الأولويات التي لا تُدْرَك علل تقديمها على غيرها؛ فتعود إلى أعمال العبادات غالبًا.  

 

ومن أمثلة الأولويات والتفضيلات في القرآن: قوله عز وجل: (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) [ البقرة 271]، وقوله (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) [ البقرة  263]، وقوله (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [ البقرة 280]، قال تعالى(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِين) [ الشورى 39ـ 40 ]

 

ومن أمثلة الأولويات والتفضيلات في السنة النبوية المطهرة: الاشتغال بالعلم أولى من الاشتغال بالعبادات التطوعية: فقد جاء عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" ( أبو داود )، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" (أبو داود )، ومن الأمثلة تقديم الاهتمام بالباطن على الظاهر، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"إن الله لا ينظر إلى صُوَرِكم وأموالكم ولكن يَنْظُر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم 1987)، ومنها الصدقـة حال الصحة أولى من الوصية، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان" (البخاري).  

 

والفهم الصحيح للدين يستلزم معرفة فقه الأولويات وكيفية الموازنة والترجيح بين المصالح والمفاسد إذا تعارضت فكما يقال: "ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين". والمسلم في حياته الدنيا يواجه أربعة أحوال لأموره الدينية والدنيوية، حسب درجة وأهمية كل واحدة منها تتحدد حركة المسلم:

 

الحالة الأولى: هام وعاجل، وهو ما يجب أن يبدأ به المسلم فورا ولا يصح تأخيره بأي حال من الأحوال، وهو ما طلب منه على سبيل الوجوب الوقتي والإلزام الفوري، كما لا تصح فيه النيابة والوكالة إلا في أضيق نطاق، وهو ما يجب أن يبدأ به المسلم فورا دون تأخير.  

 

الحالة الثانية: هام وغير عاجل، وهو ما أمر به المسلم وجوبا ولكن على التراخي وليس على الفور، وهو ما يجوز للمسلم أن يؤخره بما يتناسب مع إمكاناته وقدراته وبعد خلو ذمته وبراءتها من الأمور العاجلة واجبة التطبيق الفوري.  

 

الحالة الثالثة: غير هام وعاجل، وهو العمل الذي يجوز فيه الوكالة والنيابة لمن يقوم به نيابة عن المكلف الأصلي، وقلنا فيه بجواز التوكيل والنيابة لأن العمل حاز صفة الفورية أو العجول.  

 

الحالة الرابعة: غير هام وغير عاجل، وهو معظم الأعمال الدنيوية من سائر المباحات ومن صنوف اللهو والتمتع بملاذ الدنيا والتقلب في أحوالها.   

 

 وفي ضوء هذه الأحوال الأربعة يستطيع الداعية أن يضع لبنات وأساسيات لحركته الدعوية والعملية تضبط هذه التحركات والقرارات، ومن أهم هذه اللبنات:

 

اللبنة الأولى: نقطة الإصلاح

 

الإصلاح هو الغاية العظمي للعمل الدعوى كما قال الله - عز وجل - على لسان رسله ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ) [ هود 88]، ومعظم الاختلافات التي تدور داخل صفوف التيارات الدعوية هي في الأساس في كيفية تطبيق الإصلاح المجتمعي، هل نبدأ من القمة أم من القاع ؟ هل نشتغل بالعمل الجهادي أم بالعمل السياسي أم بالعمل التربوي؟ ومن خلال التصورات المتباينة تحدث الاختلافات في العمل الدعوي.  

 

ومن خلال النظر إلى مآلات التجارب المختلفة للإصلاح، يتضح لنا إن نقطة الإصلاح الحقيقية تبدأ من النفس ثم البيت ثم من يعول ثم سائر المجتمع، ومن تطبيقات هذا التدرج في الإصلاح مثلا: البدء بالإصلاح الداخلي للمجتمع المسلم وتقويته قبل الاهتمام بفضح مخططات الأعداء ومؤامراتهم، فما كان للأعداء أن يتسلطوا لولا الفساد والضعف الداخلي من الابتعاد عن دين الله – تعالى -، والظلم بشتى صوره وأشكاله، وعدم تعيين الأكفاء في المناصب، والفساد الإداري والمالي، والتقصير في محاربة الفقر، والعصبية الجاهلية سواء بين المناطق والقبائل أو بين الجنسيات، على الرغم من أن الأصل في ذلك أن لا يفرق بين أحد وغيره إلا على أساس الكفاءة والقدرة، وعدم الاهتمام بالعلم والتعليم بالشكل المطلوب، والتقصير في تقدير العلماء والمبدعين بل وقد يصل الأمر إلى محاربتهم والتضييق عليهم.

 

ومن هذا المنطلق أيضا، يكون تقديم الاهتمام بأعمال القلوب على أعمال الجوارح، لأنه إذا صلح القلب صلح سائر العمل وإذا فسد القلب فلا عبرة بصلاح الظاهر عند فساد السرائر، فالإكثار من العبادات الظاهرة والاجتهاد فيها من غير إصلاح للباطن قد يقترن بما يحبط العمل ويفسده، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن قوم (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) متفق عليه، وفي رواية في البخاري: (يَقْتُلُونَ أهْلَ الإسلامِ وَيَدَعُونَ أهْلَ الأَوثَانِ)، فهؤلاء مع كثرة عبادتهم يمرقون من الدين ويخرجون منه، وقد علَّل كثير من العلماء ذلك بأنَّ في باطنهم من الكبر الخفي الذي يقودهم إلى تضليل المسلمين أو تكفيرهم ويجعلهم يعتقدون أنهم وحدهم على الحق المبين ومن سواهم على الضلال، فمدار صلاح الحياة على صلاح العمل، ومدار صلاح العمل على صلاح الحياة، وطريق الدعاة إلى الله عز وجل حافل بكثير من آفات وأمراض القلوب التي تعيق هذا السير وتحبط كثيرا من العمل.  

 

ومن هذا المنطلق أيضا يكون الاهتمام بالجوهر أعظم من الاهتمام بالمظهر، كالاعتناء باللباس أكثر من اللازم، والزعم بأن ارتداء الثياب العصرية حرام، مع أن الذي يُحَرَّم من الثياب هو ما كان بِنِيَّةِ التشبه بالكفار، فتكون هيئاتها لها خلفيات دينية أو عرقية أو مذهبية، أما الأزياء العادية التي يشترك فيها جميع الناس فتبقى مباحة للجميع، فقد ثبت -كما ذكر ابن القيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرتدي ما تيسر له من الثياب، فالإسلام لم يلزم المسلم بزي معين، وإنما اشترط شروطا معينة متى توافرت جاز ارتداء ما يراه مناسبًا لظروفه، وإن لم يشبه زِيّ السلف.  

 

اللبنة الثانية: التدرج العلمي

 

فالبدء بصغار العلم قبل كباره،كما قال الله - عز وجل -: ( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) [ آل عمران 79 ] وقد قال المفسرون: الربانيون هم الذين يعلمون الناس صغار العلم قبل كباره، فطلب العلم بصورة تدريجية منتظمة تعتمد المنهجية الواضحة السليمة، تصل بالداعية لبر الأمان في العلم والعمل، وتقديم التربية بالقدوة الحسنة والأفعال الصالحة على مجرد الكلام الخالي من التطبيق وتكون تصرفات الداعية منضبطة سلوكيا وأخلاقيا وشرعيا، ولو نظرنا إلى سيرة الصحابة - رضوان الله عليهم - لوجدناهم أكثر الخلق انضباطا بمعايير الشرع،  فقد جيء إلى عمر - رضي الله عنه - بسيف كسرى ومنطقته وزبرجده قال: إن أقواماً أدوا هذا لذو أمانة، فقال علي - رضي الله عنه -: إنك عففت فعفت الرعية.

وكتب عمر - رضي الله عنه - إلى أبي موسى: أما بعد، إن أسعد الرُّعاة من سَعِدت به رعيَّتُه، وإن أشقى الرعاةِ عند الله من شقيت به رعيَّتُه، وإياك أن ترتعَ فيرتعَ عُمَّالُك. وكان عمر إذا نهى الناس عن شيء جمع أهل بيته فقال: إني نهيت الناس كذا وكذا، وإن الناس لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأيم الله! لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت له العقوبة ضعفين، وفي عهد السلف كان الكثير من الناس يصحبون أهل العلم للاستفادة من سمتهم وأخلاقهم قبل أن يستفيدوا من كلامهم.

 

ومنها تقديم الفرض والواجب على السنة والنفل، فلا يقوم أحد مثلاً بأداء بعض النوافل إذا كان في أدائها إخلال بالواجب، كمن يشق عليه صيام النفل بحيث لا يستطيع أداء واجباته على الوجه المطلوب، ومن ذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - للزوجة أن تصوم تطوعاً، وزوجها حاضر إلا بإذنه، لأن حق الزوج واجب عليها، والصوم نافلة، قال بعض العلماء: " من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور". ومنها تقديم فرض العين على فرض الكفاية ومن ذلك أن رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ. متفق عليه.

 

اللبنة الثالثة: التدرج العملي

 

وله عدة صور منها: تقديم الاهتمام بترك المنهيات على الاهتمام بفعل المأمورات، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "فَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"  متفق عليه، فهذا يؤخذ منه أنَّ النَّهيَّ أشدُّ من الأمر؛ لأنَّ النَّهيَّ لم يُرَخَّصْ في ارتكاب شيء منه، والأمر قُيِّدَ بحسب الاستطاعة، وعن أبي هريرة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: "اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعبدَ النَّاسِ"  رواه الترمذي، وقالت عائشة رضي الله عنها: من سرَّه أنْ يسبق الدائبَ المجتهدَ فليكفَّ عن الذنوب. وقال الحسن: ما عبد العابدون بشيءٍ أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه. وقال ميمون بن مِهران: ذكرُ اللهِ باللسان حسن، وأفضلُ منه أنْ يذكر اللهَ العبدُ عندَ المعصية فيمسك عنها، وقال ابنُ المبارك: لأنْ أردَّ درهماً من شبهة أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّقَ بمائة ألفٍ ومائة ألف، حتّى بلغ ست مئة ألف، وقال مَالِكُ بنُ دِينَارٍ: لَأنْ يَترُكَ الرَّجُلُ دِرْهَماً حَرَاماً خَيرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَتَصَدَّقَ بمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ ،وقال سفيان الثَّورِي: كُلِ الحَلالَ وَصَلِّ آخِرَ الصُّفُوفِ تُقْبَلُ مِنْكَ، وَلَا تَأكُل حَرَاماً وَتُصَلِّي أَوَّلَ الصُّفُوفِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْكَ.  

 

ومنها: تقديم العمل المتعدي نفعه إلى الغير على العمل القاصر نفعه على صاحبه، وكمن يستطيع أن يعلم الناس علماً نافعاً في وقت من الأوقات أو يذكر الله وحده منفرداً، فقيامه بتعليم الناس أولى، وذلك لتعدي نفعه وشمول خيره، فمن مشى في حاجة أخيه حتى يقضيها له كان خير له من اعتكاف شهر كامل في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت ذلك في الأثر.  

 

ومنها: تقديم حقوق العباد على حق الله المجرد، ففي الحديث "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين"  (مسلم: 1886)، وتوفي رجل من الصحابة في خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله-  صلى الله عليه وسلم -، فقال: " صلوا على صاحبكم "، فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الل ، ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين]  أحمد وأصحاب السنن ].  ومنه يفهم تقديم حق الجماعة على حقوق الأفراد.  

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات