الدعاة وترشيد التعامل مع الإرث التاريخي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: تأصيل الوعي

اقتباس

ولكن ثمة قراءة غير رشيدة يقع فيها كثير من الدعاة أدت لنتائج عكسية من قراءة التاريخ، ولب هذه القراءة غير الرشيدة يرجع لطريقة رد فعل الدعاة على حالة الاستلاب الفكري والثقافي التي بدأت تتسرب إلى بلادنا في أعقاب الاحتلال الأجنبي، فقد دخلت عالمنا الثقافي وفضاءنا الاجتماعي تيارات علمانية وتغريبية هدفت كلها لاستلاب المحتوى العقائدي والثقافي لأمتنا، وإعادة تشكيل وعي الأمة على قوالب قومية ووطنية وعلمانية ..

 

 

 

 

يعتبر الإرث التاريخي من أهم أدوات الدعاة عبر العصور، ففيه المخزون الاستراتيجي الذي لا ينفد في كل المواقف وشتى المباحث، ولا يتصور ثمة داعية من غير أن يكون عنده دراية أو اطلاع -ولو محدود- بأحداث التاريخ، وخصوصا حقبة السيرة والقرون الثلاثة الفاضلة، وإن دراسة التاريخ البشري عموما والإسلامي على وجه الخصوص من الأمور التي لا يُستغنى عنها بحال خاصة في هذه الأيام التي كثرت فيه الأطروحات والرؤى المغايرة للطرح والرؤية الإسلامية، وأغلبها مستورد ومستنسخ من تجارب الغير وحضارات الغرب، وعندما تكفهر الأجواء وتتلبد السماء بالسحب والغيوم ويفقد الناس قدرتهم على الاستشراف والبصيرة - يكون التاريخ بتجاربه الواسعة والثرية في كل مجال خير معيار لقراءة الأحداث وتقييم المواقف، وربنا -جل وعلا- ندبنا في عدة آيات للنظر في أحداث التاريخ والاعتبار بما جرى فيها مثل قوله: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) [ آل عمران:137]، وقوله: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) [ الروم:10]..

فالتاريخ هو ذاكرة الأمم، لا تستطيع أمة أن تعيش بلا ذاكرة، ودراسة التاريخ واستخراج الدروس والعبر منه هو دأب الأمم القوية، والتاريخ مرآة الشعوب وحقل تجارب الأمم، في صفحاته دروس وعبر للمتأملين؛ لأنه نتاج عقول أجيال كاملة، والأمة التي تهمل قراءة تاريخها لن تحسن قيادة حاضرها ولا صياغة مستقبلها. ولكن ثمة قراءة غير رشيدة يقع فيها كثير من الدعاة أدت لنتائج عكسية من قراءة التاريخ، ولب هذه القراءة غير الرشيدة يرجع لطريقة رد فعل الدعاة على حالة الاستلاب الفكري والثقافي التي بدأت تتسرب إلى بلادنا في أعقاب الاحتلال الأجنبي، فقد دخلت عالمنا الثقافي وفضاءنا الاجتماعي تيارات علمانية وتغريبية هدفت كلها لاستلاب المحتوى العقائدي والثقافي لأمتنا، وإعادة تشكيل وعي الأمة على قوالب قومية ووطنية وعلمانية، ومن أجل مواجهة هذا الاستلاب راح كثير من الدعاة يستحضرون من ذاكرة التاريخ الإسلامي وخزان أمجادها وبطولاتها المواقف والمشاهد والشخصيات والأحداث التي تؤكد على عظمة هذا الدين ومكانة هذه الأمة وقت تمسكها بالدين، وفي ذلك دون العرض الكامل والأجواء المحيطة بهذه المواقف والشخصيات البطولية والبيئة التي نشأت فيها، ودون عرض لأسباب التقدم وسنن النهوض وقانون الانتصار، وهذه القراءة المبتسرة والجزئية للتاريخ نجحت في إنقاذ الكيان النفسي للمسلمين في فترات الانكسار المعاصرة، ولكنها أيضا أدت لفقدان الإحساس بطبيعة الهزائم التي نتعرض لها، وكيفية مواجهتها والأسباب التي أدت إليها في الأصل وهكذا.

لذلك كان على الدعاة والخطباء والمربين واجب في غاية الأهمية في إعادة قراءة التاريخ الإسلامي، وأقول إعادة قراءته وليس إعادة كتابته، فإعادة القراءة معناها الرشد في التعاطي مع دفتر أحوال الأمة عبر تاريخها، وانتهاج سياسة حكيمة في الأخذ والنشر لأحداث التاريخ الإسلامي، أي أن القراءة المطلوبة هي قراءة متدبرة، تقف أمام أحداث التاريخ الإسلامي متفحصة مدققة، ليست سردًا تاريخيًا للأحداث بقدر ما هي تنقيب بين أسطره على مدلولات هذه الأحداث والوقائع، وعلاقتها بواقعنا المعاصر. وبناء عليه فعلى الدعاة مراعاة العديد من الحقائق الهامة عند تعاطيهم مع المعين التاريخي وانتهالهم منه لدعوة الناس:
أولا: التاريخ الإسلامي ليس فقط التاريخ السياسي أو تاريخ السلطة الحاكمة فحسب -وإن كان يتمحور في معظمه حولها- وإنما هو تاريخ الأمة بأسرها بشكل عام من الرأس إلى القاعدة، تاريخها الاجتماعي والأخلاقي والعلمي والعسكري والاقتصادي والإنساني، وعطاؤها الحضاري على مختلف الأصعدة وشتى الميادين، وهذا يفرض على الدعاة ألا يقتصروا في عرضهم لفترات اللمعان والانتصار على تاريخ السلاطين والخلفاء والملوك والحكام الأقوياء وحدهم، بل يعرضوا أيضا تاريخ المجددين والمصلحين والعلماء وكل من أسهم في رقي الأمة ولمعانها، فمثلا هل يتصور عرض تاريخ صلاح الدين الأيوبي من غير عرض تاريخ القاضي الفاضل، أو تاريخ محمد الفاتح من غير تاريخ شمس الدين آق والملا محمد الكوراني، أو تاريخ سعود الكبير من غير تاريخ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والأمثلة على ذلك كثيرة، فالتاريخ هو تاريخ كل من أسهم في رقيها وبنائها ولو بأقل القليل.

ثانيا: التاريخ الإسلامي ليس هو تاريخ اللمعان والانتصار فحسب ولكن تاريخ الانتصار والانكسار معا، وتاريخ النصر والهزيمة، وتاريخ الانتشار والانحصار، وتاريخ التقدم والرقي والتخلف والانحطاط، هو التاريخ بأسره من أوله لآخره بكل محطاته وتقلباته، والتركيز على فترة دون الأخرى والقراءة الانتقائية لبعض فصوله، يعطي صورة مغايرة لحقيقة هذه الأمة وحركة تاريخها، ويؤدي لخلل في التصور وغبش في الرؤية وضعف في تحسس مواطن الخلل، كما لا يعطينا المعايرة الصحيحة للأمور والمستجدات، وهذا الأمر تحديدا من الأمور التي تجعل التاريخ يتحول إلى محبط من محبطات الأمة، فقد أسدل الستار على نحو متعمد على سائر الإخفاقات التاريخية والفترات السوداء والرمادية من حياة أمتنا، وبالتالي تم الإعراض عن معرفة أسباب هذه الإخفاقات والهزائم، وأسباب توقف عجلة الحضارة الإسلامية عن الدوران والإنجاز، وهذا الإعراض جعلنا مجردين من أسلحة المقاومة لتيارات الاستلاب التي تعرضت لها الأمة خاصة في عصور التخلف.

ثالثا: التاريخ الإسلامي هو وعاء فعل الأمة، وشريط حياتها، ودفتر أحوالها، وسجل حركتها، وعنوان فهمها للقيم والسنن، ومدى تطبيقها والتزامها بهذه القيم على أرض الواقع، فتاريخ الأمة ليس سردًا للأحداث ولا تسجيلاً للوقائع والأقاصيص، ولكنه تفسير لكل هذه الأحداث والوقائع، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منهم وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان، لذلك فقراءة التاريخ دون القدرة على دراسته وتقويمه بمصداقية وأمانة وموضوعية في ظل نور الوحيين لا يمنحنا الرؤية الكافية لعوامل النهوض وقانون السقوط، وعلى مدار التاريخ كان من مهام كبار الدعاة والمصلحين والعلماء العاملين القيام بمهام تجسير العلاقة بين الماضي والحاضر واستخلاص ترياق رؤية المستقبل، إذا من السهل على الكثيرين استحضار منجزات الأسلاف وتخدير الجماهير ودغدغة عواطفهم بانتصارات السابقين والغرق في عطاءات الأمة الكثيرة في صدرها الأول، ولكن دون بيان لكيفية الانتصار، ودون كشف لحقيقته ومقوماته وأسبابه والاستفادة منه في واقعنا المعاصر، وبالتالي يتحول الدعاة إلى جنس الوعاظ والقصاصين لأساطير الأولين من حيث لا يدرون.

رابعا: إن تاريخ هذه الأمة إنما هو تاريخ دينها وانتشاره والدعوة إليه، فتاريخ الأمة ليس تاريخ العرب وحدهم، بل هو تاريخ المناطق والبلاد والأمم التي دخلها الإسلام، وسار فيها وحكم، وكانت له فيها دولة، وعلى الدعاة أن يعلموا أن الجزء الأكبر من تاريخ المسلمين وتراثهم الحضاري بشتى أطيافه قد صنعه غير العرب من المسلمين، وهذا الأمر يفرض على الدعاة التنقيب في تاريخ الأمم المفتوحة ودراسة حركة الفتح الإسلامي ومسارها عبر القرون والقارات، وذلك الأمر يوسّع مدراك الداعية ويرى بعين بصيرته كيف تعمل سنن الله -عز وجل- بلا محاباة ولا جور وكيف قامت الأمم وكيف انهارت؟ وكيف تنتصر الدعوات ولماذا تنهزم وهكذا.

أيضا فقد ارتبط هذا الدين منذ ظهوره واستخلافه في الأرض بقيم أخلاقية وتربوية، استطاعت أن تصوغ أخلاق وسلوكيات هذه الأمة، وأن تغير من واقع حياتها، لنتأمل حال العرب قبل الإسلام وبعده.

استطاع الإسلام أن يصوغ ويغير من أخلاقهم وقيمهم وسلوكياتهم وتصوراتهم، فتغيروا من حال إلى أحسن حال. لذا الاستفادة من التاريخ في استخراج هذه الدروس التربوية، ومعرفة كيف استطاع الإسلام أن يغير من واقع هؤلاء القوم، حتى يكون ذلك منهاجًا لنا في تغيير القيم والتصورات الدخيلة على واقع وحال الأمة الإسلامية في وقتنا الحالي.

خامسا: إن تاريخ هذه الأمة قد تعرض لحملات شرسة ومتتالية من التحريف والتزييف، وامتدت إليه أيدي العبث والتآمر بالتزوير والتغيير مبكرا، حتى يفقد هذا التاريخ قيمته ومصداقيته، ويصبح متكأ للطعن في رموز الأمة، والنيل من الجيل الفريد كما حدث مع الصحابة رضوان الله عليهم، حتى أصبح من العادي جدا أن تجد هذه الأباطيل والأكاذيب تروج حتى على الأفاضل والمخلصين من الدعاة والخطباء، فيصبح الداعية كحاطب ليل وساحب ذيل، ينتحل انتحالا من كتب التاريخ من غير تحقيق ولا تدقيق، فينقل كثيرا من الأخبار المكذوبة، يظن بذلك أنه يحسن صنعا، وهو في حقيقة الأمر ممن يهدم في الأمة وتراثها وثوابتها من حيث لا يدري.

ومجمل الأمر؛ أني أعتقد أن على الدعاة إعادة قراءة التاريخ على نحو متوازن وبمنهجية سببية واستقصائية واعية، تصل بالإرث التاريخي لأعلى درجات الاستفادة وتقييم الذات، ويستخرجوا منه منهاجًا للحركة والفهم، يفيدها في مسيرة الأمة نهضتها واستشراف مستقبلها، حتى يعود للأمة مجدها وتستعيد مكانتها وعزتها أمام الأمم.

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات